الخسائر السياسية لـ «حرب غزة»
الخسائر السياسية لـ «حرب غزة»
باتريك سيل ــ بعد أن هدأ دوي المدافع وزخات الرصاص، وانجلت الغيوم الفوسفورية عن سماء حطام غزة المنكوبة، بما يمنح سكانها بعض الوقت لِلأَم الجراح والعويل على الأحباب القتلى والمفقودين، ها قد بدأ جرد الخسائر السياسية لهذه الحرب الإسرائيلية المخبولة، وإحصاء عثراتها من هذه الزاوية. فبالكاد سلمت أي من العلاقات الإقليمية داخل المنطقة وخارجها من تداعيات هذه الحرب. إحدى هذه العلاقات، تلك التي تربط بين المملكة العربية السعودية وواشنطن. ففي مقال رأي غير مسبوق، تم نشره في صحيفة "فاينانشيال تايمز" الصادرة في الثالث والعشرين من يناير المنصرم، حذر الأمير تركي الفيصل، مدير المخابرات السعودية وسفير المملكة لدى كل من أميركا والمملكة المتحدة سابقاً، من تأثر العلاقات بين بلاده وواشنطن، فيما لو عجزت إدارة أوباما عن كبح جماح دموية النظام الإسرائيلي. ومن بين الفقرات الرئيسية التي وردت في المقال ما يلي: "فإذا ما أرادت الولايات المتحدة الأميركية مواصلة دورها القيادي في الشرق الأوسط، والحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية، لاسيما العلاقات الخاصة التي تربط بينها والمملكة العربية السعودية، فإنه يتعين عليها أن تراجع مجمل سياساتها المتبعة إزاء كل من إسرائيل وفلسطين". ويمثل هذا البيان الصريح دليلاً على استعداد لبدء تفعيل الثقل الدبلوماسي العربي وإبراز وزنه في التعامل مع واشنطن، وهو أمر لطالما ترددت الكثير من الأنظمة العربية المعتدلة في الخطو نحوه. هذا وقد عرف عن العالم العربي عجزه عن إسماع صوته أو إشعار واشنطن بقوة نفوذه. ويعود السبب الرئيسي وراء هذا العجز إلى تقصير العالم العربي في بلورة رأي عربي مؤثر داخل الولايات المتحدة الأميركية. وعلى عكس ذلك تماماً، نجحت إسرائيل في التأثير على كافة الحكومات الأميركية التي تعاقبت خلال العقود الماضية، لا لشيء سوى تحول إسرائيل إلى قوة مؤثرة على السياسات المحلية الأميركية.
وربما بدأت التغيرات تطرأ نوعاً ما على سياسات واشنطن الخارجية. فقد أبدى الرئيس أوباما -حسبما يشير مضمون آخر خطاب له- أهمية أن تبدأ بلاده بإعادة بناء جسور جديدة للتواصل مع العالم العربي الإسلامي. وعليه يشير الواقع الحالي إلى ضرورة إسراع الحكومات العربية لاستغلال هذه الفرصة، للتعبير عن مواقفها ورؤاها لطبيعة العلاقات بينها وواشنطن، بذات القوة التي عبرت عنها المملكة العربية السعودية.
ومن بين العلاقات التي تأثرت سلباً بحرب غزة، تلك التي تربط ما بين إسرائيل وتركيا. وقد تجلى هذا التأثير على نحو واضح، في التراشق اللفظي المثير الذي حدث بين رئيس الوزراء التركي، والرئيس الإسرائيلي، أثناء اجتماعات قمة دافوس الاقتصادية العالمية التي عقدت الأسبوع الماضي. والمعروف عن تركيا وإسرائيل أنهما ظلتا دولتين حليفتين، بل حتى شريكتين استراتيجيتين. وقد بلغت بهما الشراكة حداً وضع سوريا -على سبيل المثال- أمام مواجهة خطر هجوم إسرائيلي-تركي مشترك عليها في عام 1998. لكن ومنذ التاريخ المذكور، طرأ تحسن ملحوظ على علاقات تركيا بدول العالم العربي، وخاصة مع سوريا، في حين فترت وبردت علاقاتها مع حليفتها إسرائيل.
وخلال الأسبوع الجاري، ووفقاً لتصريح رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان لصحيفة "واشنطن بوست"، فقد بادرت بلاده بالقيام بدور الوساطة بين إسرائيل وسوريا، وكذلك بين باكستان وإسرائيل، إلى جانب وساطتها بين إسرائيل ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. بل قال أردوغان إن بلاده بادرت حتى بالتوسط بين إسرائيل وحركة "حماس"، بغية إطلاق الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حركة "حماس"، جلعاد شاليط، على أن تتعهد إسرائيل من جانبها بإطلاق رئيس البرلمان وغيره من الأعضاء البرلمانيين الفلسطينيين الذين تعتقلهم في سجونها. وقال: "إن العالم لم يحترم بعد الإرادة السياسية للشعب الفلسطيني. وعليه فقد تحولت فلسطين اليوم إلى سجن كبير مفتوح". ثم مضى أردوغان في جرد الدمار الذي خلفته الحرب بقوله: هناك ما لا يقل عن 1300 قتيل، و6 آلاف من الجرحى والمصابين، ولم تعد هناك في القطاع بنية تحتية أو مبان، لأن غزة تحولت إلى حطام تام. وفوق ذلك فهي مغلقة وتحت الحصار الكلي.
وأثناء التراشق اللفظي الذي تم بينه والرئيس الإسرائيلي، اتهم أردوغان إسرائيل بأنها دولة تجيد فن القتل. وعلى إثر خروجه غاضباً من اجتماع دافوس المذكور، تحول أردوغان إلى بطل وطني في عيون شعبه، الذي يعبر عن رأي عام كاره لإسرائيل، بينما أثنى عليه الكثيرون في العالمين العربي والإسلامي. غير أن ما فعله أردوغان بملاسنته تلك مع الرئيس الإسرائيلي، فضح المواقف الأوروبية التي أسهمت في تضييق الخناق والحصار الإسرائيلي الوحشي لسكان القطاع.
ثم إن رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، المبعوث الحالي للرباعية الدولية لمنطقة الشرق الأوسط، هو كذلك أحد المتأثرين بهذه الحرب. فعلى رغم حساسية مهمته التي تتطلب قدراً كبيراً من الحياد، لم يجرؤ بلير على زيارة القطاع طوال العام الماضي أو نحوه، بفعل تأثير سياسات كل من إسرائيل وواشنطن إزاء حركة "حماس". ولكن يبدو أن رأي بلير تغير الآن، فقد بدر منه مؤخراً ما يشير إلى قناعات جديدة تجاه العملية السياسية الرامية إلى حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وفيما يبدو، تأثر بلير بالمجازر التي شهدها القطاع جراء العدوان الإسرائيلي الوحشي.
كما تركت هذه الحرب تأثيراتها على علاقات فرنسا بإسرائيل. فحتى وقت قريب جداً، لم يعرف للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، تفويت فرصة واحدة لم يغتنمها لتأكيد كونه "صديقاً لإسرائيل". غير أنه تبين عملياً عجزه عن التأثير بأي درجة من الدرجات، على عملية اتخاذ القرار الإسرائيلي، أو كبح جماح آلتها العسكرية. فقد خابت كل المساعي التي بذلها ساركوزي للحيلولة دون شن الحرب الأخيرة، ولم تضع إسرائيل لوساطته وزناً ولا حساباً، بل اضطرت وزارة الخارجية الفرنسية الأسبوع الماضي، إلى استدعاء السفير الإسرائيلي لدى باريس لتسلمه مذكرة احتجاج شديد اللهجة على احتجاز الجنود الإسرائيليين لوفد دبلوماسي أوروبي في معبر "إريتز" بين إسرائيل وقطاع غزة لمدة ست ساعات كاملة. والأخطر من ذلك إطلاق الجنود الإسرائيليين طلقات تحذيرية في الهواء في وجه الوفد. وبالنتيجة ها هي فرنسا تدفع الآن بجهود دبلوماسية جديدة، تهدف لإقناع الأوروبيين ببدء اتصالات بحركة "حماس". وخلافاً للغضب العالمي إزاء هذه الحرب، خرجت إسرائيل وهي تتباهى بمنعة آلتها العسكرية، وبتسويتها للقطاع مع الأرض وتدميره بالكامل. غير أنه ليس مرجحاً لهذا الزهو العسكري أن يستمر طويلاً، ما أن تحسب الخسائر السياسية التي جنتها من الحرب.
الاتحاد