التحريفيه و انهيار الاتحاد السوفياتي -1
كثيرا ما قيل ويقال لنا اليوم إن الماركسية بالشكل الذي وضعها ماركس وانجلز وحتى لينين لم تعد ملائمة للأوضاع الراهنة، إي عهد الثورة التكنولوجية والقنابل الهيدروجينية وغزو الفضاء. وما زالوا يصفون كل إنسان يستشهد بماركسية ماركس وانجلز ولينين وستالين بالجمود العقائدي واللجوء إلى الكتب وعدم دراسة الأوضاع الجديدة التي حتمت تطوير الماركسية "تطويرا خلاقا" وبحجة ذلك يجردون الماركسية من كل محتواها الثوري. وكانوا كثيرا ما يستشهدون بالتطور الذي جرى في الاتحاد السوفييتي وبلدان ما يدعى بالمنظومة الاشتراكية كبرهان على ما تستطيع انجازه ماركسيتهم المتطورة الخلاقة حتى إن بعضهم يحاول تفسير الانهيارات التي منيت بها سياسات الأحزاب الشيوعية الحاكمة التحريفيه بأنها تغييرات ايجابية وتطوير للديمقراطية وإنشاء اشتراكية ذات وجه أنساني وغير ذلك من الادعاءات والخداع السياسي المقنع بقناع ماركسي واشتراكي وشيوعي مما لا يفيد موضوعنا هذا تعداده. ولكن الحقيقة المرة هي إن النظرية الماركسية اللينينية، إي قوانين التطور الاجتماعي، تفعل مفعولها رغم رغبة الناس وإراداتهم، وتفعل ذلك سواء إثناء الانتصارات أو إثناء الانهيارات والانتكاسات. فما هي القوانين التي قادت هذه المجتمعات التي كان من المفروض أنها تبني الاشتراكية بطريقة جديدة وليس بالطريقة التقليدية الجامدة القديمة، إلى الانهيارات والهزائم المشينه التي تعاني منها الأحزاب الشيوعية والعمالية في هذه البلدان؟
من أهم قوانين الديالكتيك إن التغيرات الكمية تتحول إلى تغيرات كيفية هل أصبح هذا القانون عتيقا باليا قد أكل الدهر عليه وشرب؟ كلا طبعا. فهذا القانون كما علمنا ماركس وانجلز ولينين هو قانون طبيعي لا يقل حتمية عن قانون الجاذبية والقوانين الطبيعية الأخرى. ووفقا لهذا القانون لا يمكن إن تكون إحداث أوروبا الشرقية سوى تغيرات كيفية ناجمة عن تغيرات كمية سابقة. فما هي هذه التغيرات الكمية التي أدت بالضرورة إلى هذه الانتكاسات والانهيارات السريعة؟ لإجابة على ذلك علينا إن نعود قليلا إلى الوراء وان نتتبع الإحداث حسب تسلسلها التاريخي.
منذ اليوم الأول لوفاة ستالين استولت على قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وعلى سلطة الدولة السوفييتية زمرة من الانتهازيين التحريفيين من بقايا المجرمين الذين قضت عليهم دكتاتورية البروليتاريا في الثلاثينات ودمرت تنظيماتهم مما أدى إلى اختفاء الرتل الخامس في الاتحاد السوفييتي والى القضاء على الجحافل النازية التي غزت الاتحاد السوفييتي بدلا من تسليمه لقمة سائغة لهتلر كما حدث في تشيكوسلوفاكيا والنمسا وفرنسا وغيرها. وقد أخذت هذه الزمرة على عاتقها المهمة التي أراد إسلافهم تحقيقها وهي إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفييتي والقضاء على الاشتراكية التي بنتها الشعوب السوفييتية وصانتها بأغلى التضحيات.
بعد مراسيم تشييع جثمان ستالين عقدت قيادة الحزب والدولة اجتماعا فوريا في السادس من آذار لا لبحث الخسارة الفادحة التي أصابت شعوب الاتحاد السوفييتي و بروليتاريا العالم بفقدان قائدها بل لمجرد توزيع المناصب و مما نشرته الصحف السوفييتية في اليوم التالي ظهر كأن برنامج التغييرات كان موضوعا سلفا إذ انه في خلال ساعات معدودة حتى في يوم عمل اعتيادي جدا لن يتسنى اتخاذ مثل هذه القرارات البالغة الأهمية.
أخذت البرجوازيه الوضيعه على عاتقها مهمة صعبة جدا، مهمة إعادة الرأسمالية، إذ إن تحقيقها كان يتطلب إرجاع عجلة التاريخ. لقد كان مجيء البرجوازية إلى الميدان على أنقاض النظام الإقطاعي عملية تقدمية لأنها كانت عملية ضرورية تاريخيا. فقد اشتد التناقض بين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الإقطاعية فجاءت الثورات البرجوازية لإزالة هذا التناقض والى السماح باستمرار تطور قوى الإنتاج تطورا سريعا. إما إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفييتي الاشتراكي فهي عملية رجعية تريد القضاء على مجتمع عالي التطور والاستعاضة عنه بمجتمع اقل منه تطورا.لغرض البدء بتحقيق مهمتهم كان عليهم إن يقلبوا اتجاه التطور. ومن الطبيعي إن هذا لم يكن بالإمكان تحقيقه تحقيقا سريعا ومباشرا كما تحققه الثورات البرجوازية ضد الإقطاع أو الثورات الاشتراكية ضد النظام البرجوازي بل كان يتطلب تغييرات تدريجية طفيفة في البداية بحيث يمكن إخفاء حقيقتها عن أعين الناس البسطاء كما يمكن إجراؤها تحت ستار من الاشتراكية والتشدق باللينينية. وقد نفذوا مهمتهم هذه أفضل تنفيذ.
منذ وفاة لينين كانت في الحزب الشيوعي اتجاهات حول سياسة التعاون الزراعي. فقد عارض تروتسكي و بوخارين وزينوفييف وكامينيف وعدد من أتباعهم سياسة إنشاء وتطوير المزارع التعاونية. ومن المعروف إن سياسة النيب (السياسة الاقتصادية الجديدة) كانت قد أفسحت المجال إمام البرجوازية الريفية للتطور وزيادة الإنتاج إلى جانب إنشاء المزارع التعاونية. وكلما ازدادت الحركة التعاونية تطورا ازداد التناقض بين هذا النوع من الإنتاج الزراعي وبين الإنتاج البرجوازي في الريف وقد أدى احتدام التناقض إلى مقاومة البرجوازية الريفية بما في ذلك محاولتها تحطيم النظام الاشتراكي عن طريق الامتناع عن تسليم المحاصيل الزراعيه و بيعها للحكومة الاشتراكية بل حتى إلى إتلاف المحاصيل لحرمان المدن و المجتمع السوفييتي منها.
حتم هذا التناقض توجيه ضربة حاسمة للبرجوازية الريفية فأعلن الحزب سنة 1928 رغم المعارضة اليمينيه و اليسراويه شن المرحلة الثانية من الثورة الاشتراكية، الثورة ضد البرجوازية الريفية ودعا الفلاحين التعاونيين إلى الاستيلاء على أراضي البرجوازيين الزراعيين وضمها إلى المزارع التعاونية. وبدون هذه الخطوة الجبارة لم يكن بالإمكان بناء المجتمع الاشتراكي. وقد نفذ المزارعون التعاونيون نداء الحزب فاستولوا على أراضي الكولاك وضموها إلى مزارعهم طاردين البرجوازيين الريفيين مع عوائلهم الى سيبيريا ،حيث افردت لهم قطع من الاراضي لاستصلاحها. ولكن قسما منهم قاوموا مستخدمين السلاح فردت عليهمالدوله بمثله. وهذه إحدى الجرائم التي لا يغفرها الرأسماليون العالميون والخروشوفيون والتي تلصق حتى اليوم باسم ستالين. هذا لان هذه الثورة كانت ضرورية لبناء الاشتراكية الكاملة في الاتحاد السوفييتي ولولاها لما أمكن بناء الاشتراكية. ولكن بقاء البرجوازية في الريف السوفييتي كان يبعث الأمل دائما بإمكان نجاح ثورة الردة وإعادة الرأسمالية
وقد اعترف بوخارين وإتباعه في المحاكمات التي جرت لهم في الثلاثينات إن نجاح الحركة التعاونية وجه ضربة قاصمة لخططهم وقالوا إن النجاح التام للحركة التعاونية في عام 1933 اضطرهم إلى تغيير خططهم في إعادة الرأسمالية إلى الريف السوفييتي. فقد أصبح شعار إلغاء المزارع التعاونية شعارا غير عملي ولذلك اتخذوا شعارا أخر هو إعادة تنظيم المزارع التعاونية لخلق البرجوازية في داخلها وتحطيمها من الداخل.
وحين استولى الخروشوفيين على الحكم بعد وفاة ستالين حققوا في هذا المضمار نفس البرنامج الذي كان إسلافهم قد وضعوه ،من المعروف انه منذ 1929 وحتى وفاة ستالين دار نقاش متواصل في الحزب وخارجه حول مسألة ما إذا كان يجب بيع المكائن الزراعية الموجودة في محطات المكائن الزراعية إلى المزارع التعاونية أم لا. كان ستالين وأغلبية الحزب ضد فكرة بيعها. ولكني رغبة في الاختصار أورد شيئا من الآراء التي نشأت في اللجنة التي كلفتها اللجنة المركزية بتأليف كتاب دراسي للاقتصاد السياسي. فقد كتب رفيقان من هذه اللجنة رسالة إلى ستالين مباشرة يؤيدان فيها بيع هذه المكائن إلى المزارع التعاونية مما يوفر للدولة أموالا تستطيع استثمارها في ميادين ضرورية أخرى مثل زيادة إنتاج المواد الاستهلاكية.
كان ستالين يقيس صحة أو خطأ أية خطوة بمقياس تقدم المجتمع الاشتراكي خطوة نحو الشيوعية أو إبعاده خطوة عن ذلك. وقد ناقش ستالين هذين الرفيقين في أيلول 1952 من وجهة النظر ذاتها..إن وسائل الإنتاج التي تستخدم في المزارع التعاونية تتألف أولا من الأرض والأرض ليست ملكية للمزارع التعاونية وهي لذلك ليست داخلة في نطاق مفعول التبادل السلعي ،. وتتألف ثانيا من المكائن الزراعية. وهذه أيضا ليست ملكية المزارع التعاونية ولذلك ليست داخلة في نطاق مفعول التبادل السلعي. فما الذي يشكل إذن ملكية للمزارع التعاونية؟ انه الإنتاج الزراعي نفسه وهو ينقسم إلى قسمين الأول يستهلك ثانية في المزارع التعاونية كبذور وبالاستهلاك المحلي والأخر يجري تبادله مع المدينة ولذلك يدخل في نطاق التبادل السلعي المتبقي في النظام الاشتراكي. وبما إن المجتمع الشيوعي لا يمكن التفكير به مع بقاء التبادل السلعي فيجب إن تدرس القضية من حيث توسيع نطاق التبادل السلعي أم تخفيضه.
إن بيع المكائن الزراعية للمزارع التعاونية يشكل توسيعا هائلا للتبادل السلعي ولذلك يشكل ردة كبرى عن السير نحو الشيوعية إي يشكل خطوة إلى الوراء. والى الوراء لا يوجد سوى العودة إلى الرأسمالية.ثم يناقش ستالين نفس القضية من الناحية الاقتصادية ومن ناحية رفع مستوى المزارع التعاونية الاقتصادي ومستوى الإنتاج الزراعي ،.إن الأدوات الزراعية تتقدم تقدما سريعا وان تطوير الانفتاح الزراعي يتطلب استخدام احدث الأدوات على الدوام. فهل باستطاعة المزارع التعاونية إن تستغني عن الأدوات الزراعية القديمة باستمرار وأن تستعيظ عنها بأدوات جديدة؟مهما تحسنت ظروف المزارع التعاونية المالية . أنها لا تستطيع ذلك بتاتا. أنها تحاول إن تستهلك الأدوات الزراعية إلى أقصى الحدود قبل إن تشتري مكائن جديدة. وهذا يعني إن المزارع التعاونية تضطر إلى استخدام أدوات قديمة سواء بالمقارنة بالأدوات الحديثة التي انتجت بعد شرائها أم من ناحية استهلاك الأدوات لطول الاستعمال وانخفاض كفاءتها الإنتاجية بالمقارنة مع نفس الأدوات حين تكون جديدة. إن الدولة وحدها تستطيع تحمل نفقات تجديد الأدوات الزراعية باستمرار والاستعاضة بها عن الأدوات القديمة وبذلك تفسح إمام المزارع التعاونية مجال التقدم المستمر على أساس استخدام احدث الأدوات .فما هي الطريقة التي يمكن بها رفع مستوى المزارع التعاونية من مستوى الملكية الاشتراكية التعاونية إلى مستوى الملكية الاشتراكية الاجتماعية ؟الطريقة الوحيدة هي تضييق التبادل السلعي وتحول قسم من تبادل الإنتاج الزراعي إلى تبادل عيني وفق مقاولات التبادل مع الدولة مع قيام الدولة بزيادة كميات البضائع المسلمة لقاء نفس كميات المنتجات الزراعية زيادة مطردة.جرى هذا النقاش في أيلول 1952 ونشر في كراس حول القضايا الاقتصادية للاشتراكية وهو أخر كراس معروف من كتابات ستالين قبل وفاته.
إن أولى الخطوات التي اتخذها الحزب بعد استيلاء الخروشوفيين على السلطة كانت بيع الأدوات الزراعية إلى المزارع التعاونية مع حملات من التطبيل والتزمير حول ما ستقدمه هذه الخطوة من الخير على المزارع التعاونية. ولكن الواقع كان ما توقعه ستالين من زيادة نطاق التبادل السلعي وتدهور الإنتاج وبداية التفكك في المزارع التعاونية مما يشكل خطوة تقهقر عن السير نحو الشيوعية. والتقهقر عن السير نحو الشيوعية ليس سوى سير نحو البرجوازية.رافق عملية بيع الأدوات الزراعية إلى المزارع التعاونية أو تبعها تعيين خبراء غريبين عن المزارع التعاونية وعن مشاكلها مدراء في المزارع من العسكر المتقاعدين و من حاشيتهم ،اي من البرجوازيه الوضيعه ويتقاضون رواتب ضخمة تعادل عشرات إضعاف الدخل الاعتيادي لعضو المزرعة التعاونية. وسرعان ما بدأ التمايز الطبقي في الظهور داخل المزارع التعاونية تحت إشراف هؤلاء المدراء وتشجيعهم وانتشرت السوق السوداء في المنتجات الزراعية وما رافق ذلك من نهب قسم كبير من منتجات المزارع لإغراض هذه السوق ونشأ تحويل أجود ما في مراكز بيع المنتجات الزراعية للجمهور إلى مراكز السوق السوداء لبيعها بإضعاف أثمانها مما أدى إلى أغناء فئات من المزارعين وتحولهم إلى برجوازية ريفية جديدة ولم يعد اليوم، خافيا على احد نطاق تحطيم المزارع التعاونية وإحلال الزراعة البرجوازية الخاصة محلها.
و ناقش ستالين في نفس الكراس المذكور كثيرا من القضايا التي كانت موضوع نقاش لدى اللجنة المكلفة بوضع كتاب الاقتصاد السياسي ومنها مفهوم الربح. فبين إن تنظيم الإنتاج في البلد الاشتراكي لا يبنى على أساس الربح المباشر ولذلك توجد مشاريع غير مربحة بتاتا ولكنها ضرورية في سبيل التقدم المستمر السريع للإنتاج وهذا لا يدعو إلى ترك هذه المشاريع والانتقال إلى مشاريع أكثر ربحية بالمدى المباشر وبين إن ربحية الإنتاج في المجتمع الاشتراكي تقاس بتطبيق قانون الإنتاج الاشتراكي، قانون التوازن أو التطور النسبي، الذي يظهر مفعوله في المدى البعيد إي في التطور المتواصل السريع للإنتاج تطورا خاليا من أزمات زيادة الانتاج وما يرافقها من بطالة وتدمير لقوى الإنتاج في المجتمع.
كان على الخروشوفيين إن يتجاهلوا كل هذه الإرشادات وأن يعكسوا اتجاه تطور الإنتاج لكي يتوصلوا إلى هدفهم لذلك
1. أقروا ان المنافسة بين مختلف فروع الإنتاج تشكل عاملا محفزا لزيادة الإنتاج.
2.ورأوا إن البرمجة المركزة في أيدي الدولة معيقة لتطور الإنتاج
3.وأن الربحية يجب إن تكون الحافز الموجه للإنتاج.
و كل هذا معاكس تماما لقانون التوازن الذي كان القانون الموجه للحكومة السوفييتية خلال برامج السنوات الخمس العديدة التي حققت ما يمكن اعتباره معجزات بالمفاهيم الرأسمالية .
- وعلى أساس الحافز الشخصي والمنافسة الحره أخذ الخروشوفيين يفوضون المعامل إلى "عمالها " و مدرائها الذين عينوا ايضا من الحاشيه التحريفيه ،لكي يقوموا هم بالإنتاج فيها ابتغاء لزيادة إرباحهم ولمنافسة المعامل الأخرى في هذا المضمار. ولنفترض جدلا إن المعامل كانت تفوض إلى العمال حقا. فهل هذا يعني إن ملكية المعمل بقيت ملكية للمجتمع؟ بالطبع لا. إذ إن المعمل في هذه الحالة أصبح لفئة من العمال وليس للمجتمع قاطبة. ومهمة المعمل هي إن ينظم إنتاجه والسلع التي ينتجها وفقا لما يدر عليه المزيد من الإرباح منافسا المعامل الأخرى التي تعود بدورها إلى فئة أخرى من العمال. فما الذي حدث من حيث مقياس تقدم المجتمع الاشتراكي نحو الشيوعية؟ هل حققت استقلاليه المعامل خطوة في اتجاه الشيوعية أم ابتعادا عنها؟ لا شك انه كان ابتعادا عن الشيوعية وتقهقرا نحو الرأسمالية. فان تفويض المعامل سواء أكان إلى العمال أم إلى غيرهم كما هو في الواقع يشكل خطوة إلى الوراء. فعملية التفويض ذاتها وسعت نطاق تبادل السلع في البلاد وزوال تبادل السلع كما رأينا احد الشروط التي لا يمكن تحقيق المجتمع الشيوعي بدونه. ويرافق زيادة تبادل السلع زيادة كميات النقود المطلوبة للتبادل. والنقود هي الأخرى يجب إن تزول كشرط للمجتمع الشيوعي. أضف إلى ذلك يترتب على المعمل شراء المواد الخام والوقود و المكائن وكل المستلزمات الأخرى كسلع يدفع ثمنها ويقترض النقود من البنوك لشرائها وهكذا نجد إن كافة مساوئ الإنتاج الرأسمالي من فوضى الإنتاج إلى المنافسة على الشراء فابخس الأسعار والمنافسة على البيع بأغلى الأسعار وزيادة دور النقود في المجتمع ودور قانون القيمة في تنظيم الإنتاج ثم ابتلاع المعامل القوية الناجحة للمعامل الخاسرة المفلسة الخ.. قد عادت إلى الاتحاد السوفييتي بعد اختفائها. لوافترضنا جدلا إن المعامل يجري تفويضها للعمال فعلا. ولكن هل هذا صحيح؟ إن الوقائع في المعامل السوفييتية نفسها أثبتت إن هذا كذب وبهتان. فقد بلغت رواتب المدراء والمهندسين والإداريين والأخصائيين إضعاف أجور العمال البروليتاريين (و ليس معاشاتهم ) و ذلك عن طريق دفع المكافآت و الحوافز للاداريين في هذه المعامل تبعا لمستوى الربح الذي يحققونه بينما أخذت البطالة تنتشر بين العمال و اخذ الكثير منهم يتهرب من العمل بمختلف الحجج الواهيه رغم الادعاء بعدم وجود البطالة في البلاد بل يوجد عمال في الطريق إلى العمل. ومن الدلائل على وجود البطالة انتشار البغاء والسرقات وخدم البيوت والسواق الخصوصيون وغير ذلك من الفئات التي وضعها كارل ماركس تحت عنوان جيش البطالة الاحتياطي. ومن الدلائل الأخرى على ذلك انتشار البطالة لدى النساء البقاء في البيت والعناية بالأطفال .
وسعيا وراء المزيد من استغلال المجتمع دأبت الحكومة السوفييتية، شأنها في ذلك شأن كل دولة برجوازية، بإصدار النقود الورقية بكميات هائلة وضخها إلى السوق دون وجود غطاء من البضائع والخدمات مما أدى إلى التضخم النقدي وارتفاع الأسعار.
كانت عملية التحول في الأساس الاقتصادي عملية طويلة شاقة. كلنا نعلم ما رافق تجريد الفلاحين من ملكياتهم الطفيفة وتحويلهم إلى طبقة عاملة إثناء صعود البرجوازية من مآس. ولكن تلك المهمة كانت سلسة إذا ما قيست بالعملية التي جرت في الاتحاد السوفييتي. فالطبقة العاملة السوفييتية كانت مالكة لكافة وسائل الإنتاج في المجتمع ومتمتعة بكافة الحقوق حين استلم الخروشوفيين السلطة. فكان على هذه السلطة إن تنتزع ملكية أدوات الإنتاج من الطبقة العاملة وأن تحول هذه الطبقة إلى طبقة محرومة من وسائل الإنتاج مستعدة لبيع قوة عملها كسلعة. لم يسبق لأية برجوازية في التأريخ إن جابهت مثل هذه المهمة الصعبة. لذلك كان من الطبيعي إن يحاول الخروشوفيين الاستعانة بكل قوة تساعدهم على الوصول إلى هدفهم.
لم يجد التحريفيون الخروشوفيين خيرا من الرأسمال العالمي لدعوته إلى نجدتهم. وهكذا رأينا تكالب خروشوف ومن تبعه حتى غورباشوف على طلب القروض الأجنبية من إي بلد او بنك مستعد لتقديمها. وإفساح أوسع المجالات إمام الشركات العالمية للاستثمار في الاتحاد السوفييتي مع إعطاء الضمانات اللازمة لتطمين هذه الشركات من عدم إمكانية التأميم في المستقبل.
إن التكالب على الاستثمار الأجنبي لم يشمل النطاق التكنيكي أو التكنولوجيا الحديثة وحدها كما قد يتوقع المرء، على أساس مساعدة الدولة السوفييتية لرفع مستواها التكنولوجي. إن هذا التكالب شمل حتى شركات مثل ماكدونالد والبيزا هات التي تشتري المواد الأولية للهامبورغر والبيزا من السوق المحلية لبيعها وتحول إرباحها إلى عملات صعبة على حساب الشعوب السوفييتية.
و لكن مافائدة استثمار الأموال الأجنبية وإنشاء المشاريع للاتجاه الذي اتخذته القيادة الخروشوفية ؟ إن هذه المشاريع تبنى منذ البداية على أساس الإنتاج الرأسمالي الصريح واستخدام الأيدي العاملة السوفييتية الرخيصة لاستدرار أقصى الإرباح. وهذا غير متوفر في المشاريع السوفييتية التي ما تزال تحتفظ ببقية مهما كانت طفيفة من حقوق العامل السوفييتي. لذلك تشكل المشاريع الاجنبيه والقروض عاملا مساعدا ومسرعا للتحول الرأسمالي الكامل.
نسي الخروشوفيين المبادئ الماركسية التي تقوم على إن المجتمع شأنه في ذلك شأن الطبيعة يسير وفق قوانين خارجة عن إرادة الإنسان . إن من يقرأ البيريسترويكا لا يجد في نص الكتاب كله أية عبارة تفيد معرفة غورباشوف لهذه القوانين وكيفية السيطرة عليها واستخدامها لمصلحة تقدم المجتمع. فالكتاب كله تمنيات طوبائية لعالم بدون سلاح ولا حروب. وتمنيات بأن تقوم الحكومات الغربيه في فهم حاجات الشعوب وتلبيتها الخ.. بل إن غورباشوف نفسه يشعر بالتماثل بين نظرياته وبين تصوير العالم السعيد الذي سيحل بعد انجاز البريسترويكا مهامها و الانفتاح على العالم. .