PCP

يا عمال العالم اتحدوا

الأزمة المالية ونهاية الليبرالية

الأزمة المالية ونهاية الليبرالية يختلف العالم كله حول الأزمة الحالية, فالإسلاميون يرون فيها عقاباً إلهياً للفاسقين, والاشتراكيون يرون فيها انهياراً للنظام الرأسمالي, والرأسماليون يرون فيها إما خطأً للمصارف المركزية بتخفيض سعر فائدتها أو مغامرةً للمديرين التنفيذيين في المصارف والمؤسسات المالية, لكن معظم الباحثين يؤكدون أن الأزمة الحالية هي الأسوأ، وهي أزمة بنيوية عميقة وليست عارضة بما تمثله من فشل لعصر الرأسمالية المالية بكل أرباحها الخيالية المصطنعة، إذ تدار الأموال في مؤسساتها كما تدار على طاولات القمار. بالعودة إلى الوقائع التاريخية وبالمتابعة الدقيقة لكل الآراء الصادرة للخروج بصورة متكاملة عن الأزمة وأسبابها ونتائجها المتوقعة, يمكن القول بأن البلدان الرأسمالية قد خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة بما تكلفته من أموال طائلة، وبما خلفته من خراب وديون استدانتها من الولايات المتحدة في التحضير للحرب، حتى وتعويضات مالية ضخمة على ألمانيا. في هذه الأجواء السيئة تداعى الجميع للاتفاق على نظام دولي, فعقد مؤتمر بريتون وودز عام 1944 مؤسساً لصندوق النقد الدولي وللمصرف الدولي، والذي حضره الاتحاد السوفييتي دون أن يصدق على النتائج، ذاهباً نحو تأسيس نظام نقدي خاص للكتلة الاشتراكية، ومعتمداً على تسمية المدفوعات فيما بينهم بالروبل الذهبي. هذا المؤتمر الذي أقر آلية الإقراض الدولي مع تثبيت أسعار العملات وآلية تقلباتها، باعتبار الدولار الأمريكي هو المقياس العام، مقابل تعهد الولايات المتحدة بإبدال الدولار بالذهب وبالسعر الثابت (35 دولاراً للأونصة) لما تملكه من مخزون ذهبي عالمي وصل إلى (70%). بعد المؤتمر وانتهاء الفوضى المالية والنقدية، وجد العالم الرأسمالي نفسه في مواجهة الكتلة الاشتراكية الصاعدة، والمطالب النقابية العمالية التي تنامت في الغرب إضافة إلى المهمات المفروضة عليه في نمو اقتصادي سريع يحقق الازدهار بعد اقتصاد حربي لم يجلب إلا الدمار. فلجأ إلى النظرية الكينزية التي وضعت عام 1936 كأحد الحلول الرأسمالية الاقتصادية لأزمة الكساد الكبرى عام 1929, عبر التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية بكل عناصرها الإنتاجية والتسويقية، من تحسين الضمانات للعمال، إلى تأمين المواد الأولية، إلى آليات التصريف. فظهرت العناوين المختلفة للنجاحات الرأسمالية ممثلة بدولة الرعاية أو الرفاه وباقتصاد السوق الاجتماعي وما إلى ذلك. في بداية السبعينيات ومع توقف الولايات المتحدة عن إبدال الدولار بالذهب، بعد تخفيضه مرتين وبعد انخفاض مخزونها الذهبي إلى ما دون 25%، لجأت الدول الرأسمالية إلى تعويم عملاتها بترك سعر صرفها حراً يتحدد وفقاً للعرض والطلب. الأمر الذي دفع بصندوق النقد الدولي السماح لأعضائه كافةً بتحديد سعر صرف عملاتهم وفقاً لما يشاؤون تعويماً أو ربطاً بعملة أخرى أو بسلة من العملات. من جهة أخرى، وفي ظل الركود الاقتصادي الذي عاد للظهور مع تصاعد السباق التسلحي العالمي, طُرحت الأفكار الليبرالية الجديدة المنادية بإلغاء تدخل الدولة الاقتصادي وبتخفيف الضرائب على الأغنياء وبإطلاق حرية التجارة العالمية وبجعل الاقتصاد سوقاً حرة بلا قيود أو ضوابط وطنية. ولقد حققت تلك الأفكار انتصاراتها الأولية مع وصول تاتشر وريغان إلى الحكم في نهاية السبعينيات. لكنها حققت انتصارها الحاسم مع انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين. هكذا تحولت معظم اقتصادات الدول المختلفة نحو اقتصاد السوق، ودخلت في منظمة التجارة العالمية، إلى أن تراكمت الأموال الطائلة في السوق العالمية الموحّدة باحثة عن الاستثمار والأرباح خارج العملية الإنتاجية التي لم تعد تحتمل المزيد من التوظيفات الاستثمارية. فتحولت الفوائض المالية غير المستخدمة في الإنتاج إلى المصارف والمؤسسات المالية متمتعة بحرية التنقل بلا أية رقابات للدول التي تدخل وتخرج منها بسهولة كاملة. الأمر الذي تسبب بالعديد من الأزمات المالية المحلية: في المكسيك 1995، وفي جنوب آسيا 1997، وفي روسيا 1998، وفي الأرجنتين 2001. هذه الأزمات التي اشترط صندوق النقد الدولي عدم التدخل الحكومي لمواجهة الاختلالات المالية الناجمة عنها مهدداً بانعكاسات سلبية. لكنه مع توحّد السوق المالية العالمية ومع بلوغ الفوائض المالية نحو 90% من الكتلة النقدية العالمية ومع الاتجاه بها نحو المضاربات السريعة نشأ وضع مأسوي على المستوى العالمي. إن ما حصل بعد 15/9/2008 كان أزمة مالية عالمية بانكشاف كبريات المصارف والمؤسسات المالية التي استقطبت تلك الفوائض في الولايات المتحدة وفي أوربا. وتلا ذلك تدهور مستمر في أسواق الأسهم (البورصات)، فقد قامت تلك المصارف بتوسيع الإقراض العقاري تحقيقاً لمصالحها في تشغيل الإيداعات المتراكمة لديها, فيما سعت المؤسسات المالية الأخرى للمضاربة بتلك القروض، التي تم تداولها كسندات لمصارف ومستثمرين جدد. إن كل ذلك قد تسبب في الزيادات الخيالية على الاقتراض العقاري وفي ارتفاعات وهمية مستمرة على أسعار العقارات. لكن توقف العديد من المقترضين عن السداد أدى إلى الهبوط في أسعار تلك العقارات وإلى هبوط حاد في سوق القروض العقارية، وإلى أزمة ثقة لدى المودعين في العديد من المصارف المانحة لتلك القروض. هكذا دبّ الذعر والهلع أوساط المودعين وحملة الأسهم، وتلاحقت فصول الأزمة في الضخ الحكومي لأرقام فلكية من الأموال، وتنوعت أساليب الإنقاذ من إقراض المصارف المركزية للمصارف الأخرى بفوائد منخفضة، إلى التأميم الجزئي لبعض المصارف المنهكة، إلى دخول الحكومة شريكاً في الشركات المهددة بالانهيار. بالنتيجة فإن النظام الرأسمالي الذي تحدّث عنه ماركس قد تحول في معظمه من إنتاج السلع إلى العمل المالي الصرف, فأضحت صناعة المال جوهر العمل الرأسمالي، فيما تراجعت العمليات الإنتاجية والخدمية إلى الحلقات المكملة والثانوية. فتعاظم حجم الأرباح المتحققة من تدوير الأموال والأسهم والسندات ومن المضاربة في العقارات والنفط والمعادن وحتى المواد الغذائية، قياساً إلى الأرباح المتحققة في الصناعة والزراعة والسياحة ومختلف الخدمات. لكن ما يحدث اليوم في مختلف بورصات العالم يفقد الأسهم أجزاءً مهمة من قيمتها الاسمية، موجهاً الضربة القاضية لليبرالية الجديدة وطارحاً مسألة استعادة الدولة لدورها الاقتصادي في النظام الرأسمالي القائم. هكذا فربما نشهد في الأيام القادمة نهاية السوق الحر وآلياته، وربما تستعيد الكينزية ألقها من جديد. لؤي حاج بكري جريدة النور


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني