PCP

يا عمال العالم اتحدوا

الثورات العربية و الغياب التاريخي للبرجوازية

سقط محمد مرسي، وسقط معه تابو النموذج الأخواني، تعطل الأفيون في موقع السلطة، عندما آن الأوان لدفع الشيكات المؤجلة، وتلبية الوعود التي كانت تهبط على الناس من السماء عندما كان الأخوان في موقع "المعارضة". فرح الجميع، العلمانيون واليساريون والقوميون والليبراليون، وفلول النظام السابق فرحت كذلك. أن تفرح كل هذه المتناقضات معاً دليل واضح على أن صيرورة الثورة مستمرة، ولذلك شروط ذاتية وموضوعية لا بد لنا أن نعيها جيداً. الإشكالية التاريخية، غياب البرجوازية بعد الاستعمار المباشر قلنا سابقاً أن الانتفاضات العربية تمتلك خصوصية تاريخية، فهي لا تشبه الثورات البرجوازية الأوروبية على الإقطاع في فرنسا وانجلترا. في سياق الثورات الأوروبية كانت هناك طبقة تشكلت، أصبحت قوة لا يمكن استبعادها من نمط الإنتاج، وقدمت نموذجاً أكثر تحرراً للناس في صياغتها لعلاقات الإنتاج الجديدة التي حلت مكان علاقات الإنتاج في الإقطاع. كانت تلك الثورات انفجاراً لم يكن من الممكن أبداً تجاوزه، فعلاقات الإنتاج في المجتمع الإقطاعي انفجرت من الداخل في سياق تشكل و ظهور البرجوازية. البرجوازية الأوروبية التي قدمت لمحتمعاتها تنظيماً جديداً، تضمن أرقى الفنون والآداب والتطورات العلمية، صاغت عقداً اجتماعياً مع الطبقة العاملة، تمكنت فيه (الطبقة العاملة) من تحقيق مكتسبات عجزت البرجوازية (وتحديداً النسخة التاريخية الثانية منها)، عن انتزاعها بشكل كامل. هذه البرجوازية التي خاضت مشروعها الضخم في أوروبا، هي ذاتها التي توجهت إلى الشرق في سياق توسعها. هنا على أرضنا في الشرق، لم يكن هناك ثورات برجوازية ضد إقطاع، ولربما تشكل هذه المرحلة وما تلاها مربط الفرس التاريخي في إشكاليات التشوه البنيوي للمجتمعات العربية. واجه الاستعمار الغربي لأرضنا مقاومة شعبية شرسة، كان الفلاحون والكادحون وقودها الحقيقي. وظهرت في المراحل الأخيرة من الاستعمار المباشر قئة “مثقفة” (عملت تاريخياً على تحويل الاستعمار المباشر إلى استعمار غير مباشر)، استفزت في مواضع كثيرة الشعور القومي، وأوهمت الناس بتبنيه حقيقة، على الرغم من تطورها الواضح كوسموبوليتياً ( لم تكن هذه البرجوازية الفقيرة والكسولة لتحمل مشروعاً نهضوياُ إنتاجياً وقومياً). لم يكن من أبناء هذه البرجوازية رجال صناعة، ولم تكن متجهة أساساً نحو الإنتاج والإنجاز والعمل وإنما متجهة نحو الوساطة، كانت تراهن على تحقيق مكاسبها من خلال العودة إلى الدولة الاستعمارية القديمة، كانت تطمح أن تحل مكانها فقط، أو بالأحرى أن تساعدها في تطوير شكل استعمارها من خلال لعب دور الوكيل. في ظل عجز هذه البرجوازية، وغياب إرادتها، كانت تجعل من الحرف البسيطة دليلاً على العزة القومية محاولة بذلك تغطية العجز الصناعي، تستمر في إطلاق خطاباتها بأنها أنجزت المشروع التاريخي في طرد الاستعمار، ولا تتحدث سوى عن الماضي (الماضوية تصبح هنا جزء من خطاب الهيمنة وتجميد الواقع). حتى المسلسلات التلفزيونية ومشاهد ذكرى الاستقلال كلها تدور حول هذه الفترة من الزمن كلحظة مجمدة من التاريخ ولا شيء بعدها. إن البرجوازية العربية التي أسمت نفسها وطنية لم تفعل شيئاً سوى أنها حلت بديلاً عن ممثلي الاستعمار المباشر وتحديداً في مكاتب الأعمال والتجارة، لم تمتلك النزق والاندفاع الكافيين لقيادة مشروع إنتاجي قومي، لقد دخلت التاريخ كهلة وشائخة، إن بدايات هذه البرجوازية كما وصفها فرانز فانون في “معذبو الأرض” تشبه نهايات البرجوازية الغربية في وحشيتها وشبقها اللانهائي للمال. لقد بنت هذه البرجوازية الأبراج في بلدانها دون أن تمتلك لا المال ولا التخطيط الخاص بها ولا القوى المنتجة الأساسية، لقد وضعت مشهد الحداثة أمام جمهورها لتعلن عن ريادتها للمجتمع، بنت المنتجعات المرفهة والبنايات الضخمة لتسكن فيها هي و موجهتها من الدولة الاستعمارية القديمة، وقدمت كل ذلك على أنه تطوير في “قطاع إقتصادي مهم” ألا وهو السياحة، لقد جعلت من السياحة وكأنها صناعة ! وتزاحم الكثيرون ومنهم “منظرو اليسار” للأسف للدفاع عن السياحة باعتبارها قطاعاً اقتصاديا مهماً. لقد اعتلت هذه البرجوازية المفلسة سدة الحكم في الدول العربية ردحاً طويلاً من الزمن، ومع شكلها الذي تأسست عليه استمرت مع إملاءات المستعمر، فمن الشركات البريطانية والفرنسية الكبرى إلى صندوق النقد والبنك الدوليين إلى منظمات المجتمع المدني إلى مختلف أدوات الهيمنة الرأسمالية الجديدة. وفي السياق ذاته لم تنسَ الامبريالية العالمية أن تجدد نسخ البرجوازية المفلسة، وكانت جماعات الأخوان المسلمين أهمها على الإطلاق، وقد بقيت جماعات الأخوان المسلمين نسخاً غير مجربة إلى أن جاءت الانتفاضات العربية. الأخوان، النسخة غير المجربة للبرجوازية المفلسة لقد جرى تعميم أدبيات هذه النسخة عربياً، فخير الدين التونسي الذي يعتبره الكثيرون “إسلامياً متنوراً”، وضع في كتابه ( أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) أساساً للنسخة سابقة الذكر، وفي مصر كذلك الحال مع حسن البنا. صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وتونس أعطى مجموعة من الإشارات بات معظمها معروفاً تماماً للناس: عند وصول الإسلاميين إلى السلطة لعبوا الدور ذاته (البرجوازية المفلسة)، فهم لم يقدموا معطىً جديداً على أي من الصعد، فعلى الصعيد الاقتصادي استمروا بالنهج ذاته للأنظمة السابقة، وعلى الصعيد السياسي حافظوا على التحالفات السياسية ذاتها، وحتى اجتماعياً لم يكن بالإمكان تعميم نموذج اجتماعي إسلامي (بالمعنى النصي للكلمة) نظراً لرفض هذا النموذج (الذي تخطاه الواقع عملياً) حتى من عدد كبير من أنصارهم. قد يقول قائل: أعطوهم فرصة، لا يمكن عكس نتائج التاريخ بهذه السرعة القياسية. نعم إن الواقع العربي بحاجة إلى قيادة تعطي نتائج سريعة (حتى لو لم تكن نهائية)، وهذا لا يتحقق إلا بخطوات راديكالية ليس الأخوان المسلمون أبداً من يجرؤ عليها أو يرغب بها حتى. فالتأميم، وتغيير قوانين الاستثمار (بالحد الأدنى)، وتغيير بنى التعليم لصالح الإنتاج، وتغيير وجهة التحالفات السياسية، كلها خطوات لم يرَ الناس بوادر لها، وهذا كان كافيا لالتقاط وجهة الأخوان… فكانت النهاية السريعة معقولة ومقبولة. مالعمل؟ لقد انطلقت الانتفاضات العربية في ظل خيارات متعددة للبرجوازية المفلسة، الأنظمة، فلول الأنظمة، الأخوان، التيارات الليبرالية الأخرى، بعض التيارات التي تروج الخطاب القومي بطريقة تشبه المراحل الأخيرة من الاستعمار المباشر. لا يوجد في بلادنا برجوازية تشبه البرجوازية الأوروبية، هذا واقع، ونتاج صيرورة تاريخية ندركها، ليس المطلوب منا أن نعيد التاريخ لننتجها، فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا على شكل مهزلة.. المهمات البرجوازية في الواقع العربي ملحة دون وجود للبرجوازية كطبقة، أو على الأقل كطبقة غير مفلسة. من هنا تأتي راهنية الحاجة لنظام يؤدي المهمات التاريخية للبرجوازية دون وجودها، وهذا النظام بالتأكيد لن يكون البرادعي ولا مرسي في مصر، كما أنه لن يكون الغنوشي في تونس. الانتفاضات ستبقى مشتعلة إلى أن يتم تعويض الخلل التاريخي إبان الاستعمار المباشر وخلال الاستعمار غير المباشر، هذه هي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة في ظل ظروف بهذا التعقيد، وهذا العنوان العريض له الكثير من التفاصيل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية منها: تجاوز ديمقراطية صناديق الاقتراع إلى الديمقراطية الشعبية القائمة على أساس المشاركة الشعبية الدائمة، على غرار ما جرى في فنزويلا عندما أسس هوغو تشافيز اللجان الشعبية المتعددة التي تتبنى مهمات محددة وتتواصل مباشرة مع الجهات الحكومية لتنفيذها. تجاوز الخطاب القومي العاطفي إلى خطاب قومي مجدٍ، لا معنى للقومية دون المكتسبات للناس، حالها حال الدين الذي فقد سحره على منصة خطابات الرئيس المخلوع شعبياً محمد مرسي. تجربة عبدالناصر مثلت حالة من هذا الخطاب النوعي الذي حافظ على الأساس القومي للتذكير الدائم بمعالم المرحلة “التحرر القومي”، وامتلك نزعات يسارية حادة فيما يتعلق بالتأميم والرعاية الاجتماعية وحقوق الفلاحين. تغيير خارطة التحالفات السياسية، وتدعيم العلاقة مع المحور الجنوبي، اقتصادياً بالدرجة الأولى على المستويين “الموارد والتصنيع”، ولا بد أن يتزامن ذلك بخطة إلزامية تحدثنا عنها في العدد السابق تتعلق بشكل العلاقة مع محور البريكس (فنزويلا والبرازيل، في “أصولية” التجربتين) ما يجري في مصر، وما يجري في تونس، يعلن عن أفول سريع للنموذج الأخواني، النسخة التي أصبحت الآن مجربة للبرجوازية المفلسة. الامبريالية العالمية تستنزف خياراتها من صنوف هذه البرجوازية، وإن لم يتدارك اليسار نفسه في الوقت المناسب “الضرورة التاريخية” لن يكون هناك من بديل إلا النسخ الجديدة أو الدمار. محمد فرج.


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني