PCP

يا عمال العالم اتحدوا

المنهج الواقعي في النقد والأدب " الممهدات والينابيع "

ظلت الشذرات التي خلفها ماركس وأنجلز حول الأدب والفن بعيدة عن الأضواء فترة طويلة بعد وفاتهما، وإذا كان من السهل على دارس الواقعية اليوم من داخل صفوفها أم من الخارج، أن يرى تلك الشذرات مجموعة ومدققة في صيغ عديدة، فإن هذا الكسب افتقد طويلاً، فيما كانت الضرورة إليه تتضاعف، إنه الكسب الذي لا غنى عنه، على الرغم من التوكيدات المكرورة، بأن ماركس وأنجلز لم يخلفا نظرية متكاملة في الأدب أو النقد أو الفن أو علم الجمال. لقد ضمت بصورة أساسية المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لماركس، ومقدمته لنقد الاقتصاد السياسي، العديد من الآراء، أو الانطباعات، أو المؤشرات، التي نجد نظيرها أيضاً لدى أنجلز في نقضه لدوهرينغ، في مراسلاته، في (الإيديولوجية الألمانية) هذا المؤلف الفريد الذي شاركه في وضعه ماركس، ومثله عملهما المشترك الآخر: البيان الشيوعي. وسط هذا الجزء المحدد اليسير من تراث ماركس وأنجلز، وفي سائر ذلك التراث، ثمة إشارات عديدة هامة مفتوحة على الواقعية في الأدب وفي النقد نتوخاها هنا: أ ــ للنقد فعالية كبرى، بمقدار ما يلعب دوره التاريخي المنوط به، ويرتبط في حقله الخاص من الصراع، بالمهام الثورية التي تجسد معاناة وتطلعات الطبقات الثورية في المجتمع. إن النقد سلاح، أجل، ولئن ألحّ ماركس على أن سلاح النقد لا يحل محل النقد المسلح ــ في سائر الميادين ــ وأن القوة المادية لا تقاوم إلا بالقوة المادية، فقد أردف ذلك بقوله أيضاً: «إن النظرية تغدو هي الأخرى قوة مادية حين تعتنقها الجماهير». ها هنا، نجد النقد الأدبي كجزء من النظرية، كنشاط إيديولوجي، وها هنا نبحث عن صلته بالجماهير الأمية والمتعلمة، الواعية أو المزورة الوعي، المتقدمة أو الهامدة أو المتراجعة، ها هنا يغيب الإنشاء، ويواجه النقد الأدبي ــ كسواه ــ حقل صراعه التاريخي، وتحضر بقوة دعوة روزا لوكسمبورغ إلى ربط النقد الأدبي بالصراع السياسي، بالمعنى التاريخي للكلمة. ب ــ التطور الفني والتطور الاجتماعي: لا يسير هذان التطوران متوازيين دوماً. إن القيمة الجمالية كما يذهب ماركس لا تتعلق مباشرة بمستوى القوة الإنتاجية. ألم يؤكد (رأس المال) عداء الرأسمالية للفن، دون أن ينكر أو يقلل من تطور الفن في عصرها؟ من ناحية أخرى، لا ينطوي التطور الفني دوماً على تقدم مطرد، والمبدعات العظيمة تحافظ على قيمتها أياً كانت سيرورة التطور الاجتماعي الذي يتلو إنتاجها ــ ظهورها. ج ــ الذاتية: في مواجهة التسليع والتتجير الرأسمالي والبرجوازي للفن والأدب، ذهب ماركس بعيداً في تقديره ذات المبدع. إن الإبداع غاية في ذاته، ولكن ليس على النحو الذي يريده النقد البرجوازي الشكلاني. الذاتية هنا هي انتزاع للإبداع من التسليع والتتجير، وبالمقابل هي دفع له على طريق مهماته الإنسانية والتاريخية. إن المبدع ــ يعبر ماركس ــ يخضع قبل كل شيء لحاجة ماسة داخلية. ولكن ــ مرة ثانية ــ ليس على النحو الذي يريده النقد البرجوازي الشكلاني. فالذاتية هنا تنفي أولاً دعوى (القولبة) التي ألصقت بالأدب وبالنقد الواقعيين، كما تنفي ثانياً (استمناء) البرج العاجي، والورم النرجسي المرضي للأدب البرجوازي (الحر، المسكين في حريته). د ــ المباشرة: من المفيد أن نظل نستذكر خطاب ماركس الشهير لـ لاسال: أقلل من الشيلرية، وأكثر من الشكسبيرية. إنه ــ وأنجلز معه ــ يدين مباشرة وسياسة لاسال الناتئة في مراسلات عديدة. ويلح أنجلز خاصة في إشارات حارة غزيرة، على أن يكون المحتوى الإيديولوجي للعمل الأدبي غير مباشر، ضمنياً، عميقاً ويقول: تعبر الروائع عن رأي في الوجود، وتترجم موقفاً ما حيال النظام الاجتماعي القائم، تترجم نقداً وأملاً واتجاهاً، يتولد من صلب العمل الفني، من كونه صورة للحقيقة، وليس للمؤلف أن يحشر نفسه كي يملي حكمه، فالوقائع التي يأتي بها العمل، لا تحتاج إلى سند خارجي. هـ ــ النمذجة: افترض أنجلز في الواقعية المقدرة على إظهار الصفات النموذجية المتولدة في ظروف نموذجية، دون أن يقلل ذلك من وزن (التفاصيل) في الأثر. وهذه النقطة تتصل مباشرة بما تركه ماركس وأنجلز في تراث بلزاك خاصة، مما بات معروفاً في الأوساط الأدبية. إن إشارات ماركس وأنجلز الهامة إلى تلبية الإبداع لحاجة التموضع لدى الإنسان، أي خلق غاية خاصة للإنسان، والكف عن كون الإبداع تلبية لحاجة محددة في المجتمع الطبقي من قبل الآخر (فرد / طبقة) ومواقفهما الشهيرة من الفن الأغريقي، من جوته، من شكسبير ... وسوى ذلك مما ينضاف إلى الشواهد السابقة، بما كان له في مرحلة تكونه، وبما غدا له خاصة فيما بعد، إن ذلك ليجعل الأرض التي يتحرك فيها النقد الأدبي، أشد صلابة، أكثر وضوحاً، أبعد آفاقاً. ــ الواقعية في النقد الأدبي الديمقراطي الروسي: في الوقت الذي كانت فيه شذرات ماركس وأنجلز هذه تأخذ طريقها للتداول في تلك المرحلة، كان النقد الأدبي الديمقراطي الروسي يغذ الخطى على درب الواقعية، ابتداء من المقدمات الأساسية التي وضعها بيلينسكي (1811 ــ 1848). إن مساهمات بيلينسكي، وتشرنشفسكي ودوبرليبوف وسواهم من النقاد الأدبيين الديمقراطيين الروس في القرن التاسع عشر، ظلت هي الأخرى ــ بعدما رأينا إشارات ماركس وأنجلز ــ غائبة عن ساحة الرؤية فترة غير قصيرة. ويعلل لوكاتشي هذا التغييب بسياسة النشر البرجوازية الأدبية. ويحتفي الناقد المجري الكبير بهؤلاء النقاد أيما احتفاء، حتى ليقول: «إذا كنا نريد للأدب أو للنقد الأدبي أن يرتفعا إلى مستوى المشكلات الكبرى للعصر، فإننا نستطيع، بل يجب علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن نتعلم الكثير من بيلينسكي وتشرنشفيسكي ودوبروليبوف». انصب الاهتمام بالنقد الأدبي الديمقراطي الروسي في البداية على زاوية الأساليب التي مارسها في تهريب الأفكار الثورية عبر قنوات الرقابة الرسمية. وقد لحقت بهذا النقد جراء ذلك خاصة، تلك التهمة البرجوازية الأثيرة في مقاومة الواقعية، وهي تغليب السياسة على الفن، ولئن كان في تراث ذلك النقد من الأساليب المذكورة ما يشكل وحده دروساً ثمينة أمام سائر النقاد وسائر المبدعين، في سائر الحالات المماثلة أو القريبة، فإن في هذا التراث سوى ذلك الكثير مما يستهدي به النقد الواقعي. لقد جاء بيلينسكي في البداية، ولئن كانت حياته قصيرة ــ إذ مات في السابعة والثلاثين ــ فلقد خلق أبرز الأسس التي نهض عليها علم الجمال الواقعي الروسي. وقد اشتهر بلنسكي بحدته وقسوته في النقد، وحرصه على كي الجرح، ورشه بالملح، كما يقال. كان بيلينسكي الذي تربى على مائدة الهيجلية قبل أن يبارحها إلى مادية فويرباخ، في طليعة من اكتشف الواقعيين الروس الطالعين خلال عهده القصير، دون أن تعشي بصره الهالات التي كانت تحيط بأدباء المرحلة. وقد عرفت المرحلة الأولى من مسيرة بلنسكي خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر بالمرحلة الهيجلية، أو كما كان بعضهم يسمي: الواقعية الهيجلية، وفي هذه المرحلة كان في سياق محاولته انتزاع الأدب من سيطرة علـّية القوم يؤكد أن لا هدف للأدب خارج ذاته، ثم شرع يتكلم عن الأدب المثالي والأدب الواقعي وهو يغذ الخطى نحو مرحلته الثانية في أربعينات القرن التاسع عشر، وباتجاه الفكر المادي. ثمـّن بيلينسكي العنصر الفكري في الفن كثيراً، وشبه الفن بلا فكرة بالإنسان بلا روح، ونفى أن يكون الفن مسرحاً للصور الجمالية دونما هدف. وكان هذا الناقد يلح على الطبيعة الاجتماعية والمهام الاجتماعية للفن، فالفن لا يولد خارج الحياة الواقعية، والفن تحليل للمجتمع، ومن هنا جاءت معادلته النقدية ذات الحدين: النقد التاريخي يكمل الجمالي والعكس صحيح، ولا غنى لأحدهما عن الآخر. ولعله لا زال في دستور بيلينسكي الجمالي الشهير ما يشع حتى اليوم: ــ «الشاعر يفكر بالصور». ــ «الشاعر يبين عن الحقيقة، لا يبرهن عليها». ــ «الشاعر لا يجمل الواقع». ــ «الشاعر يصف الناس كما هم». ــ «التطابق بين الشكل والفكرة شرط أولي للفن. لا فن دون وحدة الفكرة، ودون وحدة الشكل، ودون وحدة هاتين الوحدتين. والفكرة الناقصة تولد صورة ناقصة». لقد تابع النقاد الأدبيون الديمقراطيون الروس تثمين بيلينسكي للفكرة في الفن، وما يترتب على ذلك، كما تابعوا قوله بالطبيعة الاجتماعية والمهام الاجتماعية للفن، وطوروا ما وصل إليه وأنضجوه، وكانت تتوازى مع مسيرتهم في أقطار أوروبية أخرى مسيرات مماثلة. إن الأدب في مجمل القول لدى هؤلاء النقاد هو إنتاج الصراع الاجتماعي، وهو مرآة الواقع ــ بمعنى إعادة إنتاجه فنياً ويكمل ذلك رؤية استقلالية الحقل الأدبي وخصوصيته إعادة ليس كانعزالية، بل ككيان محدد، ووظيفة محددة في العملية الاجتماعية. ــ النهوض: منذ قيام ثور أكتوبر 1917، بدأ النقد الأدبي (الواقعي) يرتبط بالماركسية بنسب عالية. ولقد احتلت واجهة هذا النقد حتى منتصف القرن الماضي تقريباً التجربة السوفييتية. ثم راحت المبادئ المتخلصة من التراث القديم (ماركس وأنجلز والنقد الأدبي السوفييتي) ... راحت تلك المبادئ تغتني وتتطور بالإضافات والجديد (لينين والنقد الاشتراكي والغربي والآسيوي والأفريقي والأمريكي. إن هذه العملية النقدية الجارية منذ ما ينوف على نصف قرن ماتفتأ تتصاعد، حتى أنها باتت تجعل من الجدارة بمكان تصور مستقبل جديد للواقعية في القرن الحادي والعشرين. وهكذا نجد أن الواقعية ارتسمت رويداً رويداً كمنهج من خلال تحليل إنتاج قدمه تولستوي كما قدمه غوركي، قدمه بوشكين كما قدمه نيرودا. وثمة من عاد إلى شكسبير أو ماركيز ليقرأ في نتاجهما ترسيمات الواقعية، لا ليفصل ذلك الإنتاج على قدها. الإنتاج المتنوع والمتباعد زمانياً ومكانياً وأهمية، هو الذي استدعى إذن حديث الواقعية وطوره، والنقد الذي اشتغل ويشتغل على هذا الإنتاج. ومن بداياته في عالمنا العربي نتاجات رئيف خوري وعمر فاخوري وسليم خياطة وحسين مروة ومحمود أمين العالم ومحمد مندور مما يؤهل للحديث عن المنهج الماركسي في النقد الأدبي العربي مما يجعل الواقعية أكثر اطمئناناً إلى صلابة الأرض التي تتحرك فيها، وإلى وضوح معالمها، وآفاقها. تامر سفر


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني