PCP

يا عمال العالم اتحدوا

تولستوي .. هكذا تـُكتب الحياة

إنني أخاف موت تولستوي، فموته يُحدث فراغاً كبيراً في حياتي .. ومن شأن الأدب الروسي أن يتحوّل بفقده إلى قطيع من دون راع..». ــ تشيخوف ــ كتب تولستوي أثناء عمله في رواية «الحرب والسلام» أنه يرى المهمة الأساسية للإبداع الفني في «أن يجبر على صب الحياة، في جميع ظواهرها المتعددة، التي لا تنضب». إن تولستوي يعرض علينا الحياة في مؤلفاته، بتلك الغزارة المتعددة الجوانب، حتى أن غوركي يملك الحق الكامل في أن يقول إن: «تولستوي ــ عالم كامل». .. لقد أكد تولستوي أن الفن ضروري للحياة، لأنه «يكشف للناس عن أشياء جديدة» ويعلـّم الناس أن يروا، ويفهموا، ويشعروا .. وتكمن الميزة الرئيسية للفن الحقيقي ــ برأي تولستوي ــ في القدرة على عدوة القارئ والمستمع والمشاهد بتلك المشاعر التي عاشها الفنان نفسه. وقال تولستوي: إن على الإنسان البارد، واللا مبالي، والجاهل، وذلك الذي لم يعان من أي شيء، ألا يعمل في الفن أبداً. وبرأيه أن «النتاج الفني الأصيل ــ المـُعدي ــ لا ينتج إلا عندما يبحث الفنان»، ويجب على «النتاج أن يكون بحثاً». هذا ما كتبه تولستوي في يومياته. وقد نظر تولستوي إلى العمل الأدبي كما ينظر إلى العمل الذي «يتهيأ للعيش على أساس تلك الكلمات التي يقولها». وقال لإخوته في الكلمة: «لا يجب الكتابة إلا عندما تكون قادراً أن تخلف في المحبرة قطعة من لحمك في كل مرة تغمس فيها ريشتك». .. وسمى تولستوي اهتمامه، ولهفته للأحداث، والناس الذين يكتب عنهم، وكذلك اعتقاده بصحة أفكاره، التي يدافع عنها بـ «عصب الفن». وكان يعشق بكل قوى روحه «مادة عمله». وبرأي تولستوي: على الفنان أن «لا يدّخر جهداً في سبيل تجسيد أي مضمون في الشكل الأفضل». ويؤكد تولستوي أنه لا وجود لعمل فني حقيقي بدون فكرة ملهمة، صادقة، عميقة: «إنها خطيئة مرعبة ــ أن نعتقد أن الرائع يمكن أن يكون بلا معنى». وكان كل عمله موجهاً ضد هذه «الخطيئة المرعبة». وكان تورغينيف على حق عندما دعا تولستوي بـ «فنان الفكرة». ويعد تولستوي من أولئك الفنانين الذين يعبّرون بدقة عن علاقتهم مع ما يصورونه. ولهذا السبب يدوي صوت المؤلف في أعماله بهذه القوة، إذ لا يمكن أن يكون الفنان مراقباً، لا مبالياً بالأحداث التي يصورها. فنان يتعجب، يشغف، يفضح، يفرح ويحزن، ويجبر القارئ بكل قواه أن يعيش من جديد كل اختلاجات المشاعر التي تسيطر على البطل. إن الصور الفنية التي يقدمها لنا تولستوي تدهشنا بحيويتها، وينصح غوركي جميع الكتاب أن يتعلموا من تولستوي «مرونة النقش المدهش للأشياء»! ويضيف غوركي: «عندما تقرأه ــ أنا لا أبالغ، وأتحدث عن انطباعي الشخصي ــ يتكون لديك انطباع عن الواقع، والتكوين الفيزيولوجي لأبطاله، حتى تكاد تظن أنهم يقفون أمامك، ويريدون لمسك بأصابعهم، لهذه الدرجة، وبتلك المهارة، نقشت لوحاته الفنية». .. لقد أعطى تولستوي ما لم يعطه كاتب آخر من قبله، من الصور الفنية المرسومة والمتحركة والمتطورة للأحداث، والشخصيات الإنسانية الحية المعقدة والمتناقضة، ويتميز أسلوب تولستوي عن غيره، أنه لا يقدم وصفات تامة، نهائية لوجه الشخصيات. فيترك المجال لكي تتفتح لنا شخصية البطل، ووجهه الخارجي، وطبائعه مع الحركة المستمرة. فهو تدريجياً يكلم القارئ، كيف يتصرف البطل، وبماذا يفكر ويتحدث، وأي انطباع يحدثه عند الآخرين. .. إن تولستوي عالم نفسي كبير، أولع بوصف طريق التطور للحياة الروحية لأبطاله، وفي الكشف عن «ديالكتيكية الروح». يقول تولستوي: «إن الهدف الرئيسي للفن هو أن يقول وأن يُظهر الحقيقة عن روح الإنسان، أن يكشف عن تلك الأسرار التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات بسيطة .. الفن عبارة عن ميكروسكوب، يسلطه الفنان على روحه، ويعرض تلك الأسرار المشتركة مع الناس». لقد امتلك تولستوي بشكل مدهش فن الصفة للتحليل النفسي الدقيق، والقدرة على نزع الغطاء من أكثر الحركات للقلب البشري. لقد استخدم فنه الفائق «علم الإنسان» من أجل هدف واحد: أن يقول الحقيقة للناس، عن الحياة، وعن أنفسهم. ويرى تولستوي بوضوح، أن طبيعة الصفة الفنية والدرجات المتفاوتة في استقامة وصحة الصورة، تتعلق بـ: لمن يتوجه العمل الفني والأدبي. فعندما يتوجه الأديب والفنان إلى النخبة، أو القلة من «المقيمين» الذين يطالبون بالشكل الرقيق المرهف، يختلف كلياً عن الأديب الذي يتوجه إلى الملايين من الناس الذين يكـّونون حقاً «العالم الكبير الحقيقي»، حسب تعبير تولستوي. المحبب إليه، ويقدم البساطة والإيجاز والوضوح في نوعية المقاييس للأشكال الفنية الكاملة. وأشار تولستوي إلى أن إنتاج مثل هذه الأعمال المستجيبة لتلك المطالب ــ عمل شاق، ولا يستطيع فعل ذلك إلا «فنان عالمي». وكتب غوركي معبراً عن إعجابه بالموهبة الهائلة، وعن غنى شخصية تولستوي: «فيه شيء ما، يوقظ بداخلي الرغبة المستمرة، أن اصرخ بكل إنسان، بالجميع: انظروا، أي إنسان فريد يعيش على هذه الأرض». ,, وتنبأ لينين بأن مؤلفات تولستوي «ستظل تقدّر وتقرأ من قبل الجماهير، عندما يهيئون لأنفسهم الظروف الإنسانية للحياة، وبعد أن يزيلوا اضطهاد الملاكين والرأسماليين..». لقد كتب تولستوي في يومياته ربيع عام /1901/ وكأنه يتأمل الدرب الطويل الذي اجتازه، ويفكر بأهم شيء كان في أيامه وأعماله، فقال: «إن الأوقات السعيدة في حياتي، هي تلك الأوقات التي منحتها كاملة لخدمة الناس». وهكذا فإن الزمن غير قادر على محو أهمية الأعمال الفنية لهذا الإنسان الفريد، تلك الأعمال التي دخلت وإلى الأبد في الحياة الروحية للبشرية جمعاء. إعداد: فراس محمد


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني