أزمة « النظــــــام الاقتصادي العالمــــي »
أزمة « النظــــــام الاقتصادي العالمــــي »
العالم في « مرحلة مخاض »
غالب أبو مصلح ــ تسود العالم اليوم موجة من الذعر المالي والاقتصادي، بحيث يصعب توقع سلوك الفاعلين في هذه الأسواق، وتجاوبهم مع السياسات والإجراءات التي يتخذها قادة دول المراكز الرأسمالية ولو على المدى القصير. فالتطورات والمتغيرات على المديين المتوسط والطويل تحكمها تغيرات المقومات الاقتصادية الأساسية ،كما المتغيرات العالمية على الصعد السياسية والعسكرية والثقافية . إن هذه المتغيرات الكبيرة ستحدث تغييرا عميقا في بنية النظام الرأسمالي العالمي الذي انبثق من الحرب العالمية فهذا النظام الذي بناه المنتصرون في تلك الحرب ولمصالحهم ، وبقيادة الولايات المتحدة ، عبر عن توازنات تلك الحقبة خارج إطار المعسكر الاشتراكي ، وتم تجاوز هذا النظام أو بعضه عندما أصبح غير قادر على الإمساك بالعالم الرأسمالي وإدارته وحكمه ، وخاصة بعد انفجار أزمته البنيوية على الصعيدين المالي والاقتصادي . ومن الصعب توقع النظام الذي ستنتجه هذه الأزمة الشاملة . هل ستؤدي إلى تجاوز هذا النظام الرأسمالي نحو نظام أكثر أخلاقية وعقلانية وواقعية من النظام الرأسمالي السائد في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة . أم أن هذا النظام مازال يملك من المرونة والقدرة للتطور والتكيف مع متغيرات العالم والتقنيات والإمكانات والحاجات لتجديد نفسه كما فعل أبان الحرب العالمية الثانية وبعدها ؟
جرى تبسيط الأزمة الراهنة من قبل الطبقات الرأسمالية الحاكمة وخاصة في الولايات المتحدة ، بغية إخفاء جذورها وعمقها وطابعها البنيوي الشامل , فقد سارع المعلقون الاقتصاديون للقول بأن الأزمة هي مجرد أزمة سيولة ، يمكن تجاوزها عن طريق ضخ كميات كبيرة من السيولة في الأسواق من قبل البنوك المركزية . وقامت البنوك المركزية بهذه المهمة وما تزال دون كبح تطور الأزمة .
وقال آخرون إن الأزمة تتمثل بالرهون العقارية الفاسدة التي أعطيت لمن لا يستحقها من الفقراء وقد تم تشميل هذه الرهونات وتوريقها وبيعها إلى السوق المالية التي رفعتها ووزعتها على معظم الأسواق المالية . وعند انفجار الفقاعة العقارية ، وانخفاض أثمان العقارات تحولت هذه الأوراق المالية إلى كتل سامة تسد اقنية انسياب الأموال في الأسواق المالية الأميركية والعالمية . وتمثل الحل الشافي لهذه الأزمة في إنقاذ أو تأميم مؤسسات الإقراض العقاري ، وتعويض خسائرها بمئات مليارات الدولارات ومن جيوب دافعي الضرائب من غير الأثرياء . ولكن هذه السياسات لم تكبح الأزمة ولم توقف نموها وتدهور الأسواق . وانتقلت الأزمة من كونها أزمة سيولة إلى أزمة ملاءة ، أي إن هناك نقصا في الرساميل لدى المؤسسات المالية الشاملة وخاصة تلك التي دمجت مهام التأمين مع مهمات الوساطة ،مع مهمات البنوك التجارية وبنوك التوظيف . وكان نقص الملاءة لدى بنوك التوظيف العملاقة في الولايات المتحدة بشكل خاص ، بسبب انخفاض أسعار بعض موجوداتها وارتفاع نسبة القروض المعدومة . وبما أن نسب الترفيع ( أي الأموال الأساسية كنسبة من مجموع الموجودات ) عند هذه المؤسسات وصل عند بعضها واحد إلى ستين ، فان الاتجاه التنازلي للسوق أصابها بخسائر تفوق رؤوس أموالها الأساسية مما دفعها إلى الإفلاس ، وخاصة عند سحب ودائع البنوك التجارية وصناديق الأموال منها .
وإنقاذ هذه المؤسسات المالية التي شكلت حتى الماضي القريب فخر الأسواق المالية ورموز السيطرة الأميركية على الاقتصاد العالمي ، يتم عبر ضخ الأموال العامة في هذه المؤسسات . والجهة القادرة على ذلك ، على تعويض خسائر هذه المؤسسات الخاصة ،هم المسيطرون على الأموال العامة ، على أموال دافعي الضرائب ، أي الخزينة . وفي هذه الحال ، فان على الحكومات رفع الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على عاتق الطبقات المتوسطة والضعيفة ، وخفضها على الشركات والمؤسسات الرأسمالية الخاصة ، وخفض الإنفاق العام . وخاصة الإنفاق الاجتماعي الموجه للطبقات الضعيفة بشكل خاص. وهذه السياسات تعمق الفروقات الطبقية وتنمي التناقضات الاجتماعية . وعلق العديد من الاقتصاديين على هذا النهح الظالم لأكثرية جماهير البلدان الرأسمالية بأنه " اشتراكية الأغنياء" . ويرفض اليساريون هذا التشويه في توصيف الحلول كما الاشتراكية . ويقول " مايكل ريني " أن هذه الحلول تمثل " شكلا آخر من الرأسمالية تتولى فيه الدولة حماية الأغنياء لتقيهم من خسائر كبيرة " . كما أطلق المعلق " حيمس ريد جواي " على إجراءات بوش الأخيرة بأنها تمثل " دولة رفاهية المؤسسات " كنقيض لدولة رفاهية الجماهير ، الدولة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية في ظل هيمنة أفكار ومبادئ " الكينزية " .
وتؤدي هذه السياسات " الإنقاذية " إلى زيادة الدين العام ، والذي تجاوز عتبة عشر تريليونات دولار في الولايات المتحدة ، ويزيد الهوة اتساعا بين من يملكون ومن لا يملكون ، بين أصحاب رؤوس الأموال والقوى العاملة .
ويعيد البعض الأزمة إلى جشع الإداريين الكبار للمؤسسات وانحدار أخلاقياتهم . ولكن جشع هؤلاء وانحدار أخلاقياتهم وقيمهم الاجتماعية لا يشكل خروجا على أخلاقيات الليبرالية الجديدة التي سيطرت على الفكر الاقتصادي الرأسمالي منذ وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في بريطانيا وأميركا عند بداية الثمانينات ، وتعميم هذا الفكر على كل المؤسسات والدول التابعة. كان " ملتون فريدمان "، نبي الليبرالية الجديدة أو احد كبار رسلها على الأقل، يقول : أن "المسؤولية الإجتماعية الوحيدة لرجال الأعمال هي في زيادة أرباحهم"، وأن أخلاقيات السوق –أي العرض والطلب – يجب أن تحل مكان أخلاقيات الفكر الاشتراكي ، أي مبادئ العدالة والمساواة والتضامن الاجتماعي وشرعة حقوق الإنسان – وشكلت دولة الرفاهية عائقا أمام التقدم بالنسبة للمدرسة الريغينية ، إذ أن هذه الدولة تولد " الكسل وتخلق نوعا من المرض ألاتكالي الشامل الذي يجازي الكسل ويشجع على اللامسؤولية كما يقول "ميشال البرت " في كتابه "Capitalism against Capitalism " . فالليبرالية الجديدة تمثل عودة إلى الداروينية الاقتصادية والاجتماعية , إنها تطلق العنان لما هو الأسوأ في الإنسان ، فتحث على الجشع وتقدس الربح وتراكم الثروات وتشيئ الإنسان ، وتمجد الاستهلاك وتحتقر الفقراء وتنفيهم من المجتمع ، وتجعل من الفقر مسؤولية فردية لا مسؤولية مجتمع ونظام .
جذور الأزمة
يشير تاريخ الرأسمالية إلى أن الأزمات الدورية هي من صلب النظام الرأسمالي والملازمة لتقدمه ، وذلك بسبب الخلل الملازم للنظام بين العرض والطلب ، بين نمو قدرات الإنتاج نتيجة تراكم القيمة الفائضة في أيدي الرأسماليين ،ونمو الطلب الحقيقي على الإنتاج بأقل من نمو القدرات الإنتاجية ، مما يولد فائضا في الرساميل يضغط على معدلات الأرباح ، أو عوائد رأس المال . وفي هذه المرحلة يبحث رأس المال عن فرص للتمدد إلى الخارج ، فيتم تصدير رؤوس الأموال الفائضة ، أو يدفع إلى حروب لإعدام رؤوس الأموال الفائضة ، وتجديد الدورة الرأسمالية ، ويبقى امتصاص فائض رؤوس الأموال مشكلة قائمة لا حل جذريا لها في هذا النظام . وحتى يومنا هذا . فان تراكم رؤوس الأموال الفائضة وبناء القدرات الإنتاجية الفائضة في مراكز هذا النظام خلقت الأزمات الدورية فيه . وكانت الحروب تشكل احد وسائل تدمير هذا الفائض ، عبر رفع الإنفاق العسكري كما عير الدمار التي تحدثه ، فيعود الطلب إلى الارتفاع مشكلا قاطرة النو الاقتصادي وتراكم جديد لرؤوس الأموال بعد إزالة القدرات الإنتاجية المعطلة، هذا ما حصل في الحرب العالمية الثانية التي أخرجت الولايات المتحدة من أحدى عشرة سنة من الركود . ولكن الأزمة عادت للظهور في أواخر الأربعينات في الولايات المتحدة . وكان الهدف الأساسي من مشروع مارشال هو رفع الطلب على البضائع الاميركية لمنع الركود وتنامي البطالة، وليس إعادة اعمار أوروبا كما يزعمون . وبسبب تفجير الاتحاد السوفيتي قنبلته الذرية ، وانتصار الثورة الشيوعية في الصين بقيادة ماوتسي تونغ ، وضعت الولايات المتحدة إستراتيجية عالمية جديدة لها ، وما زالت تعمل ضمن أطرها حتى الآن . فتقرير " المجلس العسكري الوطني الـ 86 ، الذي تم وضعه بتاريخ 14/4/1950 وضع السياسات الاقتصادية للقطاع العام ، وفي خلاصته النهائية يؤكد التقرير على : إن احد الدروس المستنتجة من الحرب العالمية الثانية وتجاربها أن الاقتصاد الأميركي عندما يعمل عند مستوى يقترب من كامل طاقته يمكنه أن يؤمن موارد هائلة لأهداف عديدة بجانب هدف الاستهلاك المدني ، في الوقت الذي يؤمن فيه مستوى مرتفعا من المعيشة " نتيجة هذه الرؤيا بدأ الاستراتجيين الأميركيين بناء صناعة حربية كبيرة بحجة موازاة القدرات العسكرية السوفيتية التي بالغوا كثيرا في قدراتها ، وللإبقاء على نسبة عمالة كاملة ، وتحت إشراف البنتاغون. وقاد ذلك إلى ما اسماه الرئيس ايزنهاور " المركب الصناعي العسكري الهائل " وحذر منه ومن تسلطه على السلطة في خطابه الوداعي سنة 1961.
فالحرب والتوسع الخارجي وبناء القواعد العسكرية التي بلغ عددها في الخارج أكثر من 750 قاعدة ، وفتح أسواق العالم أمام صادرات البضائع والخدمات والرساميل الأميركية شكل السبيل الأساسي لنمو أميركا واستقرارها واستمرار سيادتها على العالم الرأسمالي . ولكن التجربة الحية ، ودراسة عدة عقود من الإنفاق العسكري وانعكاسه على الاقتصاد ، أظهر محدودية هذه الوسيلة في تأمين نمو اقتصادي دائم وعمالة كاملة، وتلافي الدورات الاقتصادية مهما تطورت آليات السياسات النقدية ، ومهما تطورت مؤسسات الأسواق النقدية والمالية وعولمتها المدعومة بتطور الحواسيب والاتصالات . وأظهرت دراسة أعدتها مؤسسة Global Insight في واشنطن والتي يرأسها الاقتصادي Dean Baker ، أن زيادة الإنفاق العسكري ، بعد تحفيز الطلب لمدة ست سنوات ، يتحول أثره إلى عامل سلبي . ووجد بيكر انه بعد عشر سنوات من الإنفاق العسكري الأكثر ارتفاعا ستتقلص فرص العمل – في الولايات المتحدة – بـ464 ألف وظيفة ، عن سيناريو يشمل إنفاقا عسكريا أكثر انخفاضا. وقال : " يعتقد عادة أن الحروب وزيادة الإنفاق العسكري لها اثر جيد على الاقتصاد . في الحقيقة إن أكثر النماذج الاقتصادية تظهر إن الإنفاق العسكري يوجه الموارد من استعمالات منتجة ، مثل الاستهلاك والتوظيف ، إلى استهلاكات غير منتجة ، وفي النهاية يبطئ النمو الاقتصادي ، ويخفض مستوى العمالة". واظهر تاريخ حرب فيتنام كما حربي أفغانستان والعراق صحة هذا القول . فالحروب الرابحة والخاسرة التي شنتها الولايات المتحدة على دول وشعوب العالم الثالث خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، فاقمت الأزمة الاقتصادية الأميركية ولم تحل أو تخفف منها .
يمكن إعادة تفاقم الأزمة البنيوية للولايات المتحدة إلى بداية السبعينات من القرن الماضي ، حين عجزت منظومة الدول الرأسمالية في معالجة عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات الجاري لأميركا ، والذي حول أميركا تدريجيا من اكبر دولة دائنة بعد الحرب العالمية إلى اكبر دولة مدينة . ولم يجد نفعا إجبار كل من اليابان وألمانيا رفع سعر صرف عملتهما بنسب عالية ، ولم يجد نفعا مؤتمر "لليوفر " الذي عمل على تنسيق السياسات الاقتصادية لدول مراكز النظام الرأسمالي . فأسقطت الولايات المتحدة اتفاقات بريتن وودز ، أي نظام النقد العالمي، وأدخلت مبدأ سعر الصرف العائم . وكان هذا الانتقال طبعا لمصلحة الولايات المتحدة على أكثر من صعيد فكدولة تعاني عجزا كبيرا في ميزاني التجارة والمدفوعات الجاري ، وكدولة مدينة، يمكنها شطب أجزاء كبيرة من ديونها عبر خفض سعر صرف الدولار ، مع استمرار زيادة الطلب على الدولار لكونه العملة العالمية الأكثر قبولا على الصعيد العالمي. فقد خسر الدولار نصف قيمته الحقيقية بين سنتي 2000 و2005. واعتماد سعر الصرف العائم زاد كثيرا من اضطرابات أسواق النقد في العالم ، مما دفع الدول كافة إلى زيادة احتياطاتها من العملات الأجنبية . أي من الدولار بشكل خاص ، لاتقاء مخاطر السوق والذود عن اقتصاداتها أمام ضغوطات أسواق الأموال وحركات الأموال الساخنة في عصر العولمة وانفتاح الأسواق . وهذا ما سبب طلبا متزايدا على الدولار حتى اليوم ، ومكن الولايات المتحدة من أن تسد عجوزاتها بتصدير عملتها لا بتنمية صادراتها وخفض إنفاقها كما تعمل بقية دول العالم . فنمو الاقتصاد الأميركي لم يكن بسب المعدلات المرتفعة من الادخار ، بل بسبب مراكمة ديون كبير على صعد القطاع المنزلي وقطاع الأعمال كما على صعيد الموازنة الفيدرالية ، مما جعل الاقتصاد الأميركي يقف على جبل هائل من الديون قابل للانفجار والسقوط . بل أن انفجار جبل الديون المتسارع نموه مرهون بتقبل دول العالم للعملة الأميركية وزيادة احتياطاتها وديونها للولايات المتحدة ، وللمديونية الأميركية حدود.
وكان سعر الصرف العائم لمصلحة المصارف ومؤسسات الوساطة المالية بشكل خاص التي جعلت من تقلبات أسعار صرف العملات مجالا واسعا لمضاربتها وللإتجار بالمخاطر ، بحيث وصلت قيمة المضاربات بالعملات يوميا إلى أكثر من 2 تريليون دولار، وقيمة المتاجرة بالمشتقات، والمرتبطة بمخاطر تقلبات أسعار الصرف إلى أكثر من 1.3 تريليون دولار ، وساهم في إطلاق العديد من المشتقات، وحوّل السوق المالية العالمية إلى " كازينو " هائل للمقامرة .
ألحقت هذه التطورات في بنية القطاع المالي أضرارا كبيرة في قطاعات الاقتصاد الحقيقي وساعدت ، و بشكل آني ، في حل مشكلة تدني مردود رؤوس الأموال . فقد شتت عولمة الأسواق ونمو المشتقات والترفيع، المخاطر التي نمت بشكل كبير في بعض القطاعات ، وانبتت فقاعات في سوق الأسهم ثم في سوق العقارات ، وتم وضع هذه الأسواق الجديدة المعولمة خارج إطار الرقابة الفعالة لمؤسسات الرقابات الوطنية ، فنمت بدافع الابتكارات في المشتقات وبفعل التقدم الكبير في قدرات الحواسيب وقطاع الاتصالات .
وتحررت الأموال إلى حد بعيد من الالتصاق بقطاعات الاقتصاد الحقيقي ، وخلقت فضاء خاصا تدور فيه ، بحيث تستند إلى قطاعات الاقتصاد الحقيقي وتسيطر عليها وتعرضها للكثير من المخاطر . واستطاعت هذه البنية المالية الفوقية أن تؤمن لرؤوس الأموال الموظفة فيها ، في صناديق التحوط بشكل خاص ، وفي إطار المضاربات ، معدلات مرتفعة من الربح . ففي الوقت الذي تدنى فيه مردود التوظيفات الرأسمالية في قطاع الصناعة إلى حوالي 6% ، كان مردود صناديق التحوط يتجاوز الـ 20% . وأصبح ارتفاع أسعار الأسهم أهم بكثير من مردودها بالنسبة للبنية المالية المضاربة .وارتفعت أسعار الأسهم في أسواق المال من معدلاتها التاريخية التي لا تتجاوز خمسة عشر ضعف المردود إلى أكثر من 45 ضعف المردود ، وتم تحقيق الأرباح ليس من مردود السهم بل من ارتفاع ثمنه في السوق المالية نتيجة المضاربات والترفيع .
إن هذه البنية المالية في عصر الرأسمالية الأكثر احتكارية وعولمة خلقت فقاعات متتالية في أسواق الأسهم والعقارات ،والتي انفجرت تباعا ،وتم معالجة انفجار فقاعة الأسهم بضخ سيولة كبيرة في السوق ، مما ولد فقاعة عقارية اكبر واشد خطورة ، إذ أن مدخرات القطاع المنزلي الموظف في قطاع المساكن اكبر بكثير من المدخرات الموظفة في أسواق المال. وساعد نمو الفقاعات ،وخاصة الفقاعة العقارية في تمكين أصحاب المنازل من رفع رهونهم العقارية والحصول على أموال مكنتهم من زيادة استهلاكهم الشخصي عبر رفع الديون .
شكل تدني مردود التوظيفات الرأسمالية عند أواخر السبعينات احد مظاهر أزمة النظام الاقتصادي الرأسمالي في ظل الكينزية التي سمت بظهور دولة الرفاهية ،وتم وضع الجيل الثاني من شرعة حقوق الإنسان في ظلها . ويُعنى الجيل الثاني من شرعة حقوق الإنسان بضمانات القوى العاملة وشبكات الأمان لها وبمؤسساتها النقابية الحامية . وتم القفز إلى الليبرالية الجديدة لحل أزمة تدني مردود التوظيف ، وإسقاط دولة الرفاهية والمؤسسات الحامية للقوى العاملة . وعمل المحافظون الجدد في البلدان الانغلو- ساكسونية أولا ، على تبني الليبرالية الجديدة وتعميمها على العالم الرأسمالي في مراكزه وأطرافه ، وتم فرضها كأيديولوجيا على مؤسسات النظام العالمي ، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ،وتم إطلاق مرحلة جديدة من العولمة ،ومرحلة جديدة من الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية . ومورست ضغوطات كبيرة من قبل " إجماع واشنطن " على دول الأطراف كافة لفتح أسواقها أمام السلع والخدمات وتدفق الأموال الساخنة وغير الساخنة من مراكز النظام الرأسمالي العالمي ، كما أجبرت هذه الدول على " خصخصة " قطاعها العام وعرضه للبيع للشركات الكبرى المعولمة وللداخل ، وتفكيك اطر حماية القوى العاملة ومؤسساتها ،كل ذلك، ولتسهيل التوظيفات الرأسمالية الأجنبية الفائضة، ونهب هذه البلدان. وبذلك شكلت هذه السياسات مرحلة جديدة من الإمبريالية المدعومة بالقدرات المالية والرقابية للبنك وصندوق النقد الدوليين ، وبقدرات عسكرية جبارة للولايات المتحدة المنتشرة قواعدها وأساطيلها في كل أرجاء العالم .
مثلت الليبرالية الجديدة مصالح الشركات الكبرى المعولمة ، والتي قلصت نطاق الديمقراطية في دول المراكز الرأسمالية ،وأصبحت تتحكم في صناعة الرأي العام إلى حد بعيد ، وفي تمويل وتسويق السياسيين الذين يعملون لمصالحها . كما مثلت مصالح رؤوس الأموال عامة ضد مصالح القوى العاملة في دول المركز والأطراف . فقد تم إعادة اقتسام القيمة المضافة ، أي الناتج المحلي لمصلحة رؤوس الأموال وعلى حساب نصيب القوى العاملة . يقول بول كروغمان المحلل الاقتصادي في " نيويورك تايمز " في كتابه " أميركا التي نريد " إن متوسط دخل العامل الأميركي لم يتحسن منذ سنة 1973 ، رغم أن ما ينتجه الفرد زاد 50% منذ ذلك التاريخ . فالعاملون من شريحة الأعمار من 35 إلى 45 سنة ، تدنى دخلهم بنسبة 12% عما كان عليه في 1973 " أن أرباح زيادة الإنتاجية لو وزعت بالتساوي على القوة العاملة ورؤوس الأموال لزاد دخل الفرد 35% عما كان عليه سنة 1970 " . عن (الحياة 15/9/2008 ) وتقول مجلة الأيكونومست [ Sept16th006 ] أن الشركات الأميركية الكبرى زادت نصيبها من الدخل القومي من 7% في أواسط سنة 2001 إلى 13% سنة 2006 . وتقول إن العولمة رفعت الأرباح مقابل الأجور بعدة طرق
" إذا كان الناتج المحلي للفرد يرتفع بقوة ، لماذا ينخفض الدخل الحقيقي لمعظم العاملين ؟ جزئيا لأن حصة اكبر تذهب للأرباح ،وجزئيا أيضا لان أصحاب الرواتب العليا حصلوا على جزء كبير من الزيادة في الدخل مسببا نمو عدم المساوة . 1% من أصحاب الرواتب الأعلى يحصلون على 16% من مجمل المداخيل ، وذلك من معدل 8% لسنة 1980 . ونما عدم المساواة أيضا في أوروبا واليابان ولكن ليس بالنسبة ذاتها " . أما في دول الأطراف التي تحكمها طبقات إقطاعية مالكة أو برجوازية حاكمة، فالصورة أشد سوادا. والأمثلة متعددة في الوطن العربي ،وخاصة في مصر والأردن ولبنان . ففي العديد من الدول العربية ارتفع الناتج المحلي ولكن الدخل الحقيقي للقوى العاملة تدهور بشكل حاد ، مما أسقط الطبقة الوسطى أو إلغائها تقريبا ووسع نطاق الفقر ، والفقر المدقع ، واحدث تنمية سلبية أو مزيدا من التخلف ، ويمكن وصف التخلف بالنمو المشوه. ويمكن القول إن الليبرالية الجديدة مثلت فكر ومنهج الرأسمالية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة ، أي مرحلة الامبريالية الجديدة .
أطلقت الليبرالية مرحلة جديدة من العولمة ، و سارعت عملية الدمج والاستحواذ بين المؤسسات والشركات ، مما رفع معدلات التمركز والاحتكارات ، فمكن الرأسمالية من رفع نصيب رؤوس الأموال من الناتج على حساب نصيب الأجور ، وأبطأ زيادة الإنتاج والنمو على المدى الطويل ،وأسس لأزمات اجتماعية ومالية واقتصادية متتالية ، تتصاعد حدتها حتى تصل إلى مرحلة الانفجار . فخفض أجور القوى العاملة في مراكز النظام، والمواكب لتدني القدرات التنافسية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي ، يتناقض مع زيادة الإنتاج ،وخاصة إذا ما تعثرت المغامرات الإمبريالية كما يحدث اليوم لأميركا، وتفلتت بلدان عديدة مثل معظم بلدان أميركا اللاتينية من مخالبها، ونمت بلدان أخرى مثل الصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل وإيران ، و أصبح لديها قدرات تنافسية عالية . فزيادة الإنتاج الضروري لتنمية الأرباح يعتمد على نمو الطلب المحلي ، أي على القدرات الشرائية للقوى العاملة التي تتناقص قدراتها الشرائية نتيجة السياسات الليبرالية . وفي الولايات المتحدة كما في معظم البلدان الرأسمالية ، يشكل نمو الطلب الداخلي قاطرة النمو الاقتصادي . لذلك ابتكرت الليبرالية الجديدة قضية تنمية الطلب الدخلي بالديون ، وأيضا عبر الإقراض عالي المخاطر، أي دون اخذ ضمانات لأشخاص غير مليئين وعبر خفض الفوائد الحقيقية ( الفوائد ناقص معدل التضخم ) إلى ما دون الصفر . فنشأت سندات الخردة ( Junk Bonds) عند انهيار أسعار الأسهم ، كما نشأت القروض العقارية الفاسدة والتي أسقطت أكبر مؤسسات الرهن العقاري ، عندما انهارت أسعار المنازل . أكثر من ذلك موّل ارتفاع أسعار المنازل عبر المضاربات المالية .استدانة القوى العاملة عبر رفع الرهونات على المنازل التي يرتفع سعرها السوقي . وكذلك تم رفع الطلب عبر زيادة الديون بواسطة بطاقات الائتمان والتي تبلغ الفائدة المدينة عليها أكثر من 20% .
فالفقاعات لا تنمو بالصدفة في السوق . بل يتم تكوينها وتنميتها لأسباب موضوعية ولخدمة رؤوس الأموال الباحثة عن مخارج وساحات وأدوات مالية لتنمية أرباحها ودفع أزماتها البنيوية إلى الأمام ، فتتراكم ثم لا بد أن تنفجر .
جبل الديون
إن سياسات تنمية الطلب بالديون خلق في أميركا جبلا هائلا من الديون العامة والخاصة ، لقطاع المنازل كما لقطاع الأعمال . وبلغ إقراض المصارف في أميركا حسب بيانات حديثة حوالي 70 تريليون دولار ( Information Clearing House “the Crash of Western civilization by Richard C.Cook 15/9/2008)
وبلغ الدين العام أكثر من 10 تريلون دولار حتى اليوم ،ويرتفع بسرعة كبيرة نتيجة تنامي عجز الخزينة لأربعة أسباب (1) أن الانكماش الاقتصادي التي دخلت مرحلته الولايات المتحدة سيقلص كثيرا من واردات الخزينة نتيجة هبوط الإنتاج والارباج (2) إن النقص المتصاعد في ملاءة المؤسسات الرأسمالية يٌفرض على الخزينة مد هذه المؤسسات بأموال طائلة تتخطى كثيرا الـ 700 مليار دولار المخصصة لذلك (3) إن زيادة البطالة والفقر سيجبر السلطة على زيادة تقديماتها للشرائح الضعيفة في المجتمع خوفا على السلم الأهلي وعلى النظام العام (4) ارتفاع الإنفاق العسكري الأميركي إلى معدلات غير مسبوقة لا تظهرها أرقام موازنة البنتاعون .
فقد تجاوزت كلفة حربي العراق وأفغانستان حسب " جوزف ستغلتز" الـ 3 ترليونات دولار ، ويستفيد منها طبعا المجمع الصناعي العسكري النفطي . فقد ارتفعت أسهم شركات صناعة الأسلحة والذخائر ، كما أسهم الشركات النفطية إلى أرقام قياسية . فالحروب مريحة جدا لهذه الشركات ويدفع ثمنها دافعوا الضرائب . فقد بلغت ميزانية البنتاغون لسنة 2008 كما أعلنت في شباط 2007 ، 481.4 بليون دولار لتغطية الرواتب والعمليات، (ما عدا أفغانستان والعراق). ولكن هناك أيضا 141.7 بليون لتمويل القتال ضد الإرهاب ، و 93.4 بليون لتغطية تكاليف حروب غير مذكورة ، مثل حرب الصومال بواسطة أثيوبيا ، و50 بليون على حساب موازنة 2009 ليصبح المجموع 766.5 بليون دولار . ولكن هناك نفقات أخرى أيضا مثل 23.4 بليون لوزارة الطاقة لتطوير وصيانة الرؤوس النووية ، و 25.3 بليون دولار لوزارة الخارجية للإنفاق على المساعدات العسكرية الخارجية ، و1.3 بليون لتطويع المجندين و 75.7 بليون لجنود معاقين في القتال ( منهم 28870معاقا في حرب العراق ) و 46.4 بليون للأمن الداخلي و 1.9 بليون للـFBI ، و 38.5 بليون دولار للجنود المتقاعدين ، و7.6 بليون دولار للنشاطات الجوية والفضائية ، و 200 بليون فوائد على قروض سابقة للدفاع . فتبلغ الميزانية الحقيقية 1.1 تريليون دولار ، أي أن الموازنة الحقيقية هي أكثر من ضعف الموازنة المقره للبناغون ( نفس المصدر )
المقومات الاقتصادية والبنية التحتية
انعكست السياسات المالية والنقدية والاقتصادية المتبعة منذ عقود في البلدان الرأسمالية المركزية ،وخاصة في أميركا ، سلبا على معظم المقومات الاقتصادية الأساسية . فقد تدنت معدلات الادخار الوطني إلى حول الصفر في الولايات المتحدة . ومعدلات الادخار تساوي في النهاية معدلات التوظيف . و أصبحت معدلات النمو للتوظيف الآن حوالي واحد إلى خمسة ، أي أن نموا حقيقيا قدره واحد في المئة يتطلب ادخارا بمعدل خمسة في المئة . فالصين التي يلغ نمو ناتجها المحلي حوالي عشرة في المئة تحقق ادخارا وطنيا بنسبة 50% . أي أن معدل الادخار في الولايات المتحدة على المديين المتوسط والطويل لا يسمح لها بأي نمو اقتصادي فعلي .
ثم إن عجز الموازنة بلغ 2.5% من الناتج المحلي القائم ، وسيرتفع هذا العجز بنسبة عالية نتيجة " برامج الإنقاذ " التي تضع على الموازنة الفيدرالية أعباء إنفاق مرتفعة أما الميزان التجاري فقد حقق عجزا بلغ 844.6بليون دولار للأشهر ألاثني عشر المنصرمة .ويعاني حساب المدفوعات الجاري عجزا سنويا بلغ 699.0 بليون دولار ويساوي 4.2 % من الناتج المحلي . وتجاوز الدين العام عشرة تريليون دولار حتى ألان (Economist .Dec.4th2008 The ). ونمت معدلات البطالة بنسب عالية، من حوالي 4% إلى 6.1%. ولكن معدلات البطالة الحقيقية تبلغ أكثر من ضعف هذه الأرقام الرسمية، إذ أن الإحصاءات الرسمية تسقط من تعداد العاطلين عن العمل من لم يجدوا عملا لمدة ستة أشهر ، كما تسقط من تعداد العاطلين عن العمل من يعمل بعض الوقت، ولبضعة أيام في الشهر.
وانعكس عجز الموازنة ونمو جبل الديون سلبا على البنية التحتية الأميركية التي أخذت في التدهور منذ عدة عقود . وتدهور البنية التحتية يعيق الاقتصاد الحقيقي ويكبح نوه ، بل يؤدي إلى تدهوره . ويقول تقرير للرابطة الأميركية للمهندسين نشر في مجلة " نيويورك ريفيو اوف يوكس " أنها- أي الرابطة – تطالب منذ مدة بالاهتمام بالبنية التحتية المهددة بالانهيار . فثلاثون في المئة من الجسور الكبيرة فيها قصور شديد ، وفقدت صلاحيتها ، وتحتاج إلى إنفاق نحو 9.4 بليون دولار سنويا ولمدة عشرين عاما لإصلاحها . وان عدد السدود غير الآمنة في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 33% حتى وصل إلى 3500 سد . وان حالات المواصلات العامـــــــــــة (حافلات وقطارات إنفاق وسكك حديد) تزداد سوءا بسبب زيادة الطلب عليها نتيجة ارتفاع أسعار الوقود ،وان الميزانيات المخصصة لمياه الشرب تفي بحاجات نسبة بسيطة من الاحتياجات على المستوى القومي . ومخصصات الصرف الصحي لا تصل إلى الحد الأدنى الذي يؤمن الحفاظ على وضعها الراهن . أما النقل الجوي فان النقص الشديد في مهابط الطائرات سبب 1.8 ساعة تأخير في مواعيد إقلاع الطائرات. وإعادة أبنية المدارس الحكومية ، وإعادتها إلى واقع مقبول فيحتاج إلى ربع تريليون دولار ( الحياة 6/10/2008 ) .
ويقدر الناتج المحلي الأميركي بحوالي 14 مليار دولار . ولكن قسما كبيرا منه هو ناتج افتراضي تولت إنتاجه البنية المالية الفوقية في الاقتصاد نتيجة المضاربات ونمو المشتقات المالية والمتاجرة بها والثروات الافتراضية التي تولدها ، وهو ناتج لا علاقة له بالاستهلاك الشعبي . وهذه البنية الاقتصادية الافتراضية هشة وقابلة للسقوط عندما تهتز البنية الاقتصادية الحقيقية التي تستند إليها.
وهذا الاقتصاد الأميركي المتربع فوق جبل هائل من الديون الوطنية والخارجية ذو البنية التحتية المتهالكة، وذو المقومات الاقتصادية الضعيفة، هو اقتصاد هش وقابل للسقوط ولا بد من أن يسقط لما يولده من أزمات اقتصادية وتناقضات اجتماعية داخلية، او عندما يتوقف الخارج عن تمويل الإسراف الأميركي والحروب الامبريالية الأميركية .
فشل السياسات الليبرالية الجديدة
لم تستطع السياسات الليبرالية الجديدة المتبعة منذ بداية الثمانينات حل أزمة النظام الرأسمالي العالمي . نجحت في إعادة تقسيم القيمة المضافة لمصلحة رؤوس الأموال ، فخفضت الرواتب والأجور الحقيقية ، ومولت الاستهلاك بالديون لا بالمداخيل بغية توليد نمو موهوم وزائف ، وشنت الحروب العدوانية الخارجية لتحفيز الطلب ورفع معدلات العمالة، وللإمساك بشرايين العالم الاقتصادية ونهب ثروات دول العالم الثالث بغية التعويض عن تدهور قوتها الاقتصادية. ولكنها لم تستطع أن تحل مشكلة معدلات مردود التوظيفات المنخفضة لرؤوس الأموال فقد تراجع مردود رؤوس الأموال في قطاعات الاقتصاد الحقيقي إلى حوالي 6% بينما وصلت الأرباح في الصناعة المالية ، وخاصة لدى صناديق التوظيف إلى حوالي 20% . وارتفع نصيب صناعة الخدمات من مجمل أرباح الشركات من 10% عند بداية الثمانينات ، أي عند وصول المحافظين الجدد إلى السلطة ، إلى 40% عند ذروتها في سنة 2007 ( The Economist Sept20th20085 ) . إن هذا التفاوت الكبير في مردود التوظيف جذب رؤوس الأموال إلى التوظيف في قطاع الخدمات وخاصة المالية منها ، وبعيدا عن قطاعات الإنتاج الحقيقي . وتدنى بالتالي أداء قطاعات الاقتصاد الحقيقي ، وخاصة الصناعة ، فقد تدنى نصيب الصناعة إلى 13% من الناتج المحلي الأميركي ، وبدأ هذا التدني منذ بداية الثمانينات أيضا . وأصبح الإنتاج الحقيقي للصين مقاسا بالقيمة الحقيقية ( P.P.P ) Purchase Power Parity أكبر من الناتج الحقيقي الأميركي . فبين سنتي 1979 و 1992 خفضت اكبر 500 شركة صناعية أميركية عدد العاملين فيها بـ 4.4 مليون عامل كما يقول كتاب Global Dreams للكاتبين Richard Barnet and John Cavanagh ،
وتسارع انهيار قطاع الصناعة الأميركي في السنوات الأخيرة مما وسع عجز التجارة غير النفطية ، واسقط 5.6 مليون وظيفة في العام الماضي ، وكانت أكثر الولايات تضررا ، ولايتي ميشيغان وساوث كارولينا ( عن الحياة 3/8/2008) . ولم يقتصر تراجع قطاع الصناعة على الولايات المتحدة ، بل امتد إلى أهم قلاع الرأسمالية التي سلكت طريق الليبرالية الجديدة مثل بريطانيا وفرنسا . وفي فرنسا أعلنت شركـــــة " بولير هيرميس للتأمين على القروض " إن أكثر من 28500 شركة فرنسية أفلست في النصف الأول من العام الحالي ، وبزيادة 15% عن الفترة ذاتها من العام السابق ، مع تدهور المناخ الاقتصادي ( الحياة 4/9/2008)
إن نمو اقتصادات بعض الدول الرأسمالية الكبرى مثل أميركا وبريطانيا بشكل خاص خلال العقود الماضية أعتمد بشكل كبير على الاقتراض والترفيع في سوق مالية هشة ومسيطرة على قطاعات الاقتصاد الحقيقي التي تقودها مصالح البنية المالية الفوقية المضاربة ، وغير المراقبة بالقدر الكافي . وعلى رأس هذه البنية صناديق التحوط (Hedge Funds ) وهذه الصناديق عبارة عن تجميع للرساميل غير المقوننــــــة (Unregulated ) ألا بشكل بسيط . وتستدين هذه الصناديق لتنمية مواردها من البنوك ، وتعمل على تحقيق أرباح إذا ما اتجهت السوق صعودا أو هبوطا ، عبر الرهان على تحولات اتجاه السوق . واستطاعت هذه الصناديق أن تحقق نموا كبيرا من حيث العدد وقيمة الأموال التي تديرها . فارتفع عددها من 610 صندوقا في سنة 1990 ، تدير 39 بليون دولار من الموجودات ، إلى أكثر من 9000 صندوق تدير 1.3 تريليون من الموجودات في سنة 2000 ( The Economist Nov.18th 2006) ، ونما عددها وموجوداتها بنسب كبيرة حتى اليوم . وتبني هذه الصناديق أنصبة لها في الشركات المستهدفة " وتستعمل قدراتها للدفع من اجل تغييرات إستراتيجية ، من عرض الشركات للبيع إلى وضع ممثليهم ( أي الصناديق ) في مجالس إدارة الشركات . هؤلاء هم تجار وليسوا موظفين (Investors ) . فهذه الصناديق تستهدف الربح السريع الناتج عن ارتفاع ثمن أسهم الشركات على المدى القصير حيث تنسحب منها بعد رفع ثمن الأسهم بكل الوسائل الممكنة ، محققة أرباحا عالية . فالتوظيف في الصناعة يمكن أن يعطي مردودا جيدا نسبيا على المديين المتوسط والطويل ، والصناديق غير مهتمة بذلك . فسيطرة الصناديق على بعض المؤسسات الصناعية يفسد الشركات فيلحق بها أضرارا كبيرة على المديين المتوسط والطويل .
نجحت الليبرالية الجديدة في إعادة هيكلة الاقتصادات الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ، وأطلقت ما اسمــاه بعض دعاتها " عصـــــر ما بعد الصناعــــــة "( Post Industrial Age ) . وهذا العصر الجديد يعتمد بشكل أساسي على قطاع الخدمات لا الإنتاج الحقيقي وخاصة على الأسواق المالية الحديثة ،وعلى قطاع المعلوماتية الشديد الارتباط بقطاع المال ، وبالتصميم والتجارة والإعلان . فشركة " نايك " مثلا تصمم الأحذية وتقوم بتسويقها . ولكن مصانع أندونسية يملكها كوريون جنوبيون تصنع الأحذية ، حيث يكلف الحذاء حوالي 6.4 دولارا أميركيا ، يباع ما بين 70 و 120 دولار في أنحاء العالم . ويحصل مايكل جوردان من الدعاية لهذه الأحذية على مبالغ تفوق كل أجور صانعي الأحذية في اندونيسيا ، والذين يعملون 12 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع واثني عشر شهرا في السنة دون راحة أو عطل.
يقول بول سويزي أن منطق النظريات الاقتصادية كله، يشير إلى النتيجة التي وصل إليها جون ستراتشي (John Starchy ) : " إن الاتجاه الحتمي لاقتصاد احتكاري ، يتألف من شركات جبارة هو نحو مزيد من اللامساواة ، ومزيد من عدم الاستقرار " . [P. Sweezy .Modern Capitalism P. 74]. وتزداد الضغوط على ذوي الدخل المحدود في أميركا . وابلغ خبراء لجنة تابعة للكونغرس الأميركي ، إن المشاكل الاقتصادية للطبقة المتوسطة بدأت منذ سنوات ، على رغم أن احتمال انزلاق الاقتصاد الأميركي إلى الركود ، أثيرت في صيف سنة 2007 " وتحت وطأة ارتفاع أسعار البنزين وانخفاض قيمة المنازل ، وارتفاع كلفة الرعاية الصحية وانعدام نمو الدخل منذ سنة 2007 فان التوقعات سيئة لأصحاب الدخل المتوسط والمنخفض ." وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء السكاني أن متوسط الدخل السنوي للأسرة الأميركية في الشريحة العليا بلغ عام 2006 نحو 168.170 ألف دولار ، تساوي 15 ضعف المتوسط الدخل في أدنى الشرائح ، وان دخل أغنى 20% من السكان تجاوز نصف الدخل في البلاد (الحياة 24/7/2008 )
إن هذا النظام الرأسمالي العالم ، والذي فاقم الفروقات الطبقية داخل دول المراكز الرأسمالية ، فاقم الفروقات أيضا بين دول المركز ودول الأطراف . فحتى سنة 2006 أصبح 2% من سكان العالم يملكون نصف ثروته ، بينما يملك نصف سكان العالم الأفقر 1% منها فقط . وذلك حسب دراسة قام بها " المعهد العالمي لتنمية البحوث الاقتصادية" التابع لجامعة الأمم المتحدة في هلسنكي .
إن أزمة هذا النظام لم تبدأ مع انفجار أزمة الفقاعة العقارية. ولم تبدأ مع أزمة السيولة في المصارف ، وأزمة القطاع المالي في أميركا ، والتي امتدت إلى أوروبا والى معظم دول العالم . فقد نمت وتراكمت الأزمة البنيوية منذ ما قبل وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في بريطانيا وأميركا عند بداية الثمانينات . وتم دفع الأزمة إلى الأمام بسياسات تفاقم الأزمة ولا تحلها بل تراكمها وتفاقم أمراض النظام . حتى أن محافظ البنك المركزي الأميركي السابق والأكثر شهرة " ألان غرين سبان " حذر في عام 2002 وفي أعقاب سقوط شركتي " انرون " و " غلوبال كروسنغ " إن " الرأسمالية لم تعد تعمل ،وهناك عملية تجري لإفساد النظام المالي " ( الحياة 6/10/2008)
باختصار شديد يمكننا القول إن هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي تم بناؤه في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، والذي بناه المنتصرون بقيادة وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية ، وتم تطويره وتغييره حسب مصالحها الخاصة ، هو نظام آيل للسقوط . وأزمة النظام الرأسمالي في مرحلة الامبريالية الجديدة التي بدأت مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في بريطانيا وأميركا ، ليست أزمة عابرة ، وليست مجرد أزمة سيولة وملاءة ، بل إنها أزمة بنيوية شاملة للنظام على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية ، كما على الصعد الأخلاقية والسياسية والعسكرية .
حسبت الرأسمالية في مرحلتها الأكثر احتكارية وعولمة ، وبقيادة الولايات المتحدة ، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بأنها وضعت حدا للمسيرة التاريخية الصاعدة للبشرية، بأنها أوقفت جدلية التاريخ، وأبدت نظامها، وتربعت على عرش العالم لأمد غير منظور . توهمت أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا أميركيا بامتياز كما القرون التي ستليه . وأطلق بوش مبادئه المشهورة , مبادئ حق أميركا في شن الحروب الاستباقية والوقائية لإدامة تفوقها وسيطرتها على العالم ، ولترسيخ الفرادة الأميركية والسلوك الأميركي المتحلل من كل القيم والأخلاق والمثل ، كما من كل المواثيق والمعاهدات الدولية . كما جعل الفضاء الخارجي أرضا أميركية محروسة . ووضع خطوطا حمراء أمام تقدم أية دولة في العالم تحاول مزاحمة أميركا أو تجاوزها . انه نظام القطب الامبريالي الأوحد ، نظام السيد الأوحد لهذا العالم .
ولكن سرعان ما تهاوت مبادئ بوش ، عندما تبينت محدودية القدرات الأميركية على كل الصعد الاقتصادية والعسكرية والسياسية . فأميركا التي قال عنها " مارتن لوثر كنغ " بأنها " اكبر متعهد للعنف في كوكب الأرض " علقت في الفخ العراقي الذي استنزف حتى الآن ، وحسب جوزف شنيغلتز ، أكثر من 3 تريليون دولار من إمكانياتها المادية ، كما غرقت في المستنقع الأفغاني الذي يزداد عمقا . وبذلك استطاع العديد من دول أميركا اللاتينية – الحديقة الخلفية لأميركا – إن تفلت من براثينها وتختار طريقا آخر لنموها . واستطاعت كوريا الشمالية أن تقف وقفة تحدي لأميركا وان تفلت من العقاب . واستطاعت إيران وسوريا من اتخاذ موقف الممانعة ضد الهجمة الأميركية الصهيونية التي كانت تتوعد باجتياح سبع دول عربية وإسلامية خلال خمس سنوات . واستطاعت روسيا أن تقف لتصد الزحف الأطلسي عليها الهادف لحصارها وخنقها وتفتيتها .
إن عالما جديدا ينبثق ، وسيبنى على أنقاض عصر الهيمنة الأميركية . وعلى أنقاض النظام الرأسمالي العالمي الراهن ، الاقتصادي والسياسي والقيمي والأخلاقي . فأميركا العاجزة عن تحقيق انتصارات في العراق وأفغانستان ، كما في فلسطين ولبنان والصومال ، والتي ترى فيها شعوب العالم عدوا لحريتها وتهديدا للسلم العالمي ، والتي ارتكبت أبشع الجرائم في التاريخ ضد سكان أميركا الأصليين كما ضد زنوج إفريقيا ، والتي ترتكب جرائم ضد الإنسانية كل يوم في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وفي غيرها من دول العالم الثالث ، وتعيد المكارتية في حكم الداخل ،وترهب العرب والمسلمين ، وتجردهم من حقوقهم كمواطنين أميركيين بحجة محاربة الإرهاب ، وتقلص نطاق الديمقراطية التي تدعو لها زورا في الخارج ، إن هذه الاميركا لم تعد قادرة على حكم العالم والتحكم بمصيره .
يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد ( Ben Jamin Freidman ) : " مرة بعد أخرى ، كانت دائما الدولة الدائنة الأكبر في العالم . هي الدولة الأولى من حيث التأثير السياسي والدبلوماسي والثقافي . ولم يكن صدفة أننا أخذنا هذا الدور من البريطانيين في الوقت الذي أصبحنا فيه القوة الدائنة الأولى في العالم . اليوم لم نعد القوة الدائنة الأولى . في الحقيقة نحن الدولة المدينة الأولى في العالم . ونحن نستمر في قدرتنا على التأثير على أساس القوة العسكرية فقط."
وفي الوقت التي تتراجع فيه قدرات أميركا وحلفائها من دول المراكز الرأسمالية العالمية ، تتقدم العديد من شعوب العالم الثالث ودوله ، متفلته من التبعية لمراكز النظام الرأسمالي العالمي ، متخطية حواجز التخلف العلمي والتقني والإداري والفقر. فهناك العديد من الاقتصادات الصاعدة في العالم اليوم التي رفعت من تأثير حضورها الاقتصادي والسياسي والثقافي والعسكري . فهذه الاقتصادات الصاعدة أصبحت تملك وحتى سنة 2006، 70% من احتياطات النقد الأجنبي في العالم ، وتحقق معدلات ادخار وتوظيف مرتفعة تربو على 6% سنويا . وتخطت احتياطات الصين 1.9تريليون دولار ،وخفضت بنسب عالية مستوى الفقر لديها ، ورفعت كثيرا من معدلات الدخل الفردي . وتقف معظم الاقتصادات الصاعدة خارج إطار الأزمة الاقتصادية البنيوية العالمية . فالصين مثلا تقف متفرجة على الأزمة والتي لن تتأثر بها بأكثر من انخفاض نمو دخلها القومي من 11% إلى 9% حسب أكثر التقديرات تشاؤما نتيجة ركود أسواق صادراتها . والدول التي لم تفتح أسواقها بشكل كلي على الخارج ، وخاصة سوقها المالي ، وأبقت على دور الدولة في التخطيط والمراقبة لضبط الأسواق ، ولم تطلق آليات السوق وتخضع لأخلاقياتها ، ستبقى اقل تعرضا للأزمة الاقتصادية الشاملة ومظاهرها المالية والنقدية .
إن عالما جديدا سيبنى على أنقاض النظام الرأسمالي الراهن ، وسيفتح الباب مجددا للخيار الاشتراكي الذي يتخطى النظام الرأسمالي الوحشي الذي أعاد طرح الداروينية الاقتصادية ، واسقط الأخلاقيات الاشتراكية ، أخلاقيات العدالة والتضامن الاجتماعي ، أخلاقيات تحرير الإنسان وتنمية جوهره الخلاق المبدع المتسامي نحو المثل الأعلى ، بدل تشييئه وتحويله إلى عامل إنتاج واستهلاك لمصلحة تراكم رؤوس الأموال . لا بد من إعادة إحياء شرعة حقوق الإنسان وخاصة الجيل الثاني منها والمتعلق بحقوق الطبقات العاملة ، وإعادة إحياء الحقوق والضمانات التي أنتجت دولة الرفاهية في الغرب .
إن عالما جديدا لا بد أن ينبثق ، على أنقاض مجتمعات الاستهلاك الرأسمالية ،والتي استطاعت أن تبني مجتمعات الاستهلاك والبذخ الشديدين على حساب فقر الأكثرية الساحقة من شعوب العالم الجائع المريض المتخلف .
إن نهوض معظم شعوب العالم الثالث سيسقط أنماط الحياة في الدول الرأسمالية الغربية، إذ إن خيرات العالم المتجددة وغير المتجددة لن تكفي لهذا النوع من الاستهلاك السائد في الغرب . ورأينا خلال السنة الحالية كيف ارتفعت أسعار المواد الخام والغذاء نتيجة تزايد الطلب عليها . فالعالم اليوم يستهلك 1.4 أضعاف ما تستطيع الكرة الأرضية إعادة إنتاجه من الأسماك والأشجار سنويا . ويتضاعف استهلاك العالم من المياه مرة كل 20 سنة ، وذلك معدل لا يمكن أن يستمر . والمياه المتجددة للكرة الأرضية ليس لها بديل مثل النقط – ويبذّر نظام الاستهلاك الموارد المائية المتجددة للكرة الأرضية . إن خمس شركات كبرى لإنتاج الطعام والمشروبات تستهلك تقريبا 575 مليار ليتر من المياه سنويا ، والذي يسد الحاجة اليومية لكل شخص على هذا الكوكب . وإنتاج 200مم من الرقائق من أشباه الموصلات يحتاج إلى 13 متر مكعب من المياه على سبيل المثال [ The Economist Sep16th 2006 ] وارتفاع أسعار المواد الغذائية كان جزئيا بسبب نمو القدرات الاستهلاكية لبعض شعوب دول العالم الثالث التي طورت أنماط استهلاكها للمواد الغذائية وضاعفت استهلاكها من اللحوم . وإنتاج كيلوغرام من اللحم الأحمر يحتاج إلى 8 كيلوغرامات من الحبوب .ولا تكفي خيرات الأرض لرفع استهلاك شعوب العالم من اللحوم، على سبيل المثال، مع صعود إقتصادات معظم شعوب العالم الثالث . فان صعود شعوب العالم الثالث سيجبر شعوب العالم الأول على تغيير أنماط حياتها والتخلي قسرا عن انمطة الاستهلاك وقيم الاستهلاك السائدة اليوم في العالم.
ثم إن النظام السياسي العالمي ومؤسساته التي تسيطر عليها الولايات المتحدة من مجلس الأمن إلى منظمة التجارة العالمية ، إلى صندوق النقد والبنك الدوليين . أصبحت لا تمثل توازنات هذا العصر وتغيير موازين القوى فيه. وأصبحت غير قادرة على حل مشاكل هذا العالم واحتواء صراعاته. أصبح من غير المقبول أن تمتلك أميركا وحدها حق النقض في البنك الدولي ، وان تحتكر إدارته ، ومن غير المقبول أن تحتكر أوروبا حاكمية صندوق النقد الدولي ، من غير المقبول أن يتحول البنك والصندوق الدوليان إلى أدوات امبريالية أميركية ، لخدمة مصالح الهيمنة الأميركية في العالم . من غير المقبول أن تحتكر حفنة من الدول حق النقض في مجلس الآمن ،وان يكون مجلس الأمن ،وليست الجمعية العامة للأمم المتحدة مركز السلطات ومصدر القرارات الدولية
إن ما نراه اليوم من أزمات على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية يعبر عن المخاض العظيم للعالم ، والذي سيولد عالما آخرا ، أكثر عدالة وإنسانية وعقلانية في مسيرة البشرية على هذا الكوكب .