رحيل شافيز.. الثوري الحقيقي
قد يستطيع الموت أن ينهي حياة هوغو شافيز، لكنه عاجز تماما عن أن يمحي دوره التاريخي من ذاكرة الشعوب، فالرئيس الفنزويلي الذي رحل بعد صراع مرير مع المرض، ارتقى ليتحول إلى أيقونة للمقاومة ممتدة بكل مفرداتها ورموزها إلى خارج الحدود اللاتينية، فهو المناضل الأممي والثائر الحقيقي الذي لم يخطئ البوصلة بانحيازه لأبناء شعبه متحدياً أمريكا وحلفائها، لا بالموقف السياسي الصلب فحسب، بل بإنجازات اجتماعية واقتصادية حقيقية خلال فترات تسلمه الرئاسة في بلاده.
شافيز رئيساً لفنزويلا:
جاءت الثورة البوليفارية في فنزويلا التي أعلن عنها شافيز منذ انتخابه لأول مرة في عام 1998 بعناوينها الرئيسية المتمثلة بالسيادة الوطنية، التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، لتكون ثورة ضد برامج «التصحيح» الاقتصادي التي فرضت على فنزويلا، ضد خصخصة القطاع العام وبيعه للأجانب بأبخس الأثمان، ضد تغول الشركات عابرة الحدود وضد الفنزويليين المتعاونين معها على المجتمع باسم تحرير السوق والتجارة، ضد تهميش الفقراء اقتصادياً وسحق الطبقة الوسطى.
استطاعت حكومته أن تدفع بالقطاعات الإنتاجية الرئيسة إلى الأمام وتحديداً الصناعة والزراعة، ازداد الإنتاج في القطاعات غير النفطية ووصلت صادراتها إلى نسب لم تعرفها فنزويلا من قبل، كذلك أحدثت تقدماً في مجال مكافحة الفقر والأمية ومؤشرات أخرى لا حصر لها للتقدم الاجتماعي. حسب الأرقام، وبالمقارنة بين عامي 1999 وعام 2011 فإن معدل البطالة انخفض من 14.5% إلى 7.6%، معدل الفقر المدقع انخفض أيضاً من 23.4% إلى 8.5%، نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 4.105$ إلى 10.810$، وارتفعت الصادرات النفطية من $14.4bn إلى 60bn$، أكثر من سبعون بالمائة من الشعب الفنزويلي أصبح يتلقى العناية الصحية الشاملة بما فيها الدواء لأول مرة.
ومن أهم الانجازات التي تحققت في عهد شافيز إصدار قانون النفط والغاز لعام 2001 وتأميم صناعة الطاقة، حيث استطاع ممارسة السيادة الوطنية على الموارد الطبيعية مقدماً نموذجاً لمشروع تنموي وطني حقيقي.
إن تحقيق معدلات كهذه بفترة زمنية قصيرة نسبياً يعتبر إنجازاً حقيقياً ومهماً، مع العلم أنها قد حدثت في ظل محاولات مستميتة من القوى الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها واشنطن لإفشال هذا النموذج مستخدمة جميع الوسائل بما فيها الانقلاب العسكري ونشر الأكاذيب الإعلامية بشكل مستمر.
وفي هذا السياق سعى الكتاب المناهضون لفكرة وجود طريق اقتصادي آخر غير طريق الليبرالية الجديدة لأن يعزوا نجاح التجربة الفنزويلية لتوفر النفط بكثرة فيها، وهم يقولون إن تجربة فنزويلا الاقتصادية الناجحة في ظل شافيز لا تعني العالم الثالث بشيء لأنها تجربة فاشلة، حسب زعمهم، لولا توافر النفط. والحقيقة أن مثل هذا الإدعاء يصدر عن اعتبارات أيديولوجية ترتبط بخوف الليبراليين الجدد من نموذج اقتصادي بديل بدأ يثبت نجاحه على الأرض، مما يمثل خطراً حقيقياً على النموذج الليبرالي الذي تحاول واشنطن والمؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أن تسوقه لشعوب العالم عامة، والثالث خاصةً، باعتباره النموذج الوحيد القابل للحياة بعد انهيار النموذج السوفييتي.
فالوقائع تقول إن ثلثي الشعب الفنزويلي، عندما وصل شافيز للحكم كان يعيش تحت خط الفقر، فإذا كان النفط قد لعب دوراً في تحسين معيشة الفنزويليين اليوم بالرغم من وجوده سابقاً، فما ذلك إلا لأن شافيز بدأ ينفق عائداته على شعبه ومشروعه التنموي، بدلاً من ذهاب عائداته لطغمة حاكمة فاسدة وشركات عابرة للحدود، وهذا الاستنتاج قابل للتعميم خارج حدود فنزويلا.
شافيز المناضل الأممي
أدرك شافيز أن توحيد طاقات أمريكا الجنوبية سيشكل أكبر تحدي في وجه محاولات هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها، فشارك في قيادة التحول للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية لتصبح دولاً مستقلة قادرة على إدارة شؤونها الخاصة، وإنشاء منظمات تعاون إقليمي مثل (الألبا) وجماعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (سيلاك)، التي أرست منطق السيادة الوطنية والسيطرة على الموارد، مما أثار غضب الامبريالية الأمريكية، وخاصة لاستخدام التحالفات المذكورة في تعزيز التنمية الاقتصادية المستقلة بعيداً عن سلاح التمويل الذي يفرضه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وفي أمثلة أخرى أعلن شافيز دعمه للقضية الفلسطينية بشكل مستمر قاطعاً علاقات بلده بشكل كامل مع الكيان الصهيوني عقب عدوانه على غزة، بالإضافة إلى سعيه لبناء علاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع الصين وروسيا وإيران وكوبا ودول أخرى، وهذا كله وضع شافيز موضع العدو بالنسبة للامبرياليين.
رحل شافيز وبرحيله سيسعى أعداؤه جاهدين لاستعادة ماخسروه، مما يضع القوى الوطنية اليوم في الدول اللاتينية في موقع المسؤولية للحفاظ على المكاسب التي تحققت في عهده، ويستدعي أيضاً من الوطنيين والشرفاء في جميع أنحاء العالم الأخذ بمشروعه التنموي الوطني التحرري، الذي سيبقى حياً ما بقيت الرأسمالية.. بل وسيزداد عمقاً واتساعاً في ظل انفتاح الأفق أمام الشعوب وانسداده أمام الرأسمالية المأزومة..