التحريفيه و انهيار الاتحاد السوفياتي -2
في الجزء الاول تطرقت الى التحول الذي طرأ على الأساس الاقتصادي للمجتمع السوفييتي نتيجة لسياسة التحريفيين الخروشوفيين المعادية للماركسية ولكن التحولات لا يمكن في الواقع إن تقتصر على الأساس الاقتصادي بدون إن تؤثر وتتأثر بالبناء الفوقي إي الكيان السياسي والفكري والإيديولوجي. فاي تغيرات طرأت على البناء الفوقي ؟. سوف لا اتناول القضايا وفق تسلسلها التاريخي بل سوف ابحث في الظواهر حسب تطورها ونتائجها. لأول مرة كشفت القيادة الخروشوفية فيها عن حقيقتها المعادية للماركسية إمام العالم كان المؤتمر العشرون سنة 1956.في هذا المؤتمر وضعت في الواقع جميع الأسس التي ميزت السياسة السوفييتية في العقود التالية وحتى السقوط . أهم ما ميز المؤتمر العشرين كان الهجوم على ستالين. ولم يكن الهجوم على ستالين انتقادا مبدئيا يناقش أخطاء وقع فيها ستالين بل كان تهجما صبيانيا جمع كل الاتهامات التي ألصقتها بستالين أبواق الدعاية الامبريالية منذ وفاة لينين وحتى الهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي (إذ بعد هذا الهجوم كانت فترة سكوت أو فترة تملق لستالين وامتداح كفاءاته العسكرية والسياسية) وأضاف إليها خروشوف من عنده بطريقته الرعناء ليقدمها إلى العالم على أنها انتقاد لستالين. أخبر خروشوف العالم بأن ستالين كان جاهلا من الناحية العسكرية، لا يعرف حتى قراءة الخرائط. كان يقود الحرب على كرة مدرسية للعالم. وقد ارتعدت فرائضه لدى اقتراب الجحافل النازية من موسكو وأراد الهرب ولكن خروشوف ورهطه أجبروه على البقاء فيها. وأكد على إن ستالين لم يكن لديه ما يفعله سوى قتل الناس بالجملة وما شابه ذلك مما كان يُكتب على صفحات الجرائد والمجلات الامبريالية قبل الحرب. واستمر عدد قتلى ستالين وضحاياه بالازدياد المطرد حتى يومنا هذا حيث أصبحنا نسمع عن عشرات الملايين من الضحايا الذين قتلهم ستالين. وطبيعي إن هذا العدد يمكن زيادته. فقتلى حرب التدخل التي شنتها كل الدول الامبريالية لتحقيق شعار تشرشل بخنق الثورة في المهد, والحرب الأهلية ، وحتى الملايين التي قتلت في الدفاع عن وطن الاشتراكية الأول ضد الغزاة النازيين يمكن إضافتها إلى عدد ضحايا ستالين. ولكن الجريمتين الكبريين اللتين لا يغفرهما الخروشوفيين لستالين، شأنهم في ذلك شأن الامبرياليين، هما أولا الحملة ضد الكولاك كطبقة ، و المحاكمات التي وقعت في الثلاثينات لعدد من خونه الحزب الشيوعي فقد قدم بعض الأشخاص ممن كانوا فيما مضى من قادة الحزب الشيوعي إلى المحاكمة. وقد حكم بالإعدام على عدد كبير منهم. وكانت بين أسماء هؤلاء المحكومين أسماء بارزة مثل بوخارين وكامينيف وزينوفييف وبياتاكوف وغيرهم حيث كانوا يشغلوا مناصب عليا في الدولة. إن بكاء الخروشوفيين والامبرياليين على البرجوازية ليس موجها ضد ستالين و سياساته المبدئيه ، إذ إن أيديهم طالما لطخت بدماء الشعوب. ولكن بكاءهم هو على تلقيهم ضربة لا تقل أهميتها عن ضربة ثورة أكتوبر ولان هذه الضربة أزالت الأمل في إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفييتي. جرت هذه المحاكمات بصورة علنية فيما عدا نصف جلسة من كل محاكمة خصصت لذكر الأسماء السرية وخصوصا أسماء الدييبلوماسسين الأجانب الذين لم تشأ المحكمة ذكر أسمائهم وأدوارهم في جلسات المحاكمات العلنية. ولكن المحكمة أعلنت بعد الجلسة السرية عن انعقادها وعن أسباب انعقادها سريا. حضر المحاكمات جميع الممثلين الدبلوماسيين الموجودين في الاتحاد السوفييتي وحضرها الصحفيون من إرجاء العالم وكان ممن حضروها مبعوث روزفلت وأول سفير أميركي في الاتحاد السوفييتي الذي كتب كتابا بعد عودته إلى أميركا اخرج فيما بعد بفلم "مهمة في موسكو". وكان رأي هذا السفير الأميركي على الأقل إن المحكمة كانت محكمة عادلة . فهل كان من المبتلين بعبادة الشخصية!؟ وأسماء بوخارين وكامينيف وزينوفييف معروفة بجدالاتها النظرية مع لينين أولا ثم مع ستالين. والنقاشات بين هؤلاء وبين ستالين دامت منذ 1924 أي منذ وفاة لينين وحتى الثلاثينات. وفي أواخر العشرينات طردوا من الحزب ولكنهم بعد ذلك قاموا بتقديم رسائل إلى الحزب يعترفون بها بأخطائهم ويتعهدون بالسير مع الخط الصحيح لقيادة الحزب ولستالين. فما كان من قيادة الحزب إلا إن قبلتهم مجددا وإعادتهم إلى مناصبهم أو خصصت لهم مناصب جديدة بحيث إن اعتقالهم قبل المحاكمة جرى وهم ما يزالون رسميا في مناصبهم. فما كان موضوع محاكماتهم إذن؟ هل كانت آراؤهم موضوع المحاكمات؟ كلا. إن من يتتبع المحاكمات لا يجد فيها إي اثر يفيد إن المحاكمات تجري حول أرائهم. كان هؤلاء الأشخاص يعارضون كل خطوة تؤدي حقا إلى الاشتراكية ويريدون دفع الحزب في اتجاه إعادة الرأسمالية. وقد كان هذا موضوع النقاش دائما على صفحات الجرائد وفي الاجتماعات الحزبية ولكن الجواب عليها أيضا كان ينشر في نفس الجرائد ويناقش في نفس الاجتماعات الحزبية وكانت الأغلبية دائما إلى جانب ستالين في هذه النقاشات. ولكن حين تم القضاء على البرجوازية الريفية كطبقة اختفت أخر كتلة بشرية كان هؤلاء الأشخاص يعتمدون على تأييدها. ولذلك لم يعد لهم أمل في النضال الجماهيري وكسب تأييد مجموعات واسعة إلى جانبهم. وحسب أوامر تروتسكي الذي كان يمارس نشاطا سياسيا ضد الاتحادالسوفياتي من عدد من العواصم الغربية وكان زعيما لهذه الكتلة غيروا سياستهم. فبدلا من سياسة الصراع السياسي ومحاولة كسب المؤيدين لأرائهم اتخذوا سياسة التخريب والاغتيالات والتآمر على الدولة. وعلى هذا الأساس قاموا بأعمال تخريب واغتيالات وغير ذلك. وكانت هذه الجرائم هي التي حوكموا عليها. كان الموضوع الثاني الذي حوكموا عليه الخيانة العظمى. كانت المنظمة التي إلفها المتهمون في الاتحاد السوفييتي تسير تحت قيادة تروتسكي الموجود في أوروبا. وقد اعترف المتهمون في إفاداتهم بان تروتسكي عقد اتفاقا مع السلطات النازية للمساعدة على إسقاط الحكومة السوفييتية بإجراء هجوم يقوم المتهمون خلاله بإجراء انقلاب عسكري مقابل منح الألمان أوكرانيا كهدية والوعد بإعادة الامتيازات إلى الشركات الامبريالية وغير ذلك. واعترف بياتاكوف بأنه خلال وجوده في برلين لغرض عقد اتفاقيات تجارية مع بعض الشركات الألمانية دبرت الحكومة الألمانية له جوازا خاصا وطائرة خاصة لتنقله إلى النرويج لمقابلة تروتسكي وتلقي الأوامر منه وقد حكمت المحكمة العسكرية العليا على عدد كبير من المتهمين بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى. نرى من هذا إن المتهمين لم يحاكموا على وجهات نظرهم السياسية أو الإيديولوجية بل على جرائم اقترفوها ضد الدولة وضد الأشخاص. فهل يحق لدولة إن تحاكم رعاياها على جرائم اقترفوها ؟ وهل الحكومة السوفييتية هي الوحيدة في العالم التي لا يحق لها ذلك؟ قال لينين إن دكتاتورية البروليتاريا هي أكثر ديمقراطية إلف مرة من أية ديمقراطية برجوازية. فهل يصدق هذا على هذه المحاكمات أيضا؟ لنقارن بين سلوك دكتاتورية البروليتاريا وبين سلوك الديمقراطيات الغربية أو الحكومة الخروشوفية المتشدقة بالديمقراطية بصدد هذه المحاكمات ذاتها. وفرت المحكمة السوفييتية كل الإمكانيات والظروف التي تسمح للمتهمين بإسماع أرائهم للعالم كله. فكانت الجلسات علنية وكان باستطاعة إي من المتهمين إن يطعن بصلاحية المحكمة أو إن يشير ولو بكلمة واحدة إلى إن اعترافاته أخذت تحت التعذيب أو الإكراه. وكان العالم الرأسمالي كله ينتظر إشارة طفيفة كهذه لكي يقيم الدنيا ويقعدها حول هذه المحاكمات . فما ذنب المحكمة إذا كان المتهمون يعترفون بجرائمهم بدون إن ينبسوا ببنت شفة عما يشير إلى سلوك غير ديمقراطي من جانب المحكمة أو المدعي العام؟ إن من يتتبع سير المحاكمات يرى إن المتهمين وخصوصا بوخارين كانوا يناقشون كل عبارة لا تروق لهم ولا يتجاوزونها إلى إن يتوصلوا مع المدعي العام إلى صيغة يرضون عنها. وكانوا كلهم يعرفون مصيرهم ويصرحون بذلك علنا في المحكمة. كذلك منح كل منهم فرصة للكلام والدفاع عن نفسه أو التعبير عن مشاعره قبل إصدار الحكم فهل كان جميع هؤلاء المتهمين جبناء إلى درجة أنهم لم يجرؤ ولو واحد منهم بمعارضة المحكمة؟ وفي مقابل هذه الديمقراطية نجد الديمقراطية الامبريالية أو ديمقراطية الخروشوفيين إثناء إعادة النظر في هذه المحاكمات ذاتها. فمن المفروض لو أنهم يعلمون إن الحق معهم إن يعيدوا النظر في المحكمة وأن يكشفوا عن الزيف والتضليل الذي وقع فيها أو إن يثبتوا للعالم إن تلك المحاكمات كانت صورية وزائفة. ولكن ما الذي فعلوه فعلا؟ سؤال: هل جرت محاكمتك في عهد ستالين؟ جواب: نعم. إذن برأتك المحكمة وأعادت لك اعتبارك وضمتك إلى قائمة ضحايا ستالين. فشتان بين تلك الديمقراطية وهذه الديمقراطية. إن الفرق بينهما هو الفرق بين ديمقراطية الطبقة العاملة وديمقراطية الامبريالية. يدعي الامبرياليون ثم الخروشوفيين إن المحكومين كانوا من خيرة الشيوعيين الذين رافقوا لينين واشتركوا في الثورة والبناء الاشتراكي وان ستالين حكم عليهم لأنه كان يخاف منافستهم. ولكن منذ متى كان الامبرياليون يدافعون عن شيوعيين جيدين؟ أليسوا هم أعدى أعداء الشيوعية ويريدون إزالتها من على وجه الكرة الأرضية؟ واستنادا إلى ذلك ألم يكن من الأجدر بهم إن يكافؤا شيوعيا "طالحا" مثل ستالين على قتله شيوعيين حقيقيين مثل بوخارين ورهطه؟ إن ما جعلهم يحقدون على هذه المحاكمات ليس حبهم لبوخاريين وتقديرهم له بل لان هذه المحاكمات سدت الطريق مرة أخرى إمام الأمل في إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفييتي, وقد ظهرت نتائج المحاكمات جلية لدى الهجوم النازي. إذ شاهد العالم كله إن البلد الوحيد الخالي من الرتل الخامس كان الاتحاد السوفييتي. ولم يتحقق لهتلر ما أراده من جعل احتلال الاتحاد السوفييتي نزهة للجحافل النازية كما كان الحال في كافة الدول الأوروبية الأخرى التي احتلها مثل فرنسا والنمسا وتشكوسلافيا وغيرها. وهل حقد الخروشوشفيون على ستالين حقا لأنه قاتل وسفاك؟ بالطبع لا. فقد كانت مهمة الخروشوفيين، تدمير الاشتراكيه، و هذا يتطلب شجب الماركسية اللينينية. ولم تكن لهم الجرأة على القيام بمثل هذا الشجب بصورة علنية وصريحة خوفا من رد فعل الشعوب السوفييتية. فكان عليهم إن يجدوا كبش فداء يؤدي شجبه إلى شجب الماركسية اللينينية عمليا. ولم يكن غير ستالين أداة ممكنة لهم في هذا المضمار. كان شجب ستالين، في الواقع، شجبا لمنجزات تلك الحقبة وخطوة في سبيل تدمير كل تلك المنجزات وتحويل شعوب الاتحاد السوفييتي إلى كادحين يخدمون البرجوازيه الوضيعه التي يريدون خلقها من جديد بعد إن اوشكت هذه الشعوب بقياده ستالين في القضاء عليها. وكان شجب ستالين شجبا للبنينية التي كانت الأساس الذي جعل بالإمكان توحيه كافة هذه الشعوب ورصها حول الحزب البلشفي وحول لينين وثم حول ستالين. كان شجب ستالين إذن من مستلزمات السياسة التي اتبعها الخروشوفيين. كان لستالين سلاح امضى من السيف. وكان هذا السلاح الفتاك يرعب الانتهازيين والتحريفيين في الاتحاد السوفييتي وفي كافة إنحاء العالم. سلاح ستالين هذا كان قلمه. ففي كتابات ستالين أوضح شرح لنظريات ومبادئ لينين. كان ستالين هو الذي عرف العالم على اللينينية ومبادئها وثقف بها الشيوعيين وكانت كتاباته اللينينية تتضمن دحضا علميا دقيقا لكافة الآراء الانتهازية والتحريفية التي نشأت في داخل الحزب وخارجه طيلة فترة قيادته للحزب والدولة. ولهذا كان من الضروري بالنسبة للخروشوفيين إخفاء هذه الكتابات عن أعين الشعوب السوفييتية لكي يفلحوا في تمرير نظرياتهم التحريفية والانتهازية. وكان شجب ستالين يستهدف إخفاء كتبه ومؤلفاته. حتى كتاب تاريخ الحزب البلشفي الذي صدر في عهد ستالين اعتبر من مؤلفاته واختفى من الوجود. وقد كاد ان يصبح مستمسكا جرميا في عهد الخروشوفيين. وكتاب الاقتصاد السياسي الذي الفته لجنة من علماء الاتحاد السوفييتي والذي جاء كراس ستالين حول القضايا الاقتصادية للاشتراكية كمساهمة في النقاشات التي حدثت لدى تأليفه صدر في الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين ولكن الخروشوفيين سرعان ما سحبوه من الأسواق بما في ذلك الطبعة الانجليزية. وطبيعي توقف طبع مؤلفات ستالين الكاملة الذي كان يجري في الاتحاد السوفييتي عند الجزء الثالث عشر ولم تطبع بقية المجلدات باللغة الروسية بعد ذلك الا بجهود البلاشفه في ايامنا هذه ،اما وثائق المؤتمر التاسع عشر ،فحدث و لا حرج فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ما زالت سريه وللاطلاع عليها يجب تنفيذ عده شروط مستحيله كاحضار شعره من لحيه الغوله و جزء من قميص عثمان. نرى من كل ذلك إن شجب ستالين كان يستهدف غير الأهداف التي أعلن عنها الخروشوفيين. كان يستهدف شجب الماركسية اللينينية وإخفاء كتابات ستالين عن أعين الناس كمقدمة لتضليلهم. و سوف اعرج لاحقا الى مقارنة بين تحليل ستالين للقضايا النظرية والعملية الداخلية والعالمية وبين ما قدمه الخروشوفيين إلى الشعوب السوفييتية باعتباره تجديد وتطويرا خلاقا للماركسية اللينينية.
عند ستالين لم تنشأ إمكانية التعايش السلمي في الواقع إلا بعد الحرب العالمية الثانية حين نشأ المعسكر الاشتراكي وتقدمت الثورة الصينية بخطوات هائلة نحو دحر حكومة شان كاي شك والامبريالية الأميركية المتحالفة معه. ففي عهد لينين لم تكن ثمة إمكانية للتعايش السلمي وعلى هذا الأساس توصل كما هو معروف إلى حتمية الحرب العالمية. بخلاف ظروف الإحاطة الرأسمالية الذي كان سائدا قبل الحرب العالمية الثانية أصبح المعسكر الاشتراكي يضم دولا عديدة ويغطي جزءا واسعا من العالم. وسياسة المعسكر الاشتراكي لا تحتاج إلى الحرب كجزء من مستلزمات بقائها كما هي الحال في المعسكر الامبريالي. ينجم عن ذلك إن العالم انقسم إلى معسكرين احدهما يعد للحرب ويستخدمها كجزء من سياسته العادية والثاني يريد السلام لان السلام يشكل خير جو لتطوير بنائه ومستوى معيشة شعوبه. استنادا إلى هذا الوضع الذي نشأ في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية توصل ستالين إلى انه بالامكان الوصول إلى ظروف يكون فيها التعايش السلمي ممكنا بين المعسكرين الامبريالي والاشتراكي. ولذلك استنتج إن الحرب العالمية لم تعد حتمية كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية. فما هو هذا التعايش السلمي وكيف يمكن تحقيقه؟ التعايش السلمي هو وضع عالمي تتسع فيه القوى المحبة للسلام وتتعزز إلى درجة تستطيع معها إحباط كل محاولة لإشعال نار حرب عالمية جديدة. وقد كان نداء ستالين الذي أصدره في تلك الأيام "إن السلم سيصان و يتعزز إذا ما أخذت الشعوب قضية السلام في أيديها ودافعت عنه حتى النهاية" الشعار المعبر عن إمكانية التعايش السلمي هذه. نرى من هذا التعريف إن التعايش السلمي لم يكن سوى إمكانية. والإمكانية لا يمكن إن تتحول إلى واقع ما لم تخلق الظروف الملائمة لها. وعلى هذا الأساس نشأت حركة السلام العالمية التي شكلت نواتها شعوب الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وهي حركة ديمقراطية مفتوحة لكل من يحب السلام بصرف النظر عن انتمائه الطبقي أو معتقداته الدينية أو الإيديولوجية. وكانت هذه الحركة حركة منظمة تنظيما بسيطا ولها قياداتها المحلية المنتخبة ومهمتها فضح كل خطوه من شأنها إن تقرب العالم نحو الحرب والنضال ضد الحكومات التي تقوم بذلك بطرقها النضالية الممكنة كعقد الاجتماعات وجمع التواقيع وغير ذلك. فليس ما يشير إلى إن التعايش السلمي كان قائما أو ممكنا في ظروف ما بعد الحرب. انه شعار بعيد المدى تناضل البشرية من اجل تحقيقه. ولم توضع سياسة السلام على أساس حدوث إي تغيير في طبيعة الرأسمالية الحربية لا في الحال الحاضر ولا في ظروف التعايش السلمي الحقيقية لان الحرب من طبيعة الأنظمة الطبقية وخصوصا الامبريالية ولا تزول هذه الطبيعة إلا بزوال الامبريالية ذاتها. إن حركة السلام وهدفها منع وقوع الحرب العالمية الثالثة ليست حركة سياسية تستهدف استبدال نظام سياسي معين بنظام سياسي أخر وإنها لذلك ليست حركة اشتراكية أو شيوعية. فما العلاقة بين حركة السلام والحركات السياسية الثورية كالثورات الاشتراكية وحركات التحرر الوطني؟ هل هناك تناقض بين حركة السلام وهذه الحركات الثورية؟ ليس في نظرية التعايش السلمي الستالينية ما يتعارض والحركات الثورية الأخرى إذ إن نجاح أية ثورة اشتراكية أو أية ثورة ضد الامبريالية من شأنه إن يعزز حركة السلام العالمي ويقربها إلى هدفها. جاء الخروشوشفيون وأعلنوا من على منبر المؤتمر العشرين إيمانهم بالتعايش السلمي. فما هو التعايش السلمي بالنسبة للخروشوفيين؟ انه ظاهرة قائمة يعيش فيها النظام الاشتراكي إلى جانب النظام الرأسمالي بدون حرب. لقد أستبدلوا محتوى التعايش السلمي من حالة لا تستطيع فيها أية دولة إعداد وشن حرب عالمية نظرا لمقاومة حركة السلام لها إلى امكانيه التقاء المعسكرين في منتصف الطريق بل تطرف بعضهم إلى درجة أنهم زعموا إن التعايش السلمي كان موجودا طوال الوقت أيضا. ومن هنا كانوا يقتبسون كل كلمة سلام كتبها لينين على أنها تعايش سلمي. ماذا كانت نتائج تحويل مفهوم التعايش السلمي إلى مفهوم السلام، إي عدم وجود الحرب؟ كانت النتائج وخيمة على حركة السلام وعلى أهدافها وعلى فهم العالم لطبيعة الامبريالية والرأسمالية. فبينما لم تعتمد نظرية التعايش السلمي الستالينية على إي تغير في طبيعة الامبريالية الحربية زعمت نظرية التعايش السلمي الخروشوفية إن الامبريالية أدركت مساوئ الحروب ولذلك أصبحت محبة للسلام. فكان أقطاب الامبريالية مثل أيزنهاور وكندي ونيكسون وحتى ريغان محبين للسلام. وأصبح إنقاذ البشرية من إخطار حرب عالمية جديدة يعتمد على المفاوضات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وكلاهما يؤمن بالسلام ولا يريد الحرب. بل إن تفسير انتصارات مثل انتصار الشعوب الفيتنامية على الامبريالية الأميركية كانتصار لنظرية التعايش السلمي. واقتصر مفهوم التعايش السلمي على عدم وجود حرب ساخنة، رغم اعتراف الجميع بوجود الحرب الباردة. إذ إن العالم لم يشاهد منذ انتهاء الحرب العالمية حتى اليوم يوما واحدا بلا حروب. الحرب الكورية، الفيتنام، ، اندونيسيا، بورما، الفيليبين، فلسطين، جميع إنحاء إفريقيا وأميركا اللاتينية. وتحولت حركة السلام كحركة ملحقة للمفاوضات بين الدولتين العظميين حول السلام ونزع السلاح. كنتيجة للتعايش السلمي الخروشوفي نشأت نظرية نزع السلاح التام الشامل، عالم بلا سلاح، بوجود النظامين ووجود الاستغلال الرأسمالي. وها نحن قد شهدنا مفاوضات نزع السلاح الدائمة التي لم تؤدي سوى إلى خدع الشعوب بمنحها الأمل في نزع السلاح حين تتضاعف أسلحة الدمار وتتنوع يوما بعد يوم. وأصبحت تجارة الأسلحة أهم وسائل الامبريالية و النظام السوفياتي في تخفيف أزماتها الاقتصادية وإدامة بقائها. كيف تستطيع الامبريالية الأميركية تنفيذ مهمتها في باناما أو ترينانادا أو غواتيمالا أو غيرها بدون سلاح؟ هل تحتل باناما بجيش يحمل مناديل حريرية؟ إن مقولة لينين المعروفة بان الرأسمالية لن تتخلى عن السلاح إلى إن تقوم البروليتاريا بنزع سلاح الرأسمالية تبدو أكثر وضوحا اليوم مما كانت عليه بالأمس. فما هو موقف التعايش السلمي الخروشوفي من الثورات البروليتارية وثورات التحرر الوطني؟ إن التعايش السلمي الخروشوفي يتطلب عدم إزعاج أو قلقلة التعايش السلمي القائم. وقد اقتبسوا عبارة الشرارة الشهيرة "من الشرارة يندلع اللهيب" لتطبيقها على نظرية التعايش السلمي إذ كان الخروشوفيين يزعمون إن ثورة صغيرة ضد الامبريالية في منطقة منزوية من العالم قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة. فكان من الطبيعي إن يقوم الخروشوفيين بإطفاء كل شرارة ثورية خوفا من اندلاع اللهيب. فمن الناحية النظرية أصدروا شعارات مثل اختيار الطريق اللا رأسمالي صوب الاشتراكية والدول ذات التوجه الاشتراكي واخذوا يروجون لفكرة إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد. ومن الناحية العملية قاموا بالضغط على الأحزاب الشيوعية ومنع كل من تسول له نفسه التحدث عن أو القيام بأية خطوة ثورية ضد الحكومات البرجوازية. إن تجربة العراق زاخرة بمثل هذه الضغوط التي مارسها "الرفاق السوفييت" عليهم. بل إن ما يدعى اليوم بخط آب 1964 كان نتيجة مباشرة للوعد الذي قطعه خروشوف على نفسه في القاهرة لعبد السلام عارف بالعمل على حل الحزب الشيوعي العراقي أسوة بحل الحزب الشيوعي المصري. بهذا نرى إن ما يدعى التعايش السلمي معاد ومدمر لكل حركة ثورية . وفي المؤتمر العشرين أعلن عن إمكانية التحول إلى الاشتراكية بالطريق السلمي. اعتبر الخروشوفيين إن انتصارات المعسكر الاشتراكي و الاخفاقات التي أصابت النظام الامبريالي جعلت المعسكر الاشتراكي من القوة بحيث إن البروليتاريا لم تعد بحاجة إلى استخدام العنف ضد البرجوازية من اجل تحقيق الاشتراكية وان النظرية اللينينية القائلة بضرورة الثورة الاشتراكية العنيفة أصبحت عتيقة بالية. نعلم إن لينين وستالين ناقشا هذا الموضوع طويلا لان الانتقال إلى الاشتراكية بالطريق السلمي لم يكن من اكتشافات خروشوف كما يزعم بل أعلنته قبله كافة أحزاب الأممية الثانية. ولم يكن أكثر من لينين شخص يحب الثورة إن تكون سلمية وان اللجوء إلى العنف لم يكن سوى نتيجة إلى إن البرجوازية لا يمكن إن تسلم السلطة إلى البروليتاريا بصورة سلمية. فالعنف البروليتاري ما هو إلا رد على عنف البرجوازية بمثله. وحتى لو سلمنا جدلا بوجود إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية بالطريق السلمي فهي تبقى مجرد إمكانية والإمكانية لابد إن تحتمل عكسها، عدم إمكان الانتقال إلى الاشتراكية بالطريق السلمي. ولذلك تعلمنا الماركسية إن نكون مستعدين لكل الظروف بما فيها الاضطرار إلى الثورة العنفية. فإذا تخاذلت البرجوازية وألقت سلاحها في الثورة بدون مقاومة فخيرا على خير. إما إذا قاومت الثورة فلا خيار للبروليتاريا إلا إن تحمل السلاح وان تسقط البرجوازية بثورة عنفية. والواقع هو إن إمكانية التحول السلمي تزداد كلما كان استعداد البروليتاريا للانتقال العنفي اشد واحكم . إلا إن الخروشوفيين فرضوا نظرية الانتقال السلمي على كافة الأحزاب الشيوعية في العالم. فما معنى إن يقول الحزب في برنامجه انه يريد الانتقال السلمي إلى الاشتراكية؟ انه يقول للبرجوازية استعملي العنف ما شئت فنحن لا نقابل عنفكم بالعنف. ومعروف إن تنظيم الحزب ينسجم مع الأهداف التي يريد تحقيقها. ولذلك تحولت الأحزاب الشيوعية العالمية إلى أحزاب تعتمد على الكتل البرلمانية وعلى كسب أصوات الناخبين فتحولت بذلك من أحزاب لبنينية إلى أحزاب اشتراكية ديمقراطية نموذجية كما نراها الآن. وشمل هذا التغير الأحزاب الشيوعية في البلدان شبه المستعمرة فأخذت تبالغ في دور البرجوازية الوطنية وتمنحها القيادة وتساندها بالرغم من إن الحكومات البرجوازية الناشئة عن الثورات البرجوازية أو الانقلابات العسكريه تضطهد الحركة الشيوعية منذ أول يوم لاستلامها السلطة . نرى من كل هذا إن المؤتمر العشرين استطاع من الناحية الإيديولوجية تغيير النظريات اللينينية التي كانت الأساس الوحيد لوحدة الحركة الشيوعية فيما مضى إلى نظريات اشتراكية ديمقراطية أو نظريات مثالية طوبائية وبذلك تفككت الحركة الشيوعية في العالم كله.