جدار الكراهية في غزة
جدار الكراهية في غزة
ثور الكثير من اللغط حاليا في مصر حول الأنباء التي ترددت حول قيام السلطات ببناء جدار حديدي بعمق 18 مترا على الحدود مع قطاع غزة لاغلاق الأنفاق ومنع التهريب، وتشديد الحصار على مليون ونصف مليون فلسطيني، وبينما يؤكد جيفري فيلتمان مساعد وزير الخارجية الامريكي ومتحدثون عن وكالة غوث اللاجئين بناء هذا الجدار الفولاذي، تلتزم السلطات المصرية الصمت، وتترك مهمة الدفاع عن هذه الخطوة، غير القانونية وغير الأخلاقية، لبعض الصحف المقربة منها، وبطريقة تذكرنا بمهزلة مباراتي الجزائر ومصر في تصفيات كأس العالم.
أبناء قطاع غزة يواجهون حاليا حرب ابادة بشرية، تعتمد على اسلوب القتل البطيء، تفرضها وتنفـــذها الحكـــومة الاسرائيــلية، بدعم مــن الولايات المتحدة الامريكية وتواطؤ حكومات عربية، من بينها او على رأسها الحكومة المصرية.
نائب وزيرة الخارجية الامريكية قال صراحة، ان الجدار مشروع مصري خالص، يتم داخل الاراضي المصرية، بينما تؤكد كل التقارير انه مشروع امريكي اسرائيلي في الاساس، يأتي تنفيذا لاتفاق وقعته السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية السابقة مع نظيرتها الاسرائيلية تسيبي ليفني، اثناء العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة أواخر العام الماضي ومطلع العام الحالي.
صفائح الفولاذ التي تستخدمها السلطات المصرية في بناء هذا السور، والمضادة للقنابل، مصنوعة في الولايات المتحدة، وبتمويل من وكالة الاستخبارات الامريكية (سي. آي. ايه). وأكد شهود عيان في مدينة رفح ان العمل جار على قدم وساق، وان نصف المشروع قد جرى اكماله.
صحيفة 'الجمهورية' المصرية دافعت يوم امس بشراسة عن اقامة هذا الجدار الحديدي تحت الارض، مؤكدة انه 'حق سيادي' تمارسه القاهرة لتأمين حدودها. وقالت الصحيفة في افتتاحيتها 'الاسلوب الذي يتم به تقوية أساسات الجدار القائم متعارف عليه في العالم كله، ويطبق في ناطحات السحاب حيث تكون الأساسات من الواح الصلب'.
نفهم ان تستخدم الحكومة الاسرائيلية اساليب النازيين نفسها في تحويل قطاع غزة الى معسكر اعتقال كبير، تمهيدا لحرق أبنائه في أفران غزو جديد تعد له حاليا، وبتحريض من حاخاماتها الذين أصدروا فتوى مؤخرا باعدام كل الاسرى الفلسطينيين، في حال مقتل الاسير غلعاد شليط، ولكن ما لا نفهمه ولا يمكن ان نتقبله ان تشارك الحكومة، وليس الشعب المصري، في مثل هذه الجريمة، خوفا من الاسرائيليين، وارضاء للادارة الامريكية، ودون أي مقابل، غير المزيد من الذل والهوان.
واذا كانت الحكومة المصرية تريد ممارسة ضغط سياسي على حماس لقبول ورقتها، فلا يعقل أن تبني جدارا سيعاقب أهل غزة جميعا لتحقيق هذا الهدف.
ومن المؤسف والمحزن معا، ان اوساط النظام المصري تشيع حاليا بأن بناء الجدار يحمي مصر من عقوبات دولية، بحجة عدم مشاركتها بفاعلية في الحرب على الارهاب، وهو تبرير سخيف يكشف عن استخفاف بعقول ابناء مصر الطيبين قبل عقول العرب والمسلمين، لأن استمرار مشاركة الحكومة المصرية في فرض الحصار على قطاع غزة، وحتى دون بناء الجدار، هو الذي سيعرّض مصر لمثل هذه العقوبات، مثلما سيعرضها الى غضب اصحاب الضمائر الحية في العالم.
يا لها من مفارقة أن ينجح النشطاء العرب والمسلمون والاجانب في استصدار أمر من محكمة بريطانية باعتقال تسيبي ليفني، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، بينما تستطيع ليفني أن تزور مصر في اي لحظة دونما اي قلق.
وفي الوقت نفسه تتواتر الانباء حــول بناء الجدار المصري لخنق اشقاء عرب ومسلمين، ظلوا لأكثر من ثلاثين عاما خاضـــعين للســيادة المصـــرية والحكم الاداري العســـكري المصري، حتى وقعوا تحت الاحتلال الاسرائيلي عام 1967.
النظام المصري يريد ان يحوّل ابناء قطاع غزة الجوعى المحاصرين الى اعداء لمصر وشعبها، وتصوير اسرائيل في المقابل كدولة صديقة، حريصة على أمن البلاد واستقرارها. فالخطر هو غزة، والمقاومة المشروعة فيها، والأنفاق التي تعتبر شرايين الحياة الوحيدة لأكثر من مليون ونصف مليون انسان يرتبط معظمهم بروابط دم وقرابة مع اهلهم في الجانب الآخر من الحدود.
' وظيفة النظام المصري، ونقولها بمرارة، باتت محصورة في كيفية حماية الاسرائيليين، سواء من الفلسطينيين الذين يمارسون حقهم في المقاومة المشروعة لاستعادة حقوقهم المغتصبة، او من المتسللين الافارقة، الذين يحاولون عبور الحدود الى فلسطين المحتلة بحثا عن لجوء يضمن لهم لقمة عيش مريرة، مغموسة بالذل والعنصرية، بعد ان ضاقت بهم السبل في بلدانهم.
ابناء قطاع غزة لا يمكن ان يهددوا أمن مصر، لانه امنهم، وشعبها هو عمقهم الاستراتيجي، وسندهم الاساسي الذي قدّم آلاف الشهداء انتصارا لقضيتهم، ولا يريد اهل غزة ان يعيشوا على الانفاق التي اضطرهم الحصار لحفرها، بل يريدون فتحا منظما وطبيعيا للمعبر، تطبق عليه قوانين مصرية، كما يحدث في اي منفذ حدودي آخر. الا ان النظام المصري يأبى الا أن يفرض الحصار عليهم ويتباهى بمصادرة اكياس اسمنت او علب حليب، او حتى ابقار هرمة كانت في طريقها الى الفقراء المعدمين، بمناسبة عيد الاضحى المبارك.
الفلسطينيون عندما اقتحموا سور رفح في انتفاضة جوعهم، قبل عام ونصف عام، لم يرتكبوا اي مخالفة في الطرف الآخر من الحدود، ولم يسرقوا رغيف خبز واحدا وهم الجوعى، بل تصرفوا بطريقة حضارية لم يتصرف مثلها ابناء سان فرانسيسكو ولوس انجيليس خلال عمليات النهب والسلب التي مارسوها اثناء انتفاضتهم ضد الشرطة الامريكية وقمعها.
' ' '
لا نعرف اسباب كراهية النظام المصري لابناء قطاع غزة على وجه الخصوص، والانحياز الى الجانب الاسرائيلي في قمعهم وحصارهم وتجويعهم، فلم يسئ هؤلاء لمصر ابدا.
نحن على ثقة من أمرين اكيدين، الاول ان الشعب المصري وقواه الحية لا يمكن ان يقبل بجدار الكراهية والهوان الذي تقيمه حكومته على حدودها مع قطاع غزة، والثاني ان ابناء القطاع، وغريزة حب البقاء المتأصلة في نفوسهم، لن تعوزهم الحيلة للتغلب على هذا السور.
فأبناء القطاع الذين طوّرت عبقريتهم الصواريخ التي تجاوزت السور الاسرائيلي الالكتروني، بعد ان عجزوا عن مواصلة العمليات الاستشهادية، وابناء القطاع الذين اتوا بحمار ابيض وحوّلوه الى حمار وحشي رسما وتخطيطا، لرسم ابتسامة الفرحة على شفاه اطفالهم في يوم العيد اثناء زيارتهم لحديقة حيوان بائسة، سينجحون حتما في اختراق هذا السور بطريقة ما، واذا استشهدوا جوعا في حرب الابادة التي تُشّن عليهم فإنهم حتما سيستشهدون واقفين، رافعين رأس الكرامة عاليا
.
القدس العربي(عبد الباري عطوان)