PCP

يا عمال العالم اتحدوا

أزمة اليسار "القيادة والتفرد" جزء 4

في عالمنا العربي بأقطاره كافة عشنا ونعيش ظاهرة ألفناها ، واعتدنا عليها لدرجة أصبحت تشكل جزءا من ثقافتنا وتكويننا النفسي ، هذه الظاهرة هي السلطة المطلقة كليا أو نسبيا للقيادات ـ على كافة المستويات بدءا من أصغر دائرة وصولا إلى رأس الهرم . ولو سئل أي شخص في عالمنا العربي هل يمقت هذه الظاهرة لأجاب على الفور نعم مدوية نظرا لتعارضها وطموحاته ، وقتل لشخصيته وتذويب لكيانه لكنه على المستوى العملي لو اندمج في هذه الظاهرة عمليا كجزء منها لسعي للتمسك بها بأنيابه وأظافره. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل هذه الظاهرة قدرا محتوما لا يمكن تجنبه ؟ إن البحث في أي ظاهرة يجب أن يعتمد على امتدادها الزمني التاريخي الذي تشكلت فيه كظاهرة وبغير ذلك يصبح الحديث مجرد ترف فكري لا يغني ولا يسمن من جوع ، إن بروز السلطة المطلقة والرجل الأول والقائد الأوحد والمفدى ... الخ من أوصاف التبجيل والتعظيم لشخصيات هي ضد منطق التاريخ أصلا ، ولا تتماشى معه خاصة في المنظور الماركسي اللينيني في التاريخ وصناعته ، فالتاريخ تصنعه حركة الشعوب عامة وليس الفرد القائد سوى مؤثر تعجيلا أو تأخيرا، لحركة التاريخ. إن تكريس ظاهرة الرجل الأوحد والأسطوري ...الخ قد امتد عبر التاريخ في مجتمعنا رغم تناقضه كما سلف مع حركة التاريخ وصنعه بفعل عوامل تراثية ثقافية كرست لهذه الظاهرة أسباب وجودها واستمرارها ومنها على سبيل المثال لا الحصر التاريخ الروائي للأحداث ، وسرد القصص وبطولاته الخارقة كسيرة عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي سلامة ، وما سبق أو تبع ذلك في كتب التاريخ. إننا نجد في الغالبية العظمى للروايات المكتوبة، أن بطل صناعة الحدث فيها يكون على الأغلب مرتبط بشخص ، وهو ما ينسحب على كل تسجيل للأحداث ، كما أن واقع التدين في المجتمع العربي ، والأديان الثلاث على العموم وقد ساعد بشكل أو بآخر على استمرار هذه الرؤية بل جاء مكرسا لها عند الحديث عن أبطال المعارك ، والذي امتد على نظرية التكوين المجتمعي في تنظيم العلاقة بين الحاكم والرعية ، والذي أضيف فيه على صفات القائد التنزه شبه المطلق عن الخطأ. ليس المقصود هو التقليل من دور الأفراد كشخصيات مؤثرة بل المقصود الأول منه ، هو أن أي قائد مهما بلغت عظمة قدراته لا يمكنه أن يكون في النهاية سوى فرد ، يستمد قوته وقدرته من الجماعة التي لولاها لما أصبح قائدا ، فشخصية القائد يحب أن تشمل المقدرة على التعبير عن طموح الغالبية من الجماعة الاجتماعية ومدى قدراته على الوفاء والالتزام بطموح وأهداف الجماعة ليس فقط بالتعبير عنها بل وتحمل مشاق وتبعات هذا الدور. إن هذه الظاهرة قد أصابت معظم نواحي المجتمع بكافة تكويناته ، بدءا من الأسرة وانتهاء بالسلطة السياسية ، والتي بقيت عبارة عن تكرار وإنتاج للذات ، ففي الأسرة غالبا ما يرث الابن أباه في طريقة تفكيره ودوره دون التقدم للأمام في سياسة تسيير الأسرة والعلاقة الأسرية المجتمعية ...الخ ، ومدير المؤسسة ينتج ذاته وهو يكرس نفس أسلوب من سبقه للوصول للمنصب ، فإذا وصل له بالرشوة والمحسوبية فإنه يخلق قناعة لدى الفريق الذي يقوده ، بأن الوصول إلى الكرسي له متطلبات وصولية انتهازية ملتوية ، وأن لا طريق آخر غير ذلك كما يقال "عن طريق اللغة الدارجة" مما يخلق جوا تآمريا ، وليس تنافسيا وبالتالي إتباع اسلوب الغايات تبرر الوسائل والضرورات تبيح المحظورات ...الخ وهو ما يفرز سياسة الدجل والنفاق . إن هذه الظاهرة والتي تسود اليوم واقعنا الفلسطيني خاصة ، هي ليست ظاهرة مخالفة للمنطق فقط بل ومخالفة للواقع المادي الذي ينتجها ، فالواقع المادي وإنتاج الخيرات المادية مهما بلغت نسبة تطور المجتمع هو إنتاج اجتماعي يعتمد اجتماعيا على عمل الجماعة الاجتماعية ، ومثال ذلك في أبسط أشكال الإنتاج فإن بناء بيت أو قطف ثمار الزيتون كان في الماضي يحتاج لتعاون جميع أهل القرية لانجازه ضمن نظام العونة ، وحتى في العمليات الإنتاجية المتطورة لا يمكن لأي فرد في المجتمع القيام بالعملية لوحده أو من أجل ذاته فالتقدم لا يلغي الطابع الاجتماعي للعمل ولكنه في ظل العلاقات الرأسمالية يعمق الفرز الطبقي بتعظيم جيش الكادحين الغير مالكين وتصغير الطغمه المالكة لوسائل الإنتاج التي تستحوذ على النصيب الأعظم من خيرات العملية الإنتاجية . كثيرة هي الأحزاب والحركات التي طرحت نفسها كأحزاب ثورية ، والتي حملت هذه الرؤية وتنبهت لمخاطر هذه الظاهرة نظريا ولمسافات زمنية قد تطول أو تقصر ، والتي وجدت نفسها في النهاية خاضعة بوعي أو بدونه لسلطان هذه الظاهرة ، وبالتالي انساقت معها كقدر بل وأصبحت في أحيان كثيرة جزءا من عوامل تكريسها في المجتمع . فلو تتبعنا تاريخ كافة فصائل العمل الوطني والأحزاب اليسارية خاصة لوجدنا أنها جزءا من الظاهرة وليس استثناء لها ، وإن كافة الشعارات التي كانت ترفع لتجديد القيادة كانت عبارة عن مساحيق تجميل لهذه القيادة ، وكطرح نظري فقط دون تطبيق له على أرض الواقع ، فلا دماء شابه كانت تضخ في جسم التنظيم قياديا ولا أي تجديد حصل في كافة المؤتمرات. إن تكريس هذه الظاهرة داخل التنظيم ، والتي وصلت أحيانا حد التقديس لرموز وشخصيات بذاتها قد ولد كثير من الأمراض في الجسم التنظيمي خاصة على صعيد تربية الأعضاء ، وأوجد خللا لا يمكن شفاؤه ، وهو النفاق التنظيمي للقائد ، فالقائد الذي يرى نفسه كما يقال (أنا التنظيم والتنظيم أنا) والذي يتحكم بكل صغيرة وكبيرة بدءا من صياغة بيان وصولا لكتابه مواد التقارير كافة للمؤتمر ، والتي تطرح للموافقة وليس للنقاش والتي تعتبر الموافقة عليها تعبيرا عن تجديد البيعة للقائد فيصبح القائد المتحكم بكافة علاقات التنظيم وتسييرها الداخلية منها والخارجية ، مقولاته آيات مقدسة تحفظ عن ظهر قلب وتشكل مواد التنظير الأولى لأي نقاش. إن العضو الحزبي في ظل قيادة كهذه لن يجد أمامه من خيار سوى ، إما البقاء مكانه ضمن دائرة المنافقين المقربين أو يبتعد بنفسه ضمن دائرة المنافسين ، فهو لم يجد ذاته ضمن ذلك التنظيم فمن الطبيعي أن يستغل حالات من التذمر داخل التنظيم ليطرح أي إشكال خلافي للانشقاق أو الانسلاخ عنه، ما دام قد تربى في مؤسسة حزبية من ذلك الطراز فإنه لن يكون أكثر من نسخة جديدة عن التنظيم الذي انسلخ عنه ، إن لم يكن أسوء وفي جميع الأحوال أن بقي التنظيم موحدا ، كافتراض جدلي أو تفسخ لعدة تنظيمات فإنه يخضع في قراراته وتوجهاته لانفعالات نفسية مرتبطة بشخص القائد فيبقى التنظيم ذو اتجاه وبعد واحد في كافة توجهاته وعلى كافة الصعد. إن القائد المحاط بجوقة منافقين سيقرأ الواقع من عيون منافقيه ، وآيات التبجيل ستزيده غرورا وانعزالا عن الواقع ، وهو ما يساهم في عزل التنظيم عن محيطه وجماهيره فيصبح التنظيم سمكة ميتة لأنها خرجت من محيطها الجماهيري والأموات لا يؤثرون في الواقع ولا يصنعون التاريخ. كما أن القائد في قيادته طويلة الأمد سيجبر التنظيم في علاقاته وتحالفاته لمزاجه ، ونفسيته ويخضع مصير التنظيم لتجاربه الخاصة وتقييمه الذاتي للأمور ، وبالتالي لردات فعله والتي لن تكون في مصلحة التنظيم وفعالياته وأهدافه. لقد شكلت هذه الظاهرة جزءا مهما من أزمة اليسار الفلسطيني كون أحزاب اليسار لم تتمايز عن باقي فصائل العمل الوطني بحيث تشابهت مع هذه الفصائل ، وكانت جزءا من الظاهرة والفارق الأسوأ كان أن فصائل العمل الوطني كانت امتداد للواقع وليست مختلفة عن الظاهرة أو الواقع الذي أفرزها ، وأحزاب اليسار المدعية الثورية والمتمايزة وقعت أسيرة الخلل الحاد ما بين النظرية والتطبيق في كل الشعارات الثورية التي رفعتها ولم تتمايز نوعيا عن باقي الفصائل في الساحة الفلسطينية مما أفقدها المصداقية الضرورية وابتعاد الجماهير عنها. على ضوء ما تقدم لا بد من تحديد بعض الآليات لتحصين التنظيم من عوامل الهدم والتي منها ظاهرة التفرد وتأبيد القيادة في فصائل اليسار (خاصة الماركسية) ومن هذه الآليات على سبيل المثال لا الحصر وهي آليات تثقيفية إجرائية:- 1- زيادة التركيز على دور الجماهير كصانعة للتاريخ وحدود دور الفرد. 2- الابتعاد ومحاربة كل عبارات التبجيل للشخصية الحزبية سواء عضو أو قيادي . 3- تطبيق خلاق للأسس اللينينية في حياة الحزب الداخلية (الحزب الماركسي). 4- تربية حزبية فكرية تحليلية نقدية. 5- تعزيز دور القيادة الجماعية واليات اتخاذ القرار ضمن جدلية المركزي الديمقراطية وحرية وحدود النقاش وإبداء الرأي ضمن القنوات التنظيمية والخضوع لرأي الأغلبية. 6- عدم شخصنه الأمور التنظيمية والتحامل أو العداء للرأي المخالف ما دام في بوتقة الحزب. 7- التجديد الدوري للقيادة لأن الركود يؤدي للعفن الذي يخنق النقد والنقد الذاتي ، ولا يعني التجديد المداورة على المنصب بين مجموعة متنافسة على منافع المنصب. 8- خلق قناعة لدى الأعضاء أن العضوية عطاء وليس منافع ومكاسب مادية أو معنوية وإن الارتقاء بالسلم التنظيمي للعضو يعني التضحية وأن عين الرقابة الحزبية ستلاحقه للمحاسبة وليس عين الصحافة والإعلام والتي يجب أن تركز على الإنجازات الحزبية ، وان أي انجاز سيسجل باسم الحزب وليس بأي اسم آخر . 9- توزيع المسؤوليات وإبراز اسم الحزب فوق كل الأسماء والشخصيات الحزبية. بقلم الرفيق أبو يوسف (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني).


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني