قضية العرب المركزية ـ إلى أين
"آلان فراشون"، كاتب مرموق في الـ "لومند" كتب بتاريخ 16/10/2012 مقالاً بعنوان "كأن الصراع العربي الفلسطيني لم يعد موجوداً" اللافت أن المتساءل ليس فلسطينياً أولاً ولا هو عربياً ثانياً، يعني ليس هو من أصحاب القضية المركزية ومع ذلك سبق كل العرب في التنبيه على أن الصراع العربي الاسرائيلي يبدو وكأنه غير موجود، بل ويقرر بأنه قد طرح من سياق الأحداث الدولية ولم يعد يتصدر الصفحات الأولى من الصحافة. وأصبحت نشرات الأخبار التلفزيونية تتجاهله، لقد اختفى ووضع في خانة الأخبار الثانوية، إذا لم نقل أنه قد طوي نهائياً، وهذا ليس نذير خير بالتأكيد، ثم يستشهد على ذلك بعدة وقائع منها: في عام 2011 حاول الرئيس عباس العودة للأجندة الدبلوماسيه فإعلن نيته طرح اعتراف الأمم المتحدة بالخطوط العريضة لرسم حدود الدولة الفلسطينية، لكن الدول العظمى عملت بسرية على ضرب هذه المبادرة لأنها على الأقل حذبت الانتباه للصراع القائم .
في عام 2012 عاد الرئيس ليعلن المطالبة بدولة غير عضو، ولن تكون ردة فعل الدول العظمى مختلفة كثيرا عن سابقاتها، ويوماً بعد يوم يتراجع كثيراً ـ محلياً واقليميا ودولياً شعار حل الدولتين فعندما تحدث الرئيس وأسهب وأطنب قائلا أن استمرار بناء المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية يضعف كل يوم أكثر فأكثر الحل الذي تدافع عنه الأمم المتحدة وروسيا والصين وحتى أوروبا، تحدث في المقابل ـ نتنياهو في أقل من تسعة أسطر عن قضية السلام مع الفلسطينين، ومن جهتهما أشار أوباما والمتحدث الروسي وزير الخارجية لافروف إلى القضية الفلسطينية إشارة عابرة وكأنها طقس من الطقوس المعتادة وصيغة من صيغ المجاملة في الجمعية العامة وهكذا يبدو أن الدول العظمى تنسحب من اللعبة، وليس في الأفق من احتمال واحد للعودة لمفاوضات جادة وهذا ما أصبح يسمى بالطريق المسدود.
في الماضي كان يجري الحديث عن مركزية النزاع الاسرائيلي الفلسطيني، وكان يجب أن يكون هذا النزاع في قلب أي حراك في الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن هذه المركزية قد تزحزحت عن مكانها أولاً لدى أصحابها وثانياً لدى الأصدقاء والمناصرين ففي أعقاب "الربيع العربي" أصبح خط الصراع الأعظم الذي هز الشرق الأوسط وأدى إلى سفك دماء ينشط في أمكنة أخرى عن طريق إثارة تعارض بين الفرع الغالب في الاسلام أي الاسلام السني وبين فرع الأقلية وهو الاسلام الشيعي، وهذا التعارض هو الذي يفسر الحرب الأهلية العراقية التي تسبب فيها الغزو الأمريكي لهذا البلد، وأسفر عن عشرات الآلاف من القتلى ما بين أعوام 2003 و2011 والاشتباكات لا زالت متواصلة، وجعل من سورية بسبب المؤامرة الدولية التي تكشفت كل أطرافها وتعرت مكوناتها العربية الرجعية والعميلة جعل منها ميداناً أوسع لمعركة أشرس وأكثر خطورة على مستقبل كل ما كان يسمى بالقضية المركزية للعرب ومع هذه الصدمات الكبرى، بات "الدمل" الإسرائيلي الفلسطيني مرضاً هيناً ليس في نظر الغرب وأتباعه بل وفي نظر أعين أعراب كثيرين منهم من زار غزة ومنهم من يتأهب لزيارتها منتظراً ردة فعل الزيارة التي قام بها أمير قطر وحرمه.
كل هذا يجري والقيادة الرسمية الفلسطينية والتي يفترض فيها أن تكون الأكثر تنبهاً لما آلت إليه قضيتها التي ينبغي أن تمثل عصب مشروعها الوطني التحرري، لا تعير أي اهتمام لمقومات هذا المشروع وبالأساس تقوية الشعور العام الرافض للإحتلال المعادي لكل أشكاله المقاوم وليس فقط للتطبيع معه، وإنما الرافض والمقاوم لكل ما من شأنه أن ينسي هذه الجماهير سوءات الاحتلال وجرائمه.
إن مزاجاً غريباً ومنافياً لكل متطلبات الصمود والتصدي، لكل متطلبات بناء مقاومة حقيقية وكره للإحتلال ورفض فعلي وعملي لكل مخرجاته بات يظهر على شريحة مهمة من شعبنا، أقصد قطاع الشباب الذي هو دائماً مفجر الثورات ووقودها، إن المتجول في شوارع معينة من مدننا الرئيسية (رام الله، نابلس، طولكرم، جنين، قلقيلية،...الخ من مدن الضفة) يصدمه أولاً عديد السيارات الفارهة التي يقودها شبان يقلدون في تصرفاتهم بعض شباب دول الخليج النفطية ولا ترى مثيلا لها إلا لديهم ثم الجموع الهائلة من رواد مدن الملاهي التي باتت تزخر بها غالبية المدن الفلسطينية، والاكتظاظ اللافت وحتى أوقات متأخرة من الليل أمام محال معينة للمرطبات والمشروبات والوجبات السريعة ـ بعضها يحتاج مرتادها إلى الانتظار قرابة الساعة ليتسنى له الحصول على كوب كوكتيل متناسياً أن الآلاف من إخوانه أو أحد أصدقائه لا يزالون يقبعون في سجون الاحتلال يخوض معارك الأمعاء الخاوية، والملايين من أبناء جلدته في مخيمات الشتات يعانون شظف عيش قاهر في الوقت الذي يتعرض حق عودتهم لمزيد من الغمز واللمز، من أقرب الناس إليهم وبعض ممثليهم. "سمعت بأذني أحد الشرطة المكلفين بأمن المتسكعين يقول لأحد المارة ـ هذول ما بدهم يروحوا ويعني يعودون إلى بيوتهم ـ.
وبالمقابل سمعت أحدهم يقول: هل رواد هذه الأماكن يسمعون عن الاحتلال؟ أما صاحب السيارة الذي كان يقلني إلى منزلي وهو بالمناسبة موظف ـ فقد تأوه قائلاً: "يقولون هذا الشهر نصف راتب"، فمن أين اتدبر قسط السيارة ؟ وبدا لي من حديثي معه أن هذا هو حال 90% من الموظفين والذين هم في الغالبية العظمى من جماهير شعبنا المحتل.
لو أن الكاتب الفرنسي "آلان فراشون" كان معنا لعرف على الفور لماذا لم يخصص رئيس الوزراء الاسرائيلي إلا أقل من تسعة أسطر ليتحدث في خطابه عن قضية السلام مع الفلسطينين، ولو أنه استمع معنا لحديث سيادة الرئيس على القناة الاسرائيلية الثانية يوم 1/11/ 2012 لتوقع أن تتقلص أسطر نتنياهو التسعة، ربما لأقل من تسعة كلمات، ولكنه أيضاً كان سيرى بعينه الأخرى صورة أخرى مختلفة كلية، فهناك حيث تتواجد الغالبية المتضررة من الاحتلال، في المخيمات وشوارع الشهداء، وفي أرياف وقرى مدن أمراء أوسلو وبعيداً عن أثرياء انابوليس واتفاقيات باريس وملحقاتها، وهي الأكثرية الباقية على ثوريتها، الصامدة في نضالها وكفاحها، المتشبثة بحقوقها وعلى رأسها حق العودة كجذر أساسي لحقها في تقريرها لمصيرها ولتحررها النهائي، وهي الشعب الفلسطيني الأصيل، الذي لا يقل أصالة وثورية عن باقي شعوب العالم الذي يعرف "آلان فراشون" نفسه قوتها وقدرتها على إجراء التغيير الثوري اللازم على بنيتها وبنية نخبها السياسية وقياداتها على طريق انتزاعها لكامل حقوقها، وعندها سيجد نتنياهو نفسه مضطراً لتغيير لهجته ومضمون أحاديثه، ولعل "اللومند" ساعتها ستغير من عنوانها.