العسكرية الأمريكية ــ والأزمة المالية الدولية
الأزمة المالية الدولية لم تهبط من السماء، وإنما هبطت من العسكرية الأمريكية.
الإدارة الأمريكية منذ الاستقلال الأمريكي لا تعرف حدوداً تقف عندها في اضطهاد الآخرين. الهنود الأمريكيون (الهنود الحمر) أبيدوا، وطردوا من ديارهم آلاف الكيلو مترات إلى منازل جدباء، ما تزال بقاياهم تعيش فيها.
ومنذئذ تنظر الإدارة الأمريكية إلى سكان العالم وكأنهم هنود أمريكيون. التوسع من /13/ ولاية إلى /52/ حمل في تفاصيله كوارث إنسانية مماثلة لكارثة الهنود، أو قريبة منها. وعانت أمريكا اللاتينية طوال تاريخها الحديث آلام الاستغلال الاقتصادي والنهب والهيمنة عبر الانقلابات العسكرية والإفقار والإبادة، حيث الجلادون الذين حملتهم تلك الانقلابات قتلوا شعوبهم بعشرات وبمئات الآلاف، وما تزال بقاياهم تفعل الأمر نفسه.
وفي القرن العشرين التفتت العسكرية الأمريكية إلى أوروبا.
نحن لا نعرف أسرار الدور الأمريكي في الحربين الأولى والثانية، ولكن نعرف أن ألإدارات الاستعمارية الأوروبية، التي كانت سيدة العالم القديم تحولت إلى التبعية للإدارة الأمريكية، وأن الهيمنة الأمريكية طردت بعد الحرب العالمية الثانية السيطرة الاستعمارية الأوروبية لتحل محلها، وربما لولا قيام الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى رادعة، لحلت بالعالم القديم كوارث لا يقاس هولها بكوارث أمريكا اللاتينية.
وبفرض دولار الولايات المتحدة منذ /1944/ نقداً عالمياً، وفرض تغطية دولية له من البنوك المركزية الغنية منذ ستينات القرن الماضي، وإلغاء الأساس الذهبي له في /1976/، الذي لم يكن أصلاً سوى أساس وهمي، سيطرت الاحتكارات المالية الأمريكية على اقتصادات العالم.
أصبح دولار الولايات المتحدة وسيلة دفع ووسيلة ادخار لكل بنوك العالم. بالدولار يستطيع المرء أن يشتري أي منتجات وأي خدمات في العالم، أن يشتري البترول والامتيازات، سواء المتعلقة منها بالثروات الطبيعية، أو بإقامة المؤسسات المالية والإنتاجية والخدمية، وأن يشتري الأدمغة والاختصاصيين، فتهاجر هذه ليس فقط من البلدان الثالثية، وإنما أيضاً من البلدان الأوروبية، فقد جاء وقت كان فيه نصف المهندسين البريطانيين يهاجرون إلى الولايات المتحدة، وليست لدينا إحصاءات مماثلة خاصة ببقية البلدان الأوروبية.
وأصبح دولار الولايات المتحدة منذ مشروع مارشال في أوروبا الغربية وسيلة توظيف مجانية (مجرد اعتماد) يمول مختلف المشروعات الضخمة التي أعادت إعمار القارة في جزئها الغربي. واستطاعت الاحتكارات المالية الأمريكية بالدولار تمويل المشروعات العسكرية الضخمة، فارتفعت الميزانيات العسكرية بشكل عمودي، من حدود الـ /30/ مليار دولار في ستينات القرن الماضي إلى ما يزيد عن /500/ مليار حالياً.
حرب الفيتنام، التي كانت كارثة سياسية للشعب الأمريكي، كانت نعمة بالنسبة للصناعة العسكرية، التي زاد ربحها، إذا ما أسعفتنا الذاكرة، /30/ ملياراً.
البورصة التي وجدت بالأصل من اجل تمويل، وإعادة تمويل الصناعة، تحولت بذاتها إلى استثمار تضخ فيه الأموال دون حدود، ودون أي أساس مادي، وبلعبة العرض والطلب، التي تتحكم بها الاحتكارات المالية، فتمتص الأسهم حين تهبط قيمتها وتطرحها بقيم أعلى، ونفس الأمر بالنسبة للعملات مع العمل على حماية الدولار، أي حماية المعادل الدولاري من العملات الأخرى.
والاستثمار في البورصة خلق تضخماً نقدياً عالمياً فلكياً، تستفيد منه الاحتكارات المالية الدولية، وبخاصة الاحتكارات الأمريكية. والتضخم النقدي الفلكي هو تضخم دولاري بالدرجة الأولى، وحتى إنشاء النقد الأوروبي الموحد، اليورو، لا يغير ذلك، إلا ربما بعد زمن طويل، وبشروط سياسية واقتصادية.
التضخم النقدي المذكور ترفعه العسكرية الأمريكية بشكل جنوني، وبشكل لا حدود له، نشاطات التخريب، التي تقوم بها الإدارة الأمريكية عبر مخابراتها تكلف الكثير، وربما التجنيد الطائفي الديني والقبلي والعرقي في مختلف البلدان يكلف تريليونات الدولارات.
كم كلف تجنيد الرواسب التقليدية في الاتحاد السوفييتي، وفي بلدان الاشتراكية العلمية السابق؟ كم يكلف اليوم تجنيد ذلك في القوقاز وآسيا الوسطى؟ كم كلف، وتكلف، إسرائيل كمشروع استعماري أصولي؟ كم كلف «الجهاد» في أفغانستان؟ كم كلف تمزيق يوغسلافيا؟ هذا النشاط الهمجي بالنسبة للشعوب هو باهظ الكلفة المالية بالنسبة للولايات المتحدة رغم أن الكثير من الفواتير تدفعها إدارات البلدان الأوروبية والبلدان البترولية، وتعتمد في بعضها على المخدرات.
الاحتلال والعدوان يكلفان أيضاً الإدارة الأمريكية الكثير، رغم أن «الحلفاء» يدفعون جزءاً هاماً من الفواتير.
العسكرية الأمريكية، إذن، كلفت، وتكلف، العالم مالياً الكثير بفواتيرها الباهظة، وتحقنها الإدارة الأمريكية بالتضخم النقدي.
وكل ذلك يرتب أعباء كبيرة ومتصاعدة على اقتصادات العالم ومن الجملة على الاقتصاد الأمريكي، فالفقر المعمم يضعف الأسواق أكثر فأكثر، ويحفر هوة كبيرة بين الإنتاج (الصناعي والخدمي) والاستهلاك العالمي، الأمر الذي يؤدي إلى أزمات متصاعدة القوة تطول مختلف المؤسسات الإنتاجية الكبيرة والصغيرة، فيفلس منها ما يفلس، ويندمج ما يندمج، وتحقن المؤسسات المالية المؤسسات الإنتاجية الكبرى بالقروض، مما يزيد التضخم النقدي أكثر فأكثر.
ويهبط الدولار بقيمته الشرائية بشكل عمودي، وتهبط العملات الأخرى بقيمها الشرائية بشكل أقوى، وقد تنهار، فتعاني البلدان ذات العلاقة من أزمات اقتصادية كبيرة وصغيرة، ومن أزمات اجتماعية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وهبوط المستويات المعيشية لقطاعات أوسع فأوسع من الشعب.
نفس الشيء وعلى مقياس أضعف بالنسبة للشعب الأمريكي، وأيضاً بالنسبة للمؤسسات الإنتاجية الأمريكية الصغيرة والمتوسطة.
التضخم النقدي المفرط الأمريكي عدا ذلك يذيب الادخارات في كل العالم، فيجعلها أضعف فاضعف بقيمتها الشرائية (أي بقيمتها الحقيقية إذا ما قورنت بالسلع المادية)، فدولار أربعينات القرن الماضي كان يشتري بـ /35.2/ منه أونصة الذهب، ودولار اليوم يحتاج المرء /900/ تقريباً منه للأونصة، فمليار دولار اليوم إذا ما قورن بالذهب يعادل تقريباً جزءاً من /25/ جزءاً منه في أربعينات القرن الماضي، أي يعادل تقريباً /40/ مليوناً وهبوط القيمة الشرائية مستمر.
المتضررون من سياسة الاحتكارات المالية الأمريكية هم جميع سكان العالم. جميعهم يتحملون أعباء الميزانيات الأمريكية الإدارية والعسكرية والمصرفية، فمن دون التغطية العالمية لتلك الميزانيات يفلس الجميع.
والمتضررون الأشد هم شعوب العالم، فموارد الفقراء والعمال ليست للرفاهية، وإنما لسد الرمق، وعندما تهبط قيمها الشرائية، فإن هؤلاء ينتقلون من الفقر إلى الجوع. وهذا ما يحصل واقعياً.
الأزمة المالية الحالية سوف تحل على حساب اقتصادات العالم، وهي ليست أزمة للنظام المالي، بمقدار ما هي أزمة مصارف منتفعة بذلك النظام.
تصبح الأزمة أزمة للنظام المالي، إذا ما رفعت البنوك المركزية الغنية ولصالح بلدانها والعالم التغطية لدولار الولايات المتحدة.
عندئذ تعدل الاحتكارات المالية الأمريكية سياساتها تدريجياً لتنفق مع الاقتصاد الأمريكي المادي، الصناعي والطبيعي، ويتحقق توازن الاقتصاد الأمريكي واستقراره، ويحدث أيضاً ما يشبه ذلك في البلدان المتطورة الأخرى.
غير أن رفع التغطية عن دولار الولايات المتحدة لن يحدث، لأن مصالح الاحتكارات المالية الدولية متشابكة، بشكل لا يمكن معه فصلها عن بعضها، ولأن الخسائر الدولارية التي تحدث من رفع التغطية تطول جميع البنوك المركزية في العالم.
لا يبقى، والحالة هذه، من حل لرفع النير المالي العالمي، إلا في يد الشعوب، التي لابد من أن تناضل آجلاً، أو عاجلاً، عبر منظماتها السياسية التقدمية، أولاَ ضد النير الاستعماري الدولي، ومن ذلك ضد التخريب الطائفي (الديني والقبلي والعرقي) الذي تمارسه الإدارة الأمريكية وأدواتها في جميع البلدان على الإطلاق، ومن الجملة في بلدها، وضد العسكرية الأمريكية وعدوانياتها، ثانياً ضد النظام المالي الدولي، الذي يجعل الاحتكارات المصرفية الدولية عاصمة المال، ويفرض سياساتها على العالم.
محمد الجندي