PCP

يا عمال العالم اتحدوا

لماذا رفضت لقاء أوباما؟

لماذا رفضت لقاء أوباما؟ كانت دهشتي عظيمة عندما قال المتصل: أنه من رئاسة الجمهورية، وحين سأل عن العنوان الذي أقترح أن تصل عليه دعوتي رسميا لحضور حفل إلقاء خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما بجامعة القاهرة، كانت تظهر على شاشة تليفوني المحمول عبارة 'رقم خاص' باللغة الإنكليزية، وهو ما يعني ـ غالبا ـ دخولا على الخط من دوائر اتصالات جهات أمنية، وكان ذلك هو السبب الذي جعلني أهمل الرد حين ظهرت العبارة قبلها بنصف ساعة، وفي حوالي الثانية عشرة ظهر الإثنين الأول من حزيران (يونيو) 2009، كان ظني أن المتصل ـ كالعادة ـ من ضباط جهاز مباحث أمن الدولة، وأنا لا أطيق رذالاتهم وتهذيبهم المصطنع، وقد تعود هؤلاء على الاتصال للتهديد كلما أعلنت حركة كفاية عن تحرك في الشارع، وكانت كفاية قد أعلنت عن تنظيم مؤتمر صحافي للقوى الوطنية واعتصام احتجاجي في ميدان التحرير عشية إلقاء خطاب أوباما في الرابع من حزيران (يونيو)، ولم أكن أريد الرد، ولا الدخول مجددا في المشاجرة اللفظية الحامية، والتي تبدأ عادة من جانبي باستنكار اتصالات أمن الدولة، وتنتهي بالتهديد ـ من جانب الضابط ذي الاسم المستعار ـ باعتقالي واعتقال أي متظاهر أو متظاهرة في الشارع، وحين تكرر إزعاج 'الرقم الخاص'، وجدت إصبعي يضغط في ضيق على زر استقبال المكالمات، وبدوت في حالة تأهب، وربما استنفار لمعركة حربية لفظية مع ضابط أمن الدولة الذي تصورته، ثم تغير مزاجي قليلا مع كشف المتصل عن هويته، فقد تحدث بطريقة غاية في الأدب والتهذيب، وقال أنه من رئاسة الجمهورية، وأنه يريد إيصال الدعوة الرسمية الموجهة لشخصي، وأعدت عليه عنوان سكني الذي كان لديه بالطبع، وأرشدته ـ كما طلب ـ لأبسط طرق الوصول، وانتهى الكلام بالسلام، وكدت أنسى القصة، وأخذت احتياطي النفسي، فربما تكون مداعبة ثقيلة من صديق رائق المزاج، وخرجت إلى تسجيل تليفزيوني، بينما كان رجلان من أمن الرئاسة على باب شقتي في عمارة سكنية كالحة بمنطقة الهرم، وحيث لامصاعد، والمصابيح نصف منطفئة على السلم المترب إلى الدور الخامس الذي به شقتي، رفض الرجلان تسليم الدعوة للبواب، وصعدا مع زوجة البواب إلى باب الشقة، ومع صوت الجرس خرجت السيدة زوجتي إليهما، ووقعت مشكلة صغيرة، فقد صمم الرجلان ـ للوهلة الأولى ـ على تسليمي الدعوة بصفة شخصية، وبحسب التعليمات، وحين تراءى لهما أنني بالفعل خارج البيت، كان الرجلان ـ كل على حدة ـ يوالي اتصالاته برؤسائه، ودهشت زوجتي، فقد كان يكفي ـ في نظرها ـ أن يتصل أحدهما للإستئذان في التصرف، لا أن يتصل كل منهما برئيس مختلف، ولذات الغرض، وقلت لها ـ مفسرا ـ أنه طبع أجهزة الأمن في بيت الرئاسة، ورغبة كل جهاز في أن يراقب الآخر بحسب العادة المرعية، المهم أنه تحقق المراد، ووافق الرجلان المهذبان على تسليم خطاب الدعوة لزوجتي، وبشرط التوقيع وبيان الصفة . وحين وصلني خبر تسلم الدعوة بالفعل، كانت دهشتي لاتزال تراوح مكانها، وزحفت الدهشة إلى وجوه كل الذين عرفوا الخبر من بعدي، فأن توجه الدعوة لمئات الأشخاص في مصر، ومهما كانت وظائفهم ومقاماتهم ومعارضاتهم، فهذا أمر طبيعي، ويدخل في حدود التوقع، لكن ما بدا خارج التوقع هو دعوتي بالذات، فبيني وبين رئاسة الجمهورية ماصنع الحداد وما لم يصنع، وما يشبه الثأر، وعقد كامل من صدام متصل، بدت فيه رئاسة الجمهورية كأنها تكرهني كراهة التحريم، وكنت ـ ولا أزال ـ أبادلها كرها بكره، والمسألة ـ على أي حال ـ أكبر من دواعي ومضاعفات الشعور، فقد كنت ـ ولا أزال ـ هدفا لضربات انتقام شهواني بالتجويع وبالترويع والمطاردات المجنونة، والسبب ـ كما هو معروف ـ دوري الذي أعتز به في كسر الخطوط الحمراء، وجعل الرئيس شخصيا في عين عاصفة نقد غير مسبوقة في التاريخ المصري بإجمال، وتأسيس مدرسة نقد الرئيس في الصحافة المصرية، والكشف الجارح لخطايا حكم العائلة من وراء القناع الجمهوري، ثم أدواري المضافة في تأسيس حركة ' كفاية ' وإطلاق البيان التأسيسي لائتلاف المصريين من أجل التغيير، وبدا التصرف عصبيا ـ مزادا ومتقدأ وهائجا ـ على الجهة المقابلة، ربما لايتسع المقام لشرح تفاصيله، فلم يمر عليّ أسبوع ـ طوال عشر سنوات خلت ـ بغير ضغط أو تهديد، ضغوط أمنية ملحة على مكاتب الفضائيات في القاهرة لمنع أو تقييد استضافتي، وانتقال بالضغط إلى عائلة حكم خليجية لوقف عامود يومي لي ـ استمر قبلها لعشر سنوات ـ في صحيفة معروفة، كان القصف الأول بالتجويع في نهايات 2003، وكنت وقتها رئيسا لتحرير جريدة 'العربي'، وفي نهايات 2004 جرى حادث خطفي وتعذيبي ورميي عاريا في صحراء المقطم، وفي نهاية 2005 قرروا الانتقام بإسقاط ضياء الدين داود ـ ناشر 'العربي' ـ في دائرته فارسكور بقلب الدلتا، وفي نهاية 2006 بدا الضغط متلاحقا متزايدا بكثافة، وصدر تقرير غير مسبوق وغير ملحوق عن مجلس يترأسه صفوت الشريف الأمين العام للحزب الحاكم والأذن الأقرب لخلوة مبارك، واتهمني التقرير ـ وجريدة 'الكرامة' التي كنت انتقلت لرئاسة تحريرها ـ بإهانة الرئيس، وسرت الضغوط منطوقة ومكتومة من بيت الرئاسة ومباحث أمن الدولة، وإلى أن جرى إقصائي ـ بالأمر المباشر ـ عن رئاسة تحرير 'الكرامة'، وهي الضغوط ذاتها التي تكررت وتلاحقت بصورة أعنف مع انتقالي لرئاسة تحرير 'صوت الأمة'، وانتهت بإبعادي عن كل رئاسات التحرير، ومنعي من الكتابة نهائيا في أي صحيفة تصدر داخل مصر، وخصوصا بعد أن جرى انتخابي منسقا عاما لحركة 'كفاية' أواسط كانون الثاني (يناير) 2009، واستمرت الملاحقات بترديد منتظم لشائعات أمنية عن اختفائي، وكنوع من التمهيد لعمل إجرامي استئصالي، وكان بيت الرئاسة حاضرا ـ بالأب والأم والإبن ـ في كل ما جرى، وقبل عامين، وبعد إخراجي من رئاسة تحرير جريدة 'الكرامة'، كان صحافي معروف مقرب من الرئيس يتحدث في برنامج تليفزيوني حكومي أمني اسمه 'حالة حوار'، وفجأة خرج عن نص النفاق الفولكلوري المعتاد، وقال أن الرئيس لا يكره النقد لشخصه في الصحافة، وقدم ما تصوره دليلا دامغا، وهو أن مبارك قال له: لامانع عندي من وجود الأستاذ عبد الحليم قنديل على طائرة الرئاسة في الرحلات الخارجية، وقد سئلت وقتها عن رأيي، وقلت: أنني لا أسعى ولا أشرف، وبدا الأمر وقتها ـ على أي حال ـ كمجرد افتراضات وتمارين ذهنية، لكن دعوة رئاسة الجمهورية ـ هذه المرة ـ رسمية تماما، وبخاتم الرئاسة الأزرق، وباللغتين العربية والإنكليزية، وهو ما استثار الدهشة، وبدت معه الدعوة ـ إن كانت اختيارية لأصحابها ـ نوعا من التطور في المواهب التمثيلية لبيت الرئاسة، وكأنهم قرروا بعد أن قتلوا القتيل أن يمشوا في جنازته على طريقة المثل الشعبي المصري المعروف، وأن يدعونه ـ بالمرة ـ للمشي معهم في جنازة بلا صاحب وبلا كفن . وربما بدا في القصة تفسيرا آخر ربما كان واردا، فقد تعرضت الإدارة الأمريكية لحملات انتقاد بسبب رحلة أوباما،'وما تنطوي عليه من دعم لنظام الديكتاتور المصري، وجرى الترتيب للزيارة بمشاركة وفد 'المقدمة' الأمريكي مع رئاسة الجمهورية المصرية، وربما مال الأمريكيون أو أمروا بإدراج اسمي رغم معارضتي الثابتة للسياسة الأمريكية، وهو تفسير يبدو منطقيا، لكنه بدا كسبب منطقي إضافي لرفضي تلبية الدعوة، والامتناع عن حضور حفل خطاب أوباما، وإذا كانت دعوتي مثيرة للدهشة، فربما لا يكون من محل لدهشة في رفضي تلبية الدعوة، فقد تحول الحفل إلى معسكر أمني، وفي بطاقة الدعوة نفسها بدت الدواعي الأمنية غالبة، وفي نص التعليمات: أنه غير مسموح بإحضار لافتات أو علامات، وغير مسموح بإبداء التعليقات من باب أولى، أي أنك مدعو ـ فقط ـ كقطعة ديكور لزوم التصوير، وهو مالا يليق بشخص يحترم نفسه، أضف إلى ذلك إيحاءات الزيف، فوجود معارضين في الصورة يوحي بأننا في مجتمع ديمقراطي، والحقيقة ليست كذلك طبعا، فمبارك'ديكتاتور بلا شرعية، كانت تلك عقيدتي وتظل، ولا يليق بمثلي أن يلعب دور شاهد الزور، فوق أنني التزمت ـ بالطبع ـ بقرار حركة كفاية عدم تلبية دعوات تتصل بزيارة أوباما، وإعلانها ـ المبكر ـ أن الزيارة دعم لإسرائيل ولديكتاتورية النظام المصري، واعتقادها الراسخ أن التغيير في مصر لن يحدث من مكتب الرئيس الأمريكي، بل بائتلاف اجتماعي وسياسي واسع، وبأساليب المقاومة المدنية والعصيان السلمي. كاتب مصري/ عبد الحليم قنديل


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني