الثورات العربية,هل تنهي مقولةًَ "صراع الوجود"؟!
في تساوقٍ مع دخول المراكز الإستعمارية الغربية على خط الثورات والانتفاضات الشعبية العربية لإخراجها عن مسارها, رأى أحد مروجي ثقافة الإستسلام, بأن هذه الثورات سوف تضع نهاية لمقولة صراع الوجود العربي- الصهيوني, على اعتبار أن من عمَّم تلك المقولة على امتداد العقود الماضية," منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948", هو الأنظمة الدكتاتورية التي قمعت شعوبها, وعطلت مسيرة تطورها متغطية بالمقولة المذكورة عبر شعار : أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
وفي عرضه لإطروحته, يقول هذا المروج, بأن الدول العربية تحت قيادة نظمها التسلطية, قد أثبتت عجزها عن المواجهة العسكرية مع الدولة الصهيونية, فكانت حرب تشرين قبل أربعين عاماً هي آخر حروبها مع (إسرائيل), وان هذه النظم, على الرغم من تمسكها بشعار صراع الوجود, مضت جميعها نحو إقامة أشكال من العلاقة مع الدولة الصهيونية, ليضيف بأن المجتمع الصهيوني له الحق في أن يشعر بالقلق على وجوده وسط بحر من الوجود العربي المعادي, فيما لا مبرر لمثل هذا الشعور بالنسبة للشعوب وللمجتمعات العربية, وحيث حوَّل الصهاينة شعورهم بالقلق على مستقبل وجودهم إلى عملية بناء لقدرات دولتهم الاقتصادية والعسكرية والثقافية, فإن نظمنا العربية قد وظفت قلقها المزعوم على الوجود في التفرغ لقمع شعوبها ولتعطيل مسيرة تقدمها.
ويخلص هذا المروِّج إلى الاستنتاج, بأنه مع إنهاء الثورات الشعبية العربية لمقولة صراع الوجود العربي- الإسرائيلي, فإن السبيل يغدو سالكاً لتقدم الحل الديمقراطي للقضية الفلسطينية, من خلال قيام الدولة الواحدة على ارض فلسطين, وذك بعد أن ثبت الفشل التام للحلول العسكرية, وتأكد عقم حل الدولتين.
وفي التصدي لما يطرحه منظرنا فإننا نعود إلى القول:-
أولاً- إن صراع الوجود الذي فرض على الأمة العربية خوضه في عصرها الراهن, هو الصراع مع مشاريع الهيمنة اللإستعمارية, وأن زرع الكيان الاستيطاني الصهيوني في قلب العالم العربي من جانب القوى الإستعمارية, إنما أتى لهدف ترسيخ تلك الهيمنة وتأبيدها, وما تواجهه أمتنا في هذه المرحلة من مراحل صراع الوجود مع الحلف الإستعماري وامتداده في القاعدة الصهيونية, هو حماية وجودها إزاء مخطط تمزيق دولها وشعوبها إلى كيانات أقلوية تدور في فلك المركز الصهيوني في إطار الهيمنة الإستعمارية.
ثانياً- وقد أوجد المستعمر في مجرى الصراع الذي تعيشه الأمة, نظماً وقوىً عربية مرتبطة بمشروع الهيمنة, بحيث نشأ في محيطنا العربي ما يدعوه البعض صهيونية عربية أشد خطورة من الصهيونية الغربية الإستعمارية لكونها من داخل البيت, وقد شهدنا كيف ناصبت تلك النظم والقوى أشد العداء لمشروع عبد الناصر القومي, وشهدنا وما زلنا نشهد كيف تتآمر تلك النظم والقوى على مراكز الصمود في المنطقة وعلى حركات المقاومة التي وجهت ضربة لأهداف الهجمة الإستعمارية الراهنة, ونعود للتذكير هنا بأن انقسام الأمة بين معسكر الخضوع لمشاريع الهيمنة الإستعمارية, ومعسكر التصدي لتلك المشاريع بالإمكانات المتاحة ليس وقفاً على أمتنا, إذ رأينا على سبيل المثال, كيف سعت قوى التبعية للإمبريالية الأمريكية في فنزويلا إلى إطاحة حكومة شافيز التحررية ماضية على هدي القوى التي أطاحت قبل أربعين عاماً بحكومة أيندي في التشيلي مدعومة من العدو الخارجي الأمريكي.
ثالثاً- ونود القول ايضاً, بأن ما استهدفت إطاحته الثورات الشعبية العربية هو سياسات الإرتهان للمشاريع الإستعمارية, كما استهدفت تحرير طاقات شعوبنا من هيمنة شرائح فاسدة وضعت مصالحها الذاتية فوق مصالح شعوبها وفوق المشروع التحرري للأمة. وما نشهده من ثورة مضادة تشرف على قيادتها الإدارة الأمريكية, إنما يرمي إلى استبدال نظم التبعية بنظمٍ أخرى راحت قواها الموعودة بالسلطة تعلن تبعيتها للسياسات الإستعمارية في المنطقة مناصبة قوى ومراكز الصمود أشد العداء, حيث تبدي هذه القوى استعداداها للسير على نهج كامب ديفيد في نسخته الجديدة التي ترمي كما ذكرنا إلى تمزيق دول المنطقة على أساس مكوناتها الأقلوية المختلفة, العرقية والطائفية والمذهبية والجهوية, بحيث تكون عاجزة عن مواجهة مشاريع الهيمنة.
رابعاً- ونعود إلى القول, بأن ما استهدفته الدوائر الإستعمارية من خلال عدوانها المتواصل على قوى التحرر والنهوض في صفوف الأمة, هو دعم وتعميم ثقافة الهزيمة التي تجد من يروِّج لها على الساحة العربية من الأقلام ومن مراكز الإعلام المأجورة. وكما لم تخضع شعوبنا في السابق لتلك الثقافة ولم تسلِّم بالهزيمة أمام ضراوة حملات الإخضاع, فهي تنهض في هذه الأيام من خلال ثورات شعبية, لكي تؤكد انتصارها لكل ما راكمته الأمة من إرث كفاحي على امتداد تاريخها المعاصر, ولكل ما يختزنه إرثها الحضاري من صفحات مضيئة, وكما ذكرنا فإن المعركة تدور الآن وعلى مستوى الأمة, بين أهداف الثورة وبين أهداف الثورة المضادة, وأنه على الرغم من ضبابية المرحلة التي تمر بها شعوب الأمة, فإن المعركة سوف تحسم لصالح إرادة شعوبنا مع انتصار وعيها على حملات التضليل الإعلامية التي تصنَّع في غرف العمليات التي تديرها المراكز الإستعمارية.
خامساً – وما نقوله في الختام, هو أن فكرة صراع الوجود مع الحلف الإستعماري الغربي وامتداده العضوي الصهيوني, لم تكن ترفاً فكرياً ابتكره وعممه البعض بمعزلٍ عن مجريات الأحداث التي عاشها العالم العربي على مدى تاريخه المعاصر, كما أن ما حلََ بشعوب الأمة من خراب ودمار على يد هذا الحلف, لم يكن نتاج هذا التوصيف لطبيعة الصراع بقدر ما كان التجسيد الحي لتلك الطبيعة, وإن نفي تلك الفكرة حول صراع الأمة مع عدوها الحقيقي, إنما يهدف إلى نقل هذا الصراع بكل عنفه من وجهة إلى وجهة أخرى, بحيث يغدو صراعاً بين مكونات الأمة في سياق عملية تدمير ذاتي, إلى جانب الصراع بين دول وشعوب المنطقة, ليكون المنتصر في نهاية المطاف هو المشروع الإستعماري بنسخته الجديدة التي طرحت تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد أو الموسَّع.
وقد رأينا كيف نظر مهندس مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيوني شمعون بيرز إلى احداث سورية, إذ اعتبر بأن انهيار آخر معقلٍ للصمود العربي, من شأنه أن يفتح الطريق أمام الحل التصفوي للقضية الفلسطينية, الذي يقوم على اساس تكريس الطابع العنصري للدولة الصهيونية, الذي لا مكان فيه لأي وجود فلسطيني سواء عبر حل الدولتين أو الدولة الواحدة, ولا للهوية العربية الواحدة التي تجمع شتات الأمة وتشكل إطار نهوضها.
غطاس أبو عيطة