PCP

يا عمال العالم اتحدوا

مراجعة خيار المفاوضات: فلسطين أوّلاً

تصدّرت الصفحات الأولى من صحف نهاية الأسبوع، صورة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن يربّت على كتف الرئيس الفلسطيني محمود عباس. إنّه يعده، على الأرجح، بالضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل استئناف المفاوضات. لقد باتت المفاوضات هدفًا قائمًا بذاته للسلطة الفلسطينية. إنّه الخيار الوحيد الذي ارتضته السلطة سبيلاً للحصول على بعض المكاسب التي تبرّر صحة خيارها، من جهة، واستمرارها في موقع القرار، من جهة ثانية. عناصر موقف الفريق الفلسطيني الذي سلك طريق المفاوضات (بوصفه السبيل الوحيد إلى تحقيق الحدّ الأدنى من المطالب)، أربعة: أولها، عدالة القضية الفلسطينية ووجود قرارات صادرة عن هيئات الشرعية الدولية ومراكز قرار مؤثّرة، لمصلحة الطرف الفلسطيني. وثانيها، الوعود الأميركية بالسعي من أجل إيجاد حل، يستوحي عموماً القرارات الدولية ذات الصلة. وثالثها، دعم وتشجيع من فريق «الاعتدال» العربي، وهو الفريق المتحالف مع واشنطن، من أجل التخلي عن السلاح والعنف والمقاومة والاحتجاج، في مقابل تعهّد أميركي وغربي ورسمي عربي (من الفريق المذكور) بدعم خيار المفاوضات وبإيصاله إلى خواتيمه السعيدة، في أقرب فرصة ممكنة. أما العامل الرابع، فهو العامل الذاتي الفلسطيني. وهو في نظر أصحابه يذكّر بنضالات الشعب الفلسطيني ومقاومته، بمقدار ما يعد بالتخلي عن هذه النضالات وتلك المقاومة، في مقابل أن تمارس إسرائيل شيئًا من «العقلانية»، وتلبّي الحدود الدنيا من المطالب الفلسطينية وفي مقدّمها إنشاء دولة ما في حدود المناطق المحتلة عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة)، مع تعديلات في الخطوط والحدود ومع تعويض للاجئين تتولاه الأطراف الغربية والعربية الداعمة، ومع صيغة رمزية تجعل مدينة القدس الشرقية عاصمة، معنوية على الأقل، للدولة الفلسطينية العتيدة. مراجعة بسيطة للمرحلة الممتدّة منذ عقد من الزمن حتى الآن، تكشف بسهولة، أنّ الطرفين العربي والفلسطيني فعلا كلّ ما كان مطلوبًا منهما ويزيد. على الأقل، يجب الجزم بهذا الأمر، على المستوى الفلسطيني منذ وفاة الرئيس الفلسطيني السابق الشهيد ياسر عرفات. فالرئيس الفلسطيني الحالي، لم يترك «مأخذًا» عليه، لا من الطرف الإسرائيلي ولا من حامية إسرائيل وحليفتها واشنطن. فمع مجيئه قبل سنوات، سقطت مقولة الطرف الإسرائيلي بعدم وجود شريك فلسطيني في المفاوضات، وسقطت مزاعم الأميركيين بأنّ السلطة تشجّع «الإرهاب». كما سقطت مخاوف عرب الاعتدال من زئبقية سياسات الرئيس أبو عمار ومواقفه وتحالفاته. فالرئيس محمود عباس واضح وحازم ومباشر في تبنّي خيار التفاوض وفي رفض خيار المقاومة والعنف بما لا يدع مجالاً للشكوك والالتباس، ومن أيّ نوع! أما العرب، فقد سارعوا من جهتهم، في قمة بيروت عام 2000، وبناءً على مبادرة تقدّم بها الأمير السعودي آنذاك عبد الله (الملك حاليًا) وبتنسيق كامل مع جهات أميركية (توماس فريدمان)، سارعوا إلى عرض السلام الكامل والتطبيع الشامل مقابل التفاوض على دولة ما للفلسطينيين في نطاق الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون تشدّد حيال الحدود أو المستوطنات الصهيونية أو مدى قابلية الدولة العتيدة للحياة، أو مدى توافر مقوّمات ممارستها لسيادتها على الأراضي التي ستتكوّن منها. أما موضوع حق العودة فقد ذُكر من قبيل رفع العتب ونزولاً عند رغبة الرئيس اللبناني إميل لحود الذي كان من «السذاجة» بحيث إنّه لم يترك مناسبة إلا وردّد فيها بأنّ إسرائيل يمكن أن تتراجع فقط أمام قوة العرب، كما تراجعت أمام المقاومة في لبنان، ومن دون قيد أو شرط!! لم تلتزم واشنطن ولا تل أبيب بشروط خيار المفاوضات. بالنسبة لإسرائيل، رغم بعض التباينات بين «يسارها» ويمينها، ظلّت نظرية إسحق شامير هي السائدة: «نرفض التفاوض على أرض إسرائيل، فإذا اضطررنا نحوّل المفاوضات إلى عملية تقطيع وقت من دون تنازلات ودون نتائج». على العكس من مسار التفاوض المفترض أن يؤدّي إلى تحقيق بعض المطالب الفلسطينية، واظبت القيادة الإسرائيلية على تدمير ما بُني من عناصر القوة الفلسطينية: السياسية، والاقتصادية، والإدارية، والأمنية والمعنوية... مشروع الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أغرى الصهاينة بالانتصار الكامل، أي بتدمير كلّ مقوّمات الشعب الفلسطيني وسلطته في المجالات الآنفة الذكر. نتنياهو يواصل الآن هذه السياسة رغم التراجع الأميركي في المنطقة ورغم العجز الإسرائيلي عن الانتصار في لبنان عام 2006 ورغم صمود الشعب الفلسطيني في غزة أواخر عام 2008. وتحت غبار كثيف من الكلام عن الخطر النووي الإيراني وخطر تسليح «حزب الله» في لبنان... تواصل الحكومة الإسرائيلية سياسة تعطيل المفاوضات. وهي تواظب على جعل هذه المفاوضات غير ذات موضوع أصلاً، وخصوصًا من خلال الاستيطان الكثيف والمتوسّع أبدًا، كذلك من خلال الاغتيالات والتهويد والمصادرة والقصف... ما سيجعل إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، أمرًا متعذّرًا. في عناوين المرحلة يمكن استحضار الآتي: لقد أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، رسميًا، فشل مساعيه لوضع شعار «إقامة الدولتين» موضع التطبيق. مهمّة مبعوثه جورج ميتشل فشلت فشلاً ذريعًا. عرب «الاعتدال» فقدوا مع تراجع مشروع حليفهم الأميركي وتشدّد شريكهم الإسرائيلي، كلّ فرص التأثير أو القدرة على المبادرة أو حتى الرغبة في ذلك! السلطة الفلسطينية تطارد وهم الحلّ وسرابه عن طريق التفاوض ولا تحدّد لتراجعها سقفًا أو قعرًا!... لو توخّى أصحاب خيار التفاوض السلمي (سبيلاً وحيدًا للحل ولتحقيق بعض المطالب الفلسطينية) الموضوعية، لأقرّوا بأنّهم وصلوا إلى الطريق المسدود. شيء من ذلك قد اعترف به الرئيس محمود عباس. لدى الرجل كما ذكرنا، من عمق القناعة بالتفاوض خيارًا وحيدًا، ومن ثمّ بإفلاس هذا الخيار، ما دفعه إلى إبداء الرغبة في الاعتزال. «جو بايدن» يحاول الآن إقناع عباس بأنّ واشنطن، وهي تواصل دعمها المطلق لإسرائيل و«أمنها وتفوّقها»، ستبقي على خيار التفاوض ولو غير المباشر، حيًّا! إنّها مأساة كاملة: هل لها اسم آخر؟! نقطة التغيير تبدأ من أن يغيّر الفلسطينيون ما بأنفسهم. إعادة تأسيس جديدة لخيار المقاومة، هي الانعطاف الاستراتيجي المطلوب. النقاش في حركة «فتح» ومراجعة خلاصات مرحلة بكاملها أمر يجب أن يبدأ في قيادتها. لم يكن المؤتمر الأخير بمستوى هذه المهمة. المسؤولية على «حماس» ليست أقل. كذلك ثمّة مسؤولية على محور الاعتراض والمقاومة أو «الممانعة». تدارك نقطة الضعف الفلسطينية مسؤولية لا تقتصر على الفلسطينيين. قمة دمشق الأخيرة مطالبة بدور فعّال في هذا السياق. لا تستقيم المواجهة في المنطقة دون دور فلسطيني سليم وفعّال، ولا تستقيم كذلك، إلا بدعم هذا الدور من ضمن استراتيجية عربية متكاملة. سعد الله مزرعاني (الحزب الشيوعي اللبناني)


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني