PCP

يا عمال العالم اتحدوا

بابلو نيرودا في مذكراته: ناظم حكمت شاعر أسطوري

والأدب لا يستطيع أن يتخذ موقفاً مستقلا إزاء قضايا الشعب الجوهرية... لم أقرأ كتاباً يطفح بالسحر والحياة والتجربة الإنسانية الغنية ويضج بأحاديث وانطباعات عن أحداث ووقائع انغرزت عميقاً في الذاكرة كالحرب الأهلية في اسبانيا والمقاومة الوطنية الفرنسية ضد الاحتلال النازي وعن شخصيات أدبية وفنية وسياسية تركت بصماتها في التاريخ، كما هو كتاب المذكرات لشاعر تشيلي الكبير والحائز على جازة نوبل لآداب في عام /1971/ بابلو نيرودا والمعنون: «اعترف بأنني قد عشت». ولكي لا نفقد الكتاب سحره ودفئه المخبأ بين كلمات تشبه للوهلة الأولى فقط غيرها من الكلمات، حالة لا تخلو من الشقاوة والفكاهة وتدخل دون استئذان إلى ما بين طياته لتنبش بفوضوية تعودنا عليها عن تلك المذكرات المتداعية بانسيابية من روح رطبة إلى حد السيلان، والتي ترصد بتعابير وصور شاعر مبدع حياة حافلة بالفرح والألم، من طفولة نبتت في الغابة التشيلية وتعطرت بشذى الغار البري وشجيرة «البولدو»(1) الداكنة إلى تأملات رومانسي مجرّب يرى وطنه يتداعى تحت دكتاتورية بينوشية المقيتة. فهذه المذكرات ليست بمذكرات شاعر، بل أكثر منها، فبابلو التقط صوراً من الحياة ومن الناس أكثر مما يلتقطه شاعر، ولم يعش في ذاته فقط، بل عاش في حيوات الآخرين، لذلك سأقوم بعملية قرصنة صغيرة وبيضاء وأعرض دون تدخل جانباً مما التقطته ذاكرته الخصبة وهو يعود بها إلى تلك الأراضي السوفيتية الممتدة إلى ما لا نهاية والتي يدافع «أورورا»(2) وأفكار لينين هدت أسوار الماضي من حولها وفتحت أمام شعبها أبواب التاريخ». هو يطارد أحلامه في تلك الحقبة الجميلة، يتذكر فجأة أحد أصدقائه المنفيين عن وطنه كما حالته، الشاعر التركي ناظم حكمت فيكتب في مذكراته: كنت على الدوام أزور في موسكو أو في الريف شاعراً كبيراً آخر ألا وهو الشاعر التركي ناظم حكمت وهو كاتب خرافي أسطوري، كانت حكومة بلده الغريبة عن شعبه قد سجنته خلال /18/ سنة لقد أتهم ناظم بأنه كان يريد إثارة فتنة وتمرد في صفوف البحرية التركية فأدانوه بكل عقوبات جهنم. جرت المحاكمة على ظهر بارجة عسكرية. كانوا يحكون لي كيف أنهم جعلوه يمشي حتى درجة الإنهاك على جسر الباخرة ومن بعد أدخلوه إلى المرحاض حيث كان الغائط يعلو أكثر من نصف متر، فشعر أخي الشاعر بالإغماء وخارت قواه. كانت الرائحة الكريهة تجعله يتقزز ويرتعد. عند ذلك، فكر: لابد أن الجلادين يراقبونني من نقطة ما، فهم يريديون أن يروني أتداعى، يريدون أن يروني تعيساً بائساً، فانبعثت قواه في أنفة وعنجهية وبدأ يغني، أولاً بصوت منخفض، ومن بعد بصوت أعلى، في النهاية شرع يغني ملء حنجرته، غنى الأغاني كلها، الغزل الذي كان يتذكره، جميع قصائده التي نظمها، مواويل الفلاحين، أناشيد شعبه النضالية غنى كل ما كان يعرفه من أغاني. وهكذا انتصر على الرجس والنجاسة والعذاب، عندما قص علي ذلك، قلت له: «يا أخي، إنك بهذا قد أجبت عنا جميعاً. فلم نعد نحتار فيما نفعله، فها نحن جميعاً معشر الشعراء نعرف متى يجب علينا أن نبدأ بالغناء». كان يحكي لي كذلك عن آلام شعبه، عن الفلاحين الذين يضطهدهم في قساوة سادة تركيا الإقطاعيون. كان ناظم يراهم وهم يأتون إلى السجون جماعات جماعات، كان يراهم وهم يستبدلون التناك بقطعة الخبز التي كانوا يعطونهم إياها كحصة وحيدة وجراية يتيمة. أخذوا ينظرون إلى مرعى الباحة في السجن بذهول، من بعد بانتباه وتركيز، ثم بشراهة ونهم. ذات يوم التقطوا أقذاء الحشائش والأعشاب وقربوها من أفواههم ثم راحوا يقتلعونها حزماً حزماً ملء الأيدي. فيبتلعونها إلى أن انتهوا: أن يرعوا بأربعة أرجل كما الدواب. لقد عاش ناظم: الذي كان عدواً لدوداً للاعتقادية، سنين طويلة منفياً في الاتحاد السوفييتي. إن حبه لهذه الأرض التي حضنته لتمثل في هذه الجملة التي قالها: «أنا أؤمن بمستقبل الشعر، أؤمن لأنني أحيا في بلد يشكل الشعر فيه أكثر مقتضيات الروح لزوماً وضرورة». في هذه الكلمات تنوس أسرار كثيرة لا تدرك من على بعد، إن الإنسان السوفييتي والأبواب منفتحة أمامه على المكتبات كلها والقاعات جميعاً والمسارع قاطبة، لهو مركز اهتمامات الكاتب السوفييتي. ليس من مجال لنسيانه حين يحتدم النقاش حول مصير العمل الأدبي. فمن ناحية، يجب على الصيغ الجديدة، أي التجديد الضروري لكل ما يوجد، أن تتجاوز القوالب الأدبية الجاهزة وأن تعمل على تحطيمها.ومن ناحية أخرى كيف يمكن للأدب أن لا يرافق خطى ثورة عميقة مديدة؟ كيف يمكن له أن يبتعد عن المواضيع الأساسية، الانتصارات ، المنازعات، المشاكل الإنسانية، عن خصب وحركة وتناسل شعب كبير، يواجه تغييراً شاملاً للنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي كان سائداً في بلده؟ كيف يمكن له أن لا يتضامن مع هذا الشعب الذي يهاجمه غزاة شرسون ويحاصره مستعمرون لا يرحمون، يعكون صفو الأجواء الإنسانية كلها؟ أتستطيع الآداب والفنون أن تتخذ موقفاً مستقلاً استقلالاً هوائياً هشاً إزاء أحداث جوهرية ومجريات أساسية. إعداد: سليمان أحمد سليمان ــ الجزيرة هوامش: (1) شجيرة البولدو: وهي شجيرة ضخمة أوراقها دائمة الخضرة وأزهارها بيضاء (2) اورورا: وهي كلمة إسبانية تعني الصبح أو الفجر


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني