ليبيا في قبضة الضواري الإمبرياليين
سقطت العاصمة الليبية طرابلس بيد حلف الناتو، والقوى المناهضة للقذافي، ويستمر الحلف العدواني بعملياته العسكرية لتدمير ما تبقى من مدن ليبية، ما زالت تتمركز فيها بعض القوى الموالية للقذافي أبرزها في «سرت وبني وليد»، اللتين تعتبران آخر المعاقل لنظام العقيد. والتي تتعرض اليوم لقصف مركز بالصواريخ والمدافع الأمريكية والفرنسية والبريطانية تمهيداً للاستيلاء عليهما، وتسليمها جاهزة لأولئك «الثوار» الذين لا يكتفون بإطلاق النيران من رشاشاتهم، لإيهام الرأي العام الليبي والعالمي بأنهم هم الذين يقاتلون قوات القذافي، لإضفاء شيء من «الشرعية» على سلوكهم المخادع، الذي انتزعت عنهم أي صفة من صفات الثورة الشعبية، فليس هناك معنى للخيانة الوطنية أكبر من طلب احتلال الوطن بذريعة التخلص من حاكم غير عادل أو طلباً للحرية إذ لا يمكن أن يكون المرء أو الوطن حراً وبلده مستعمر؟.
منذ اليوم الأول الذي تحولت فيه ما يسمى الانتفاضة الليبية إلى استخدام السلاح والعنف وطلب التدخل الأطلسي تحت شعار مزيف ومنافق «حماية المدنيين» فقدت الانتفاضة مشروعيتها ووطنيتها، فالأطلسي وقوات العمالة العربية التي شاركت في العدوان على ليبيا (قطر، الإمارات، الأردن وغيرها)، داست بدخولها الاستعماري الأراضي الليبية على حرية الشعب الليبي وقد تؤدي إلى تقويض وحدة أراضيه الوطنية. وذهبت الحماسة العاطفية والتأثر بنفاق وألاعيب الفضائيات العربية الخليجية التمويل والهوى، والأمريكية التوجه، وفي مقدمتها «الجزيرة» والعربية وغيرهما بالانكشاف والوضوح، مع تدفق رجال الاستخبارات الغربية والعسكريين والدبلوماسيين على بنغازي لدعم المتمردين وقيادة عملياتهم العسكرية بالتعاون الوثيق مع عناصر «القاعدة».
ولا أحد ينسى كيف قاد عملية طرابلس ميدانياً من غرف العمليات في بنغازي المدعو جيفري فيلتمان والمسكون بالعداء والحقد على كل نظام وطني مناهض للإمبريالية الأمريكية والصهيونية في المنطقة والعالم.
وما يسمى بالمعارضة الليبية، تستمر في كذبتها وشعاراتها المزيفة والمضللة، التي تسوقها لها فضائيات الخيانة العربية المغمسة يديها بدم الشعب الليبي والسوري واليمني. وحتى أولئك الذين انتفضوا على الظلم وطالبوا بإصلاحات جدية وبرحيل القذافي على خلفية وطنية، سرعان ما تحولوا إلى مجرد أدوات لتحقيق مطامع القيادة السياسية للتمرد وحلف الأطلسي، هذه القيادة التي لا رابط بينها سوى مطمح الاستيلاء على مقاليد السلطة في بلد غني بالنفط ومترامي الأطراف، حتى لو كان الثمن احتلال ليبيا وتقسيم ثرواته بين الكواسر الإمبرياليين الأطلسيين.
فالإمبريالية الأمريكية والفرنسية والبريطانية وغيرها، وكما قال عنها أحد المفكرين الغربيين التقدميين «ليست جمعيات خيرية أو مغرمة بحرية العرب وبالديمقراطية»، والجميع يعرف تماماً، لولا هذه الدول المنحازة بالمطلق لما يسمى بالمعارضة، لما بقيت لحظة واحدة في وضع يسمح لها بالقتال.
فأمريكا وحلفاؤها وأعوانها وعملاؤها، تستغل ما يسمى «الربيع العربي» لضرب المنطقة وتخريبها لمصلحة مشاريعها المهزومة ولمصلحة إسرائيل الصهيونية، وإنهاء أي عقبة في طريق بسط هيمنتها على دول وشعوب المنطقة، لإنقاذ مشروعها الاستعماري بإخضاع هذه الشعوب للاستعباد الإمبريالي.
منذ بدء الأزمة الليبية، والأحداث تسير بسرعة في مشهد مشابه للمشهد العراقي في العام /2003/، مع اختلاف شكلي بسيط، فالذريعة في الحالة الليبية هي إنقاذ المدنيين وحماية السكان من بطش القذافي، فصدر القرار /1973/ والذي تحدث عن إقامة منطقة حظر جوي فقط، وتم خداع من أراد أن يخدع وهو يعلم حقيقة أن دول التحالف وعلى رأسها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، هي التي فصلت هذا القرار وطبخته في مطبخها (مجلس الأمن) ومع بدء تنفيذه تم تجاوز حدوده وأخذت هذه الدول تصب نيران طائراتها على المدن الليبية، وتجرب أحدث ما أنتجته من صواريخ ومدى دقتها على أهداف مدنية، وتختبر قنابلها «الذكية» على أكبر عدد من المدنيين، فسقط أكثر من /60/ ألف قتيل من الأبرياء بينهم آلاف الأطفال وكبار السن والنساء، وفقط في غزو طرابلس وخلال يوم واحد سقط أكثر من /2400/ قتيل وجريح من المدنيين في العاصمة، لقد سعى الأطلسي لتدمير البنية التحتية الليبية وقتل الآلاف. ويستعد اليوم ليضع يده على النفط الليبي ونهبه كما فعل في العراق تماماً.
وستتحمل ليبيا تكاليف الحرب الأطلسية المقدرة بمليارات الدولارات، في استحقاقات تدفعها للدول التي شاركت في العملية، منذ /20/ آذار الماضي، وستجد المعارضة الليبية نفسها أمام وضع صعب جداً يجعلها مرتهنة لدول الأطلسي في سياساتها الداخلية والخارجية وثروات الشعب الليبي، لاسيما أن ليبيا اليوم بأمس الحاجة إلى ما لا يقل عن /3/ مليارات دولار لسد حاجاتها المالية، وباتت تستجدي الغرب للإفراج عن أموال ليبيا المجمدة لإنقاذ الشعب الليبي من كارثة غذائية وصحية، عدا تكاليف إعادة الإعمار المرهقة، تماماً كما هو الحال في العراق.
أما الشركات الأمريكية التي تمكنت من جني مكاسب وأرباح هائلة جراء غزو العراق وأفغانستان والسيطرة على منابع النفط، فإنها تقاتل اليوم للسيطرة على الثروة النفطية الليبية. وشعرت بذلك فرنسا التي تصرفت في ليبيا كالديك المنفوش ريشه زهواً وطموحاً استعمارياً لبسط سيطرتها على نفطه، اصطدمت مباشرة بمطامح حلفائها الأمريكيين والبريطانيين. وبرز الصراع الخفي والعلني على نفط ليبيا مباشرة بعد سقوط طرابلس. فسارع ساركوزي لعقد مؤتمر باريس، تحت شعار براق ومزيف، مؤتمر «أصدقاء ليبيا» ولكن في الواقع كان مؤتمر الاتفاق على تقاسم الحصص لثروات ليبيا بين الضواري الإمبرياليين.
فأعلنت فرنسا أنها تريد ما نسبته /35%/ من العقود النفطية في ليبيا، أما أمريكا فتزيد أكثر من ذلك وبريطانيا وإيطاليا، الجميع يريد حصته، حتى أن السيد مصطفى عبد الجليل وبكل «وقار وإنصاف» أعلن أن نسبة العقود النفطية للدول المشاركة في حرب (تحرير ليبيا) يجب أن تتناسب مع حجم مشاركة كل دولة في العمليات القتالية.
وبطبيعة الحال وافق السيد عبد الجليل على تسديد فاتورة الحرب، واستعداد بلاده لدفع ثمن كل رصاصة استخدمها الأطلسي في قتل الليبيين.
وسارعت روسيا المرتعبة على مصير عقودها النفطية مع حكومة القذافي، للمطالبة باحترام مصالحها في ليبيا، وكأنها لم تنتبه إلى أن عبد الجليل وبالاتفاق مع الأمريكان، أصر على أن الحصة حسب المساهمة في القضاء على القذافي. أما الصين التي خرجت من ليبيا وليس لها أي وجود عسكري، ولا وجود لشركات صينية فاعلة في ليبيا بعد حصول القصف العسكري المدمر على كل شيء (خرجت من المولد بلا حمص).
والقذافي عندما شعر باقتراب نهايته في طرابلس وقبل ذلك بعدة أشهر دمر منشآت النفط كي لا يستخدمها الأمريكيون والفرنسيون في حال سقوط نظامه. وتركيا الحالمة بحصة من الكعكة الليبية، وجدت تعاطفاً أمريكياً فأشركتها في العمليات البحرية فأرسلت /4/ بوارج تركية حربية قبالة الشواطئ الليبية، وأزعجت هذه الخطوة فرنسا، فوضعت /15/ بارجة فرنسية قبالة الشواطئ الليبية، إضافة إلى حاملة الطائرات «شارل ديغول». ومنذ عدة أشهر أخذ الصراع يتوضح ولم يعد على مصير القذافي بل على النفط، الذي تختزن ليبيا منه احتياطيات هائلة.
وفرنسا تسعى لاستعادة دورها الإمبراطوري في شمال أفريقيا من البوابة الليبية. وعندما أبدت الولايات المتحدة امتعاضها من السلوك الفرنسي، ورغبتها بالتحول إلى قوة ضاربة في البحر الأبيض المتوسط، وتقدمها حتى على واشنطن وشمال أفريقيا، هددت فيما إذا استمرت واشنطن بالضغط عليها، ستترك أمريكا غارقة في المستنقع العراقي والأفغاني. ولم تتوقف المفاوضات في الكواليس لتحديد دور وحصة كل دولة أطلسية من الغنيمة الليبية.
لقد استهدفت قوات الناتو إمكانات ليبيا المادية والبشرية، وارتكبت مجازر شنيعة بحق المدنيين الأبرياء. ولا أحد لديه شك بأن الإمبريالية الأمريكية أخذت ترسي قواعدها العسكرية في ليبيا، وستكون الصناعات الليبية والمؤسسات الإنتاجية وخاصة النفطية الحكومية عرضة للخصخصة لصالح الشركات الغربية الكبرى خلال شهور قليلة قادمة.
ولم تكن عملية «فجر أدويسا» سوى بداية الطريق في رحلة الناتو لغزو أفريقيا عسكرياً. الغرب الاستعماري يخوض حرباً باردة مع الصين وإيران وأفريقيا، والشعب الليبي وغيره من الشعوب يدفعون الثمن.
وإذا كان الغرب الإمبريالي يستمتع بإسقاط أنظمة عصية عليه، فإنه يرتكب الجرائم لأجل هذا الهدف بما فيها تدمير وغزو بلدان هذه الأنظمة، والمثل العراقي حاضر بقوة دائماً، فجرائم أمريكا والغرب الاستعماري تحل محل الوعود المنافقة بالحرية والديمقراطية والقبور تفتح أبوابها على يد الغزاة لاستقبال ضحايا هذه الجرائم. والتدخلات الغربية تحمل دائماً مزيداً من اليأس والألم والإحباط إلى مآسي الشعوب المضطهدة. فالغرب لم يعد يحتمل عالماً بدون هيمنته، وهو على استعداد دائم للقيام بأي شيء لفرض وجوده وقواعده أياً كان الثمن.