PCP

يا عمال العالم اتحدوا

الموسيقا الجادة والرقي الحضاري

ما دفعني لكتابة هذه الكلمات هو مقالة الأستاذ صادق فرعون في مجلة «المعرفة» وهو بعنوان: «دعوة إلى الموسيقا الكلاسيكية» ويحمل المقال الكثير من المعاني وفيه الكثير من العاطفة والتذوق الموسيقي الرفيع ولا أخفي مشاعري وتعلقي بهذا النوع من الموسيقا منذ أن كنت طالباً في المعهد العالي للهندسة المدنية في مدينة صوفيا عاصمة جمهورية بلغاريا الشعبية، وبالفعل كنت مواظباً باستمرار إذ كانت تقدم الدار كل يوم جمعة «نوفابريميرا» أي عرض جديد لأشهر الفرق الأوبرالية والسيمفونية في العالم، وهكذا كان لي الفرصة لأشاهد «كارمن» و «عايدة» و «دون كيشوت» و «جيزيل» و «بحيرة البجع» وغيرها من عروض لفرق استعراضية أخرى تدخل في الأوبريت، وكنت أشجع الكثير من الصديقات والأصدقاء وأقنعهم بالذهاب معي إلى هنالك، حيث تقدم الموسيقا الراقية التي تنشد الكمال ولها جمالية خاصة، ووقع خاص في النفس، وأنا أقول لا يمكن للنفس البشرية أن تتخلص من وحشيتها وتشذب غرائزها وتصقلها إلا بالموسيقا .. والموسيقا ذات الهدف والمضمون والشكل الجيدين وهذا ما تعبر عنها مؤلفات كبار الموسيقيين العالميين. ولا زلت أذكر إحدى هذه الأمسيات الرائعة وكانت لأوبرا «عايدة» وقد استضافت دار الأوبرا في صوفيا أستاذة مصرية مع زوجها يعملان كمدرسين في «الفلهورمنيا» في إيطاليا. اللذين أديا أداءً رائعاً، وصفق لهم الحضور كثيراً وعندما هممت بالخروج وإذ بصديقة روسية قديمة تدعى «سفيتلانا» كنت أناديها الأخت سفيتلانا وهي تعمل مترجمة من وإلى العربية وتتقن الروسية والبلغارية بالإضافة إلى الإنكليزية في إحدى المستشفيات الحكومية والتي لها علاقة مع الأجانب، وكنت قد تعرفت عليها بحكم المصادفة أثناء استقبالي لأحد المرضى من سورية ذهب للعلاج هناك. وبادرتني بالسؤال فوراً وبدون مقدمات مبدية استغرابها لحضوري في الدار «ماذا تفعل هنا»؟ قلت لها كما ترين مع صديقتي أشاهد أوبرا «عايدة» والتي لها علاقة بالشرق والتي وضعت خصيصاً لافتتاح قناة السويس، وهي الأجمل في تاريخ الموسيقا ــ فأجابتني على الفور ــ للشباب العربي في صوفيا اهتمامات أخرى ولكن ليس الموسيقا وفي دار الأوبرا، أنا أحضر إلى هنا منذ عشرين عاماً تقريباً وابني يدرس آلة الكمان ويعزف مع الفرقة السيمقونية ولكني لم أشاهد أحداً من الطلبة العرب في دار الأوبرا، وهنا تضايقت صديقتي «ايسكرا» وامتعضت قليلاً وقلت لها لنتحدث قليلاً على فنجان قهوة، وبالفعل ذهبنا إلى أقرب «كافينه» وقلت لها يا سيدتي مع أنك تعرفين العربية ولكنك نسيت أن تقرأي كثيراً عن حضارتنا وثقافتنا، ومن الباب العريض لقد سرقتم هذه الموسيقا من تراثنا الحضاري كما سرقتم موسيقا الراب والديسكو من الأدغال الأفريقية أثناء الاستعمار الأوروبي لأفريقيا والتي ما زالت تعاني منها وتابعت قائلاً إني انتمي إلى الحضارة الآرامية وابنتها الحضارة السريانية القديمة ولا نزال نرتـّل إلى الوقت الحاضر أشعار وألحان مار أفرام السرياني (الذي نحتفل بذكرى ميلاده /1700/ سنة ضمن احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية) فإن لألحانه التي فاقت الألف لحن على مختلف الأوزان مازلنا نرتل فيها في ناحية «صدد» (64) لحناً مختلفاً وهي على الأوزان الأساسية الثمانية وتقابلها «8 منها» حيث ينقسم المرتلون إلى جوقتين وترافقهم جوقة من المرتلات الإناث ويراعى أثناء الأداء الانخفاض التدريجي لكلا المجموعات الثلاث بالإضافة إلى الألحان الأخرى التي أصبح يعرفها القليل وهي تحتاج إلى تفتيش وتمحيص و «نبش» من الكتب والمخططات القديمة ومن بعض الآباء والشمامسة الذين ما يزالون يحفظونها عن ظهر قلب. وهنا قاطعتني قائلة: إنني لأول مرة في حياتي أسمع بهذا الكلام ولا أعرف أنني أمام شخص ممثلاً للحضارة السورية السريانية القديمة، وقلت لها نعم، ويتراءى لكم دائماً بأننا أقل حضارة وثقافة منكم، نحن يا سيدتي إذا لم نكن منبع الكتابة الأولى والتحضر الأول للإنسان ومعرفته للزراعة والقمح وبلاد الأغاني الأولى فقد كانت بابل قديماً كما هي باريس اليوم تعد من السكان نصف مليون وتتحدد منها الموضة والموسيقا وتعج بمختلف أنواع الثقافة الأخرى، سكتت محدثتي هنا وابتسمت ابتسامة عريضة تعبيراً عن الرضى. مقالة الأستاذ صادق فرعون هامة جداً وهي دعوة جريئة للتعرف على ما أنجزه الغرب لتطوير موسيقانا وألحاننا والتي توجد فيها النفحة والزفير الشرقي وخصوصاً الموسيقا الرومنطقية الإسبانية والموسيقا الكلاسيكية الروسية ومن بعدها المبدعين النمساويين والألمان والطليان والفرنسيين ويمكن أن يلعب دوراً كبيراً في ذلك عاملان اثنان ــ التربية الموسيقية والمدارس والمعاهد والجامعات، لا أن نهرب من حصة الموسيقا والرسم وغيرها والتي تحتاج إلى تجهيزات وتفعيل أساتذة الموسيقا فيها، وكذلك قيام بحملة وطنية لدعم البرامج ودور العرض والمعاهد، كما يجب إعداد جيل جديد متكامل رغم كل الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي يتعرض لها شباب المنطقة وشعوبها بشكل عام وحقاً بشيء من الحزن والأسى والألم أن نشاهد رغم كل المساعي المبذولة أن نتحدث عن محو الأمية والتسرب من المدارس والفن السوقي والرخيص وأن تجتاحنا الأغاني الهابطة ذات النزعة الاستهلاكية لتدمر آخر قلاعنا وهي اقوى من اجتياح الدبابات والطائرات، وهي الحصن الأخير للثقافة الوطنية والعالمية الراقية. لجيل سوف يبني المستقبل الأفضل. ويمكن أن تلعب دار الأوبرا الحديثة والتي تحتفل هذا الشهر بعيد ميلادها الثاني دوراً كبيراً في تقديم هذا الفن الراقي وهي تبذل جهوداً مشكورة في هذا المجال ونأمل أن يكون لها فرقتها السيمفونية الخاصة بها وأن تسرع بالانطلاقة نحو تأسيس فرقة عروض وطنية أوبرالية قادرة على أداء وتمثيل مختلف الأوبرات التي تحدث عنها الأستاذ صادق فرعون «فيردي وبوتشني» ــ الهولندي اوكاتر وكهف فانفال وكارمن وعايدة وبحيرة البجع وغيرها وخصوصاً أن الدار تملك الإمكانيات وهي تحتاج إلى القليل من الدعم والتفكير بمصادر تمويل لتقديم هذا الفن الراقي. ولا أنكر بأنني أرتاد دار الأسد للثقافة والفنون «الأوبرا» منذ افتتاحها فهي الثانية في الوطن العربي ومن أجمل دور العرض في العالم ويمكن أن تتحول كمعهد متكامل من البحث والتأليف والأداء والعرض في تقديم موسيقانا العربية والتراثية لتصبح عالمية لأن الموسيقا هي لغة كل البشر والعالم يمكن أن نخترق بها الحدود في مواجهة همجية هذا العالم الموحش وما يريده لمنطقتنا وشعوبنا ذات الإرث الحضاري والثقافي الفني ــ الأستاذ صادق فرعون تحية لك في آفاق المعرفة وأتمنى أن تلقى دعوانا المشتركة استجابة سريعة. م. نايل الحي


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني