أفكار نيتشه .. غذاء روحي للفاشية والإمبريالية المعاصرة
أفكار نيتشه .. غذاء روحي للفاشية والإمبريالية المعاصرة
يعتبر فريدريك نيتشه، من أكثر الشخصيات تناقضاً وتعقيداً، وخلال حياته تعرضت آراؤه لتغييرات دائمة. ولد نيتشه في /15/ تشرين الأول عام /1844/ في ألمانيا، فقد والده، وهو لا يزال في الخامسة من عمره، وتولت أمه العناية به، ونيتشه من أصل بولوني من جهة أبيه، وأجداده نبلاء بولونيون، أما أمه فألمانية. بعد انتهائه من الثانوية، درس الفلسفة الكلاسيكية الألمانية في جامعة بون. في عام /1869/، نال لقب دكتور دون تقديم أي أطروحة، وهو في الخامسة والعشرين من العمر. وفي ربيعه الـ /27/ أعتبر بروفسوراً رسمياً في جامعة بازيل. وفي /1879/، وبسبب اضطراب نفسي، ترك منصبه كأستاذ وانصرف كليةً إلى الأعمال الأدبية.
وسافر إلى سويسرا وروما وسورنتو. وفي عام /1890/، استفحل مرضه النفساني. واضطر إلى العودة إلى أمه في القرب من هامبورغ. بعد موت أمه، أقام عند أخته اليزابيت فيريستي في وايمار، حيث عانى المرض زمناً طويلاً، ومات في /25/ آب /1900/ في هذه المدينة التي أحبها شيلر وغوتة.
ينبوع نيتشه الروحي..
أصبح شوبنهاور مربي نيتشه الشاب، إذ كان شوبنهاور موضوع تقدير وتأليه نيتشه، وينبوع غذائه الروحي. وتميز شوبنهاور برفض ونبذ فكرة التقدم الاجتماعي، ووقف ضد حق الجماهير الشعبية في نضالها لتحسين ظروفها الحياتية. واستخدمت أفكار شوبنهاور الفلسفية في عهد الإمبريالية على نطاق واسع من قبل الفلاسفة البرجوازيين الرجعيين وخاصة أفكار نيتشه الذي أصبح أباً للإيديولوجية الفاشية.
إن كتابات نيتشه مفعمة بكراهية عنيفة للجماهير الشعبية وثورتها، فقد نادى بالمبادئ المعادية للإنسانية والمعادية للديمقراطية. إن الإرادية تعتبر القوة المحركة المتطورة لفلسفته.
وكذلك «النضال في سبيل الوجود الذي يتحول إلى الإرادة في الحكم».
وبالنسبة لنيتشه، إن الواقع الأساسي للحياة ليس الدافع إلى البقاء على الذات، بل الدافع لاستخدام القوة من أجل السيطرة.
يحاول بعض الباحثين البرجوازيين إنكار دور فلسفة نيتشي في تكوين الأفكار الفاشية، وتحدثوا عن اختلاف بين الفلسفة النيتشية والفاشية. وحجتهم الرئيسية هي أن الإيديولوجية الفاشية وضعت من أجل «الطبقة الشعبية» وتلبية «المتطلبات الاجتماعية للإنسان العادي» بينما النيتشية «فإن روحها الأساسية هي النزعة الفردية القصوى. وأطلق هؤلاء المدافعون حجة تقول أن الفاشية تتلاعب بفهم الاشتراكية، لكن نيتشه لم يسمح بأي كلمة حول الاشتراكية بصورة عامة. ولكن ما يقولونه يتراءى للوهلة الأولى فقط. إن توليف الأفكار، وبعض الآراء النظرية للاشتراكية الشوفينية، تقودنا إلى الاستنتاج بأن الفاشية قد أخذت الأشياء الكثيرة من نيتشه وتبنتها، وأخذ القوميون الاشتراكيون من نيتشه، أسطورة «السوبرمان» الأبيض.
إن السوبرمان «هو جوهر الأرض، وجوهر وجودنا» كما قال نيتشه في عمله «هكذا تكلم زرادشت». ورأى نيتشه خطراً كبيراً في الحركة الاشتراكية الديمقراطية. وفي الدول الفاشية أعلن نيتشه كنبي. وكان هتلر يحب أن تلتقط له صورة قرب تمثاله. وجاء في الموسوعة العالمية: إن الدعاية الفاشية، استخدمت النيتشية كمدافعة عن اللا عقلانية من أجل خدمة المرحلة العليا للرأسمالية وإخفاء إيديولوجية الإمبريالية.
التعاليم النيتشية..
نجد الكثير من التعاليم النيتشية في داخل البنية الفكرية للإيديولوجية الفاشية، يقول نيتشه: إذا لم تتوقف عملية انحطاط الإنسانية بواسطة عمل جديد مبدع، فإن «المجتمع المتحضر» وكل الإنسانية محكوم عليها بالدمار. ولكن مَنْ الذي يستطيع تحقيق ذلك؟ ويجيب نيتشه: إنه الرجل القوي، فقط إرادة الفرد، تفكيره المبدع الذي يتجاهل الحدود من أجل إنقاذ الإنسانية من التفسخ.
كان شوبنهاور ــ يقول نيتشه ــ «يعتقد بأن الإرادة هي الجوهر ذاته لحياتنا ولكل الأشياء، ولكل الكون. إن الإرادة تملأ محتوى كل الأشياء، وهي منشأ تطور ونهاية حياة العالم والروح. يسيطر الأقوياء، أما الضعفاء فهم التربة المغذية لأسياد العالم». واعتبر نيتشه أن أخلاق العبيد تقوم على الوداعة، وعلى الشفقة، والحب، والضعف، والغفران. أما أخلاق الأسياد فتقوم على القساوة، والجرأة، والقوة، وانعدام الشفقة.
ولكن من يحمل في داخله «الإرادة»؟ يجيب نيتشه: «الارستقراطية» فقط. الفئة القليلة العدد من النخبة المزودة بالصفات الجيدة، صفات السيطرة. وهنا نرى أن تعاليم نيتشه تتجسد تماماً باعتبارها نصيرة لتطور التشدد الارستقراطي، النخبة والأقوياء الارستقراطيون الذين لا يعرفون الشفقة. واعتبر الجماهير ليست خليقة حتى بحمل اسم الإنسانية. واعتبر الحركة الثورية الاشتراكية تجلياً للانحطاط. والناس «الكثيري العدد» يجب أن يموتوا.
فمعيار كل تطور هي طبقة النخبة، وهو حافز التقدم، والسير قدماً إلى الأمام. ونظراً لأن نيتشه يكره الجماهير الشعبية، فقد كان يحتقرها ويسميها مبتذلة، قطيع من الماشية، جبانة، وكتلة من العبيد لا وجه لها».
وخلاف الشعارات الاشتراكية والنزعة الديمقراطية، فإن لنيتشه شعاراته الخاصة. فالاشتراكية والنزعة الديمقراطية تشيع المساواة بين الجميع. أما نيتشه فيصر على عدم مساواة الجميع.
يقول نيتشه: إنه يجب أن يفهم الناس نهائياً، بأنهم يعيشون فقط لكي يدوس الأسياد الارستقراطيون على عظامهم. فالإنسانية مجرد مادة لنهوض وصعود أولئك الذين لديهم إرادة. وليس ذلك هدف بحد ذاته، ولكن وسيلة. وغرض التاريخ ليس الإنسانية، بل «السوبرمان».
ويرى نيتشه في «السوبرمان» قمة العملية البيولوجية للعرق البشري، والحلقة الأخيرة في هذه العملية. والجمهور القطعان يجب أن ترضخ أمام قوة السوبرمان. ومجد نيتشه الحرب وإراقة الدماء يقول: «يا أخي، هل أن الحرب والمجازر تشكل شراً؟ وإذا كانت كذلك فإنه شر لابد منه، وهو شيء أساسي» لأنه لا يمكن صنع أي شيء في المجتمع دون الحرب. ويقول: «إن التخلي عن الحرب يعني التخلي عن نطاق واسع من الحياة».
وإلى جانب احتقاره للجماهير، فقد احتقر المرأة يقول نيتشه: «لا تحرير للمرأة، فالمسألة النسوية هي هراء، ولا حرية للمرأة، ولا يمكن أن تكون هناك مثل هذه الحرية، والمرأة لا يمكن أن تكون مساوية للرجل الذي يتمتع بصفات طبيعية قوية ورجولية». ويقول: «إن المرأة تدخل في جيش العبيد الكثر، وهي في عداد الضعفاء ويجب أن تبقى كذلك».
إن التنبؤات المتحمسة للأفكار التي تزخر بها أعماله، والتي تعبر في الحقيقة عن أفكار فاشية، استلهمت وما زالت من قبل ممثلي الفكر الإمبريالي القديم والمعاصر. وليس عبثاً أن كتبه وأفكاره كان يروج لها بشكل واسع في الحزب النازي ويحرضون لقراءة أعماله. يقينا بأن فلسفة نيتشه، شكلت غذاءً روحياً للفاشية بوصفها الاتجاه الأكثر رجعية في الإيديولوجية البرجوازية الإمبريالية في أوج أزمتها الاقتصادية والأخلاقية. ولهذا نجد الكثير من قادة الإمبريالية المعاصرين يتبنون الجوانب الأكثر تطرفاً في فلسفة نيتشه، وأحياناً دون الإعلان عن ذلك.
د. إبراهيم زعير