وثائق 'الجزيرة' وزلزالها المرعب
أخطر ما تكشفه وثائق دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية التي حصلت عليها قناة "الجزيرة" ليس في حجم التنازلات المخيف الذي تضمنته فيما يتعلق بموضوع القدس المحتلة ومستوطناتها والحرم الشريف، وانما ايضا في تولي حفنة صغيرة، تعد على اصابع اليد الواحدة، التفاوض باسم عشرة ملايين فلسطيني في الوطن والشتات، دون اي مرجعية او رقابة او مساءلة.
فالمفاوضون الفلسطينيون، وعلى رأسهم الدكتور صائب عريقات، لم يكتفوا بالقبول بجميع المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة، باستثناء مستوطنة جبل ابوغنيم، وانما تطوعوا بالتنازل عن ما يسمى بالحي اليهودي، وجزء من الحي الارمني، وحائط البراق، وسلموا بالحق الاسرائيلي في حي الشيخ جراح، وتقدموا باقتراحات "خلاقة" لتشكيل لجنة من ثلاث دول عربية (مصر والسعودية والاردن) الى جانب امريكا واسرائيل والسلطة الوطنية وتأجيل مسألة البحث عن السيادة.
لم يعط الشعب الفلسطيني اي تفويض لهذه الحفنة من الاشخاص الذين نصبوا انفسهم لتقرير مصيره، والتنازل عن ثوابت وطنية باسمه، فالرئيس محمود عباس منتهية فترة رئاسته، وكذلك اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي ينطق باسمها السيد ياسر عبدربه، وكذلك المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس التشريعي.
السيدة تسيبي ليفني المنتخبة ديمقراطيا، والمسؤولة امام حزبها والكنيست، ترفض مطلقا الحديث عن موضوع القدس المحتلة، وتقول انها غير مفوضة، بينما يدعي السيد عريقات انه مفوض ويعرض تنازلات عن احياء كاملة في المدينة المقدسة، ويقترح لجاناً، ويقبل بتبادل اراض، ولا نستغرب، اذا لم يجد من يوقفه، ان يقبل بتبادل سكان. فهم دائما يبدأون بالرفض ثم يعودون ليقبلوا ما رفضوه، ونأمل ان يخالفوا سنتهم هذه المرة.
لا نريد ان نتعجل الامور، فما جرى الكشف عنه من وثائق حتى الآن يظل قمة جبل الجليد، فقد تنازل المفاوض الفلسطيني عن حق العودة بالصورة التي نعرفها، وهو حق يشكل اساس قضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، كما جرى الاعتراف بيهودية الدولة الاسرائيلية قبل اعوام، عندما اكد الدكتور عريقات، وايده ياسر عبدربه "لم ننكر ابدا حق اسرائيل في تعريف نفسها، اذا كنتم تريدون ان تسموا انفسكم دولة اسرائيل اليهودية يمكنكم تسميتها كما تريدون.. نحن لا نتدخل في شؤونكم نحن نعترف بدولتكم كما تريدون ان تعرفوها لانفسكم".
عدم الاعتراض على تسمية اسرائيل دولة يهودية، بل والاعتراف بها وفق ذلك يعني سحب الشرعية من وجود مليون ومئتي الف عربي، وافساح المجال امام تطهيرهم عرقيا بالطريقة نفسها التي تم فيها طرد ما يقرب من المليون فلسطيني عام 1948.
" " "
تعريف حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كما جاء في الوثائق الرسمية ومحاضر المفاوضات، هو عودة مئة الف لاجئ على مدى عشر سنوات حسب طلب المفاوض الفلسطيني، مقابل اصرار ايهود اولمرت على القبول بعودة خمسة آلاف لاجئ على مدى خمس سنوات وبشروط تعجيزية، ومعايير صارمة.
لا نستغرب مثل هذه التضحية بحقوق ستة ملايين لاجئ فلسطيني، ونحن نعرف ان السيد ياسر عبد ربه، هو اول عضو في اللجنة التنفيذية والقيادة الفلسطينية يتنازل رسميا عن حق العودة، مثلما ورد في وثيقة جنيف الشهيرة.
كنا نتمنى لو ان رد السلطة على الوثائق جاء عاقلا ومنطقيا، ومؤدبا، وركز على ما ورد فيها من تنازلات، وبطريقة مقنعة بدلا من "التجريح" الشخصي، وممارسة كل انواع التضليل واللف والدوران، ومهاجمة مكتب قناة "الجزيرة" في رام الله، واصدار "فرمان" بمقاطعتها وعدم ظهور اي مسؤول فيها، ولكن تمنياتنا، ونقولها بكل اسف، لم تتحقق.
فحتى السيد عمرو موسى الذي استعانت به السلطة للتغطية على تنازلاتها لم يشفع لها، ولم يلق اليها بطوق النجاة المطلوب، واكتفى السيد موسى بالقول انه لم يتابع برنامج الجزيرة، و"الغمغمة" بان السلطة تطلع الجامعة على مواقفها التفاوضية، ولم يؤكد جازما ان هذه الوثائق مودعة في خزائنها.
واذا كان ما قاله المسؤولون في السلطة حول اطلاعهم مسؤولين عربا على هذه الوثائق، ولا يوجد اي دليل يثبت ذلك حتى الآن، فالشعب الفلسطيني اولى بالاطلاع عليها، او مؤسساته الوطنية وما تبقى منها على الاقل.
نشك بان يكون اي من حلفاء السلطة في المنظمات الفلسطينية الممثلة في اللجنة التنفيذية للمنظمة قد اطلعوا على هذه الوثائق او اي جزء منها، فقد فوجئوا بما ورد فيها مثلهم مثل اي مواطن عربي عادي، وتسمروا امام شاشة "الجزيرة" لمعرفة التفاصيل.
الاسرائيليون رفضوا التنازلات الفلسطينية فعلا، ليس لانها غير موجودة مثلما قال الدكتور عريقات، وانما لانهم يريدون كل شيء، ولا يريدون تقديم اي شيء للمفاوض الفلسطيني غير فتات الفتات. فموضوع القدس محسوم بالنسبة اليهم وكذلك موضوع اللاجئين، وعلى المفاوضين الفلسطينيين ان يقبلوا بارض صحراوية او يشربوا من مياه غزة.
" " "
المأساة الكبرى ستتمثل بما هو قادم من وثائق، خاصة حول التنسيق الامني، وتقرير غولدستون، والصداقة الحميمية بين اعداء الامس، حيث التواطؤ مع العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، والاشتراك في تصفية مناضلين شرفاء من كتائب شهداء الاقصى التابعة لحركة "فتح" حزب السلطة، توقعنا ان يقرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس اتخاذ اجراء فوري في حق المسؤولين عن تهريب مثل هذه الوثائق، مثلما يحدث حتى في كهوف تورا بورا، ولكنه لم يفعل للأسف، وقرر تشكيل لجنة لبحث الامر، ومن المؤكد ان مصير هذه اللجنة ونتائج تحقيقاتها لن يختلفا عن مصير جميع اللجان السابقة، وآخرها لجنة التحقيق في مسألة استيلاء قوات "حماس" على قطاع غزة.
الرد على وثائق "الجزيرة" لا يجب ان يتم بـ"الردح"، والشتائم والتخوين، خاصة من قبل اناس ينسقون امنيا مع العدو الاسرائيلي، وانما من خلال العودة الى الثوابت الوطنية، والاعتراف بفشل الخيار التفاوضي علنا، والاقتداء بسنة الرئيس الشهيد ياسر عرفات الذي فجر الانتفاضة، وانخرط في تنسيق امني مكثف مع حركة "حماس" وليس مع العدو.
عبد الباري عطوان (القدس العربي)