الحدث التونسي وسؤال النهوض العربي
ضمن تيار فكري اتسع حضوره على الساحة العربية, جرى التركيز على مسألة الحرية في أوساط شعوبنا باعتبارها السبيل الوحيد لحل كل مشكلات الأمة المستعصية, ومقابل ذلك, جرى تهميش أو تغييب قضية التحرر من هيمنة ومن عدوان القوى الإستعمارية باعتبارها الغطاء الذي اعتمدته النظم التسلطية والاستبدادية لكم أفواه شعوبها, ولم يتم التمييز على هذا الصعيد, بين النظم العربية القائمة, بحيث لم يجر التوقف عند واقع أن النظم التابعة إلى جانب سلطويتها, قد أخرجت من خطابها ومن سياساتها مسألة العداء للمشاريع الإستعمارية, وهكذا اعتبر الشعار الذي أطلقه عبد الناصر في مرحلة معينة, بأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع أعداء الأمة, على أنه الأساس الذي استندت له جميع نظمنا في قمعها لمطلب الحرية والديمقراطية وسط شعوبها.
وقد طال الهجوم من قبل أوساط في هذا التيار, حركات المقاومة في المنطقة, التي شكلت في نظرها رديفاً للنظم الإستبدادية, والتي راحت تستخدم سلاحها حسب زعمها لترهيب الجماهير, في استكمال لوظيفة الأجهزة الأمنية الرسمية. ووصل الأمر بممثلي هذا التيار, حد مباركة الغزو الأمريكي للعراق الذي وضع هذا البلد العربي حسب رؤيتهم على سكة الديمقراطية. بل إنه في وثيقة لحزب يساري, تم طرح الدعوة, إلى مراجعة النظرة التي اعتبرت أحادية الجانب تجاه الإمبريالية, والتي هي ليست شراً مطلقاً كما جرى تصويرها إبان الحرب الباردة وفق نص الوثيقة. وإذ انطلقت الان ثورة الحرية والكرامة في تونس, فإن فرسان هذا التيار, لن يتأخروا عن تجيير هذه الثورة لصالح طروحاتهم التي تقيم تعارضاً بين الحرية وبين التحرر الوطني والقومي متساوقين مع مساعي المراكز الإستعمارية لحرف هذه الثورة عن مضمونها الشامل الذي لا يفصل بين الحرية والتحرر والتحرير.
وإذ نقارب هذا الحدث التاريخي الذي تفجَّر في المنطقة انطلاقاً من تونس, فإنما لنحاول وضعه في إطاره الصحيح بمعزل عن الثقافة التي يريد تعميمها التيار المذكور, حيث نقول على هذا الصعيد:-
أولاً- إن انتصار هذه الثورة المباركة في تونس," ثورة الحرية والكرامة الوطنية والإنسانية", قد أطلق رافداً بالغ التأثير من روافد نهوض الأمة, وهذا الإنتصار يأتي لكي يدعم ويعزز رافد المقاومة الذي سعت نظم الردة إلى خنقه وسحقه بتنسيق وتعاونٍ كاملين مع قوى الإمبريالية والصهيونية مستغلِّة تغييبها لإرادة شعوبها, ثم إن هذا الإنتصار, لم يأت بمعزلٍ عن الإنتصارات المؤزرة التي حققتها حركات المقاومة, التي كشفت عن عظم الطاقات التي تختزنها شعوب هذه الأمة, وهو لا ينفصل بالتالي عن المناخ الثوري الذي يعيشه العالم العربي على واقع الإنتصارات التي تحققت على يد المقاومين في لبنان وفي فلسطين والعراق.
ثانياً- إن حرص الجماهير التونسية على استكمال ثورتها, بإعلان عزمها على تكنيس رموز النظام المنهار و تفكيك هياكله, إنما ينطلق من وعي تلك الجماهير لموقع هذه الثورة في مسيرة النهوض العربية, فما تدركه هذه الجماهير التي كشفت عن عمق وعيها, هو أن حصر نتائج ثورتها في بعض المطالب الاصلاحية الداخلية, من شأنه أن يحرم الأمة من النموذج الذي أطلقته, و من شأنه بالتالي, أن يسهل على المتربصين بالثورة وأد منجزاتها حتى على المستوى المطلبي إذا نجح هؤلاء في عزلها عن امتدادها القومي .
ثالثاً- و إن صدى هذه الثورة في المدى العربي, لم يعد مسألة تحليل أو تقدير, فما شهدته العديد من الساحات العربية من حراك شعبي لم يعد من السهل احتواءه, دق ناقوس الخطر لدى النظم التابعة التي طالما استهانت بإرادة شعوبها, و كانت حكومة العدو الصهيوني برئاسة نتنياهو, أول من أدرك بأن زمناً جديداً قد دخلته المنطقة مع هذه الثورة الشعبية الظافرة, و كما ذهب الصهاينة نحو البحث عن استراتيجية قتالية من نوع آخر في مواجهة فكرة و قوى المقاومة في المنطقة, فقد أطلقت هذه الثورة التي اندلعت في تونس, مسألة البحث عن استراتيجية أمنية أخرى يعتمدها الصهاينة كما أعلن نتنياهو في اجتماع حكومته, بعد أن ثبت لهم بأنه لا يمكن الركون إلى بقاء تلك النظم التي عزلت نفسها عن نبض شعوبها فيما يتعلق بقضايا الصراع العربي-الصهيوني .
رابعاً- لقد طرح السؤال, لماذا انطلقت ثورة الشعوب العربية من هذا القطر العربي, و لم تنطلق من أقطار تعاني شعوبها ألواناً من القمع و الإذلال, و من أوضاع معيشية, و من فساد في أوساط الطغم الحاكمة يفوق ما عاناه الشعب التونسي؟, و لماذا بالتالي, كان نظام زين العابدين بن علي, هو الحلقة الأضعف بين سلسة نظم الإستبداد و الإرتهان للخارج؟.
و كان السؤال أيضاً, لماذا أجمع الشارع التونسي على هدف تكنيس النظام, في ظل إضعاف أو تغييب دور النخب المنظمة في الأطر السياسية؟, أو لماذا لم تبرز في النسيج المجتمعي التونسي, جماعات تكفيرية و تدميرية باسم الدين, كالتي برزت في ساحات عربية أخرى؟.
و إذ نرى بأن المجال مفتوح في المستقبل للإجابة على مثل تلك التساؤلات, فإن المهم في هذه اللحظة, التأكيد
على أن هذه الثورة تقدم نموذجاً حضارياً و حداثياً لشعوب الأمة, فهي تطلق دعوة لاحترام التعددية ليس بن القوى السياسية و حسب على اختلاف مرجعياتها الفكرية, بل على مستوى نسيج الأمة, الذي قاد انحسار الفكرة الجامعة فيه, الوطنية, و القومية, و الثقافية, و الدينية, إلى تشطِّيه بما شكل أكبر خدمة لمشروع صهينة المنطقة .
و لا بد من القول في الختام, بأنه على الرغم من كل الأخطار التي تحيط بثورة الشعب التونسي التي يرى فيها أعداء الأمة أكبر تحدٍ لمشاريعهم, فإن هذه الثورة, بما أنجزته حتى الآن و بما هي قادرة على إنجازه, قد أدخلت العالم العربي في عصرٍ جديد كانت قد أطلقته بشائر الإنتصارات التي حققتها حركات المقاومة, و سيستمر الصراع, لكن زمن الأمة بعد ثورة تونس هو ليس الزمن الذي كان قائماً قبلها
غطاس أبو عيطة