PCP

يا عمال العالم اتحدوا

في نشأة الجدل العربي حول العلمانية

في نشأة الجدل العربي حول العلمانية صدر بفرنسا سنة 1905 القانون المشهور حول اللائكية. ولئن كان العالم الحديث قد بدأ مسار العلمنة (secularisation) منذ القرن السادس عشر فإنّ اللائكية (laïcité) مثلت تصوّرا أكثر نضالية للعلمنة بسبب الظرف الفرنسي الذي تميّز بالتداخل التاريخي القويّ بين الملكيّة والكنيسة. وقد أسقطت الثورة الفرنسيّة الملكيّة لكنّ صراعها ضدّ الأكليروس استمرّ طويلا بعد ذلك ولم تتحقّق النقلة النوعيّة إلا بقانون 1905 الذي حرم رجال الدين نهائيا من احتكار السجلّ المدني والتعليم. وقد ردّت الكنيسة الفرنسيّة بعنف على هذا القانون الذي أقرّه البرلمان الفرنسي آنذاك فأدانته دينيّا وكذلك أصدر البابا بيوس العاشر قرارا بإدانته. ثم بعد عقود من ذلك راجعت الكاثوليكية موقفها واتخذت في مجمّع فاتيكان الثاني (1962- 1965) منحى توفيقيّا. أمّا الكنيسة الفرنسيّة فمن المفارقات أنها كانت سنة 2005 أوّل من بادر بإعلان الرفض لمقترح الرئيس الفرنسي الحالي (وزير الداخليّة آنذاك) نيكولا سركوزي بمراجعة القانون المذكور بمناسبة مرور قرن على صدوره واعتبرته مناسبا لها وهي التي عملت طويلا في السابق على إعاقة صدوره ثم تنفيذه. وهذا التطوّر من الرفض والإدانة إلى القبول والتبنّي يؤكّد أنّ الفكر الديني يميل عادة إلى المحافظة لكنّه قابل للتغيّر والتوافق بفعل الضغوط التي تسلّط عليه. لم يكن المتعلّمون العرب بمنأى عن هذا الحدث، فقد تابعوه منذ البداية وتحمسوا للمعركة الفرنسية التي احتدّت منذ سنة 1903 وبرزت هذه المتابعة في مناظرة كبرى حصلت نفس السنة بين الأديب فرح أنطون (1874- 1922) والشيخ محمد عبده (1849- 1905)، وكان الأوّل من أكبر المتحمّسين للتجربة الفرنسيّة فيما حاول الثاني الردّ على العلمانيّة بفكرة التسامح ("إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان") ومدنيّة السلطة في الإسلام ("الخليفة عند المسلمين… حاكم مدنيّ من جميع الوجوه"). هذا الموقف الذي صدر من رجل دين مسلم سنة 1903 تحت ضغط الأحداث كان يمكن أن يتطوّر أكثر كما تطوّر نظيره في الفكر الكاثوليكي لو تواصل تمثيل الخطاب الإصلاحي للحساسيّة الدينيّة في المجتمعات العربيّة. بيد أنّ أفول هذا الخطاب وقيام الأصوليّة الراديكاليّة بديلا عنه مثّلا تراجعا لا قرار له. وقضيّة العلمانية خسرت بدورها في المجتمعات العربيّة بسبب الأدلجة القومجيّة أو الستالينيّة التي جعلتها مرادفة لمقاومة الأديان والعقائد، وهذا خطأ بالغ لأنّ العلمانيّة في الأصل هي تحييد الفضاء العام عن سلطة العقائد المختلفة، الدينية وغير الدينيّة، ليتمكّن كلّ فرد من ممارسة حرّة لدينه أو عقيدته أو مذهبه أو فلسفته الوجوديّة في حدود فضائه الخاص وفي إطار الاحترام المتبادل بينه وبين المختلفين أو الذين لا يرغبون أصلا في أن تكون لهم انتماءات دينية أو عقديّة أو مذهبيّة. إنّي من المؤمنين بأنّ العصر الليبرالي العربي الذي بدأ في القرن التاسع عشر وانتهى في حدود الثلاثينيات من القرن العشرين وهو يرادف ما دعي بعصر النهضة العربيّة قد حمل بذور الكثير من الأفكار الجيّدة التي لو تطوّرت لبلغت مواقف أكثر مطابقة للمتطلبات الاجتماعية الجديدة وأشدّ مواكبة للحداثة وأعمق ثراء في التعامل مع التراث. وأرى جديرا بالمثقف المعاصر أن يراجع الإنتاج الفكري لهذا العصر (وقد أطلقت عليه في بعض كتاباتي "التراث القريب") لفتح مسالك للحاضر والمستقبل. ومن هذا المنطلق أرى المناظرة بين فرح أنطون ومحمد عبده جديرة بقراءة آنيّة في ضوء تجربة القرن الذي يفصلنا عنها. جاءت هذه المناظرة كأنّها تستعيد موضوع مناظرة سابقة سنة 1883 بين أرنست رينان والأفغاني (راجع النص الحقيقي والكامل في مقالاتنا المنشورة سابقا). كانت رسالة الأفغاني للرأي العام الأوروبي هي التالية: اعترفوا بالإسلام شريكا في بناء الحضارة الإنسانية كي يقتبس المسلمون الحضارة الحديثة دون شعور بالإهانة، مصير الدين الإسلامي الإصلاح كما أصلح لوثر المسيحية، ومصير النظام السياسي الإسلامي التحديث كما غيّرت الأنوار والثورة الفرنسية وجه أوروبا. عايش الأفغاني نموّ الفكرة القومية في أوروبا، فصاغ القضية الإسلامية على مقاس ما فهمه من العصر، إسلام يتحوّل إلى قومية دون حدود جغرافية واضحة فيكون أداة تحطيم الاستبداد السياسي والديني كما حطّم لوثر والثورة الفرنسية سلطة الأكليروس والحكم المستبد. على هذا الأساس أمكن الحديث عن رابطة شرقية تجمع السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين العرب والمتدينين وغير المتدينين. لكن مجادلة 1903 جاءت بمثابة إعلان وفاة لهذا التوجّه، خاصة أن العشرين سنة الفاصلة بين التاريخين قد اتجهت في مسار بيّن الاختلاف. قال سلامة موسى بحقّ عن الكتاب الذي تركه فرح أنطون أثرا لهذه المعركة الفكرية إنّه "أول كتاب ظهر في اللغة العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني". وكاد يختفي كتاب "ابن رشد وفلسفته" لأنطون من التداول العام، لولا مبادرة طيب تيزيني بإعادة طبعه سنة 1998، ثم طبع ثانية في الجزائر على خلفية الأزمة الطويلة التي عاشها هذا البلد. أما كتاب عبده في هذه المجادلة، "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" فقد تعدّدت طبعاته منذ صدوره أول مرة عن مطبعة "المنار"، ويؤكد هذا الانتشار احتفاء الثقافة السائدة بمحاولة محدودة القيمة من الناحية الفكرية، لكنها مهمّة من ناحية تعبيرها عن رغبات أيديولوجيّة واجتماعيّة. ثم لا يخفى أن المجادلة برمتها تستند إلى كتاب ثالث هو "ابن رشد والرشدية" لأرنست رينان الصادر بالفرنسية سنة 1852. هل من فائدة للعودة على مجادلة مرّ عليها قرن من الزمان؟ الواقع أن من يكلّف نفسه مراجعة هذه المجادلة يدرك أنها تطرح نفس القضايا المثارة اليوم. إن الثالوث رينان/ عبده/ أنطون يختصر وضع الخطاب الحديث حول الإسلام. فهذه الأسماء الثلاثة ترمز لشخصيات خطابية نمطية جديدة حلّت مكان ثلاث شخصيات نمطية قديمة: اللاهوتي المسيحي الذي يجادل الإسلام بمعارضته بأقوال الأناجيل، الفقيه المسلم الذي يكتب المختصرات ويصدر الفتاوى، والأديب الظريف الذي يحرّر الرسائل السلطانية ويسلّي بحكاية أخبار الظرف والظرفاء. رينان هو البديل عن الشخصية النمطية الأولى، وهو يمثّل القدرة الرهيبة للعلم الغربي الحديث على تطويع أكثر المواضيع استعصاء وتشعبا. هذا الفيلولوجي العملاق نجح في كتاب واحد أن يختصر أربعة قرون من منعرجات الفكر الرشدي في أوروبا. ومن قرأ الأثر شعر أنه ينتقل مع كاتبه من الأندلس إلى باريس إلى بادوفا والبندقية وبولونيا، لفرط ما كان رينان دقيقا في إعادة الإحياء الفيلولوجي لفترة تاريخية اندثرت ولم يبق لها من أثر إلا تحت غبار المخطوطات. كتاب رينان أثبت أنه لم يعد ممكنا التطرق إلى قضايا الحضارة الإسلامية خارج التفاعل مع الكتابات الغربية. لم يعد ممكنا الحديث عن الرشدية دون مراجعة دراسات رينان مثلا، ومن أغفل هذه القاعدة حكم على ما ينتجه من معرفة أن يكون دون المستوى المقبول كونيا. يمكن الرجوع إلى رينان للتأييد أو الدحض أو لمجرد الاستعلام، لكنه يفرض نفسه في كل الحالات جزءا من الوعي الإسلامي المعاصر بالإسلام. بيد أنّ رينان ليس آلة لقراءة المخطوطات بل مفكّر مرّ بتجربة إيمانية معقّدة، ناضل من أجل الجمهورية الثالثة، وعايش ذروة العهد الاستعماري، وانخرط في المسلمات اللاسامية لأبناء عصره (واللاسامية كانت تجمع العرب واليهود في ذلك العهد). ثم هو مسيحي ما فتئ يغالب مسيحيّته بالبحث في أصولها وموقعها ضمن الظاهرة الدينية العامة. وكما يقول شارنيه، لقد كتب "ابن رشد والرشدية" ليجعله اختبارا لصحة نظرته للتاريخ على أنه تقدم نحو الرقي وليوفر الطمأنينة لنفسه المرهقة بالشك. إن رينان ذلك جميعا، فمراجعته تعني التيه في كل منعرجات القرن التاسع عشر. أما عبده وأنطون فهما البديل عن النمطين الثقافيين السائدين قديما في المجتمعات العربية الإسلامية، رجل الدين وأديب السلطان. مناظرة 1903 ليست خصومة بين موقفين وحسب، بل هي تعارض بين أسلوبين. ولما كان "الأسلوب هو الكاتب"، كما تقول الأسلوبية، والكاتب ليس الخطاط بل الذات الاجتماعية التي تتمثل الموضوع من خلال وعيها ولاوعيها باللغة والأشياء المحيطة بها، فإن هذه المجادلة تطلب تحليلا تأويليا، باعتبارها منافسة بين نمطين خطابيين لاحتلال المواقع القديمة التي انسحبت منها الأصناف الثقافية التقليدية، مع ما يطلبه ذلك من إعادة تأويل "القديم" و"الغريب" كي يندمج في السردية الجديدة حول الهوية. توجّه أنطون بكتابه إلى "عقلاء الشرقيين"، "أولئك العقلاء في كل ملة وكل دين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر، فصاروا يطلبون وضع أديانهم جانبا في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادا حقيقيا ومجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد لمزاحمة أهله وإلا جرفهم جميعا وجعلهم مسخرين لغيرهم" (الإهداء). وقد حدّد أنطون هدفين لندائه، أولهما تحقيق الوحدة والثاني مجاراة التمدن الأوروبي لمنافسة أهله. وفي هذا المستوى لا يبرز تعارض مع الخطاب الإصلاحي. إلا أن الفارق الرئيسي هو تحديد طبيعة العلاقة بين الوحدة والدين. تتحقق الوحدة من منظور الخطاب الإصلاحي باشتراك المجموعات الدينية حول ديانة دنيا جامعة تقوم على مبادئ ثلاثة هي وجود الكائن الأسمى وخلود النفس والالتزام بالفضائل. هذا البرنامج الديني تشترك فيه كل الملل في ذلك العصر، حتى الماسونية، هذه كانت حقيقة مشروع جمال الدين المدعوّ بالأفغاني. أما أنطون فيطرح القضية عكسيا، يدعو إلى تحويل الدين إلى مسألة شخصية ليصبح ممكنا التوحّد سياسيّا والتعايش اجتماعيّا خارج المنازعات الإيمانية والمذهبية. المكان المقدّس الذي يشير إليه في الإهداء هو دور العبادة. وإخراج الدين من الفضاء العام والتخلي عن اعتماده أداة للنضال السياسي هو السبيل في نظره لتحقيق الوحدة واحترام الأديان في آن واحد. أمّا في نظر معارضيه فهذا مقدّمة لإلغاء الدين والنضال معا، فيصبح الاختلاف في هذا المستوى غير قابل للرتق. إنّ العودة إلى ابن رشد أو الانطلاق منه لحسم القضية مسلك لإعادة تأويل الماضي بمقتضى الصورة المنشودة للمستقبل. قرأ تيزيني الإهداء الذي بدأ به أنطون كتابه على أنه أثر تصاعد طبقة برجوازية حضرية تطمح إلى فرض عالم جديد وإزاحة العالم الإقطاعي المتواطئ مع الأعداء الموظف للدين ضد الجماهير، وذلك بمخاطبتهم بطريق العقل. ومع الأسف فإن المسألة لم تكن بالصورة المبسطة التي عرضها تيزيني، ذلك أن مدار القضية تنافس بين خطابين لاستقطاب ذات الشريحة الاجتماعية. من منظور التحليل السوسيولوجي، يمثل خطاب عبده محاولة للإبقاء على الامتيازات التي يتمتع بها المثقف التقليدي مع إرباك المؤسسات الثقافية التقليدية بتصويرها في هيئة العاجز عن الاضطلاع بمهمة الدفاع عن الدين. ويمثل خطاب أنطون بالمقابل دفاعا عن مستقبل الشريحة الجديدة من المتعلمين العصريين وحقها في الاضطلاع بأدوار أكبر في إدارة الفضاء العام. إلا أن المفارقة تتمثل في أن هذه الشريحة الجديدة تشعر بالارتياح إلى عبده أكثر من شعورها بالارتياح إلى أنطون. ذلك أن رجل الدين المستنير يوفّر لها الغطاء الديني لمشاريعها في التحديث الإداري، وربما أيضا لنمط عيشها الموفق بين القديم والجديد. بينما يعقّـد أنطون قضية التحديث بأن يحوّلها من الإدارة إلى الفلسفة ويلبسها رداء مأساويا ويكشف صراحة عن تهديدها مصالح التقليديين ورؤاهم. يسقط كل من عبده وأنطون ضحية التعارض بين موقفه الفكري ووضعه الاجتماعي، فغياب قوى اجتماعية جديدة قادرة على حمل أحد المشروعين يفسح المجال للدولة ذات الطبيعة الخراجية الانتهازية مجال توظيف الخطابين معا والتلويح بالإصلاح تارة وبالتحديث أخرى وبكليهما معا في غالب الأحيان، لا غاية لها غير السيطرة مع الظهور بمظهر التجديد، دون أن يتبع ذلك تحقيق إصلاح ولا تحديث. على هذا الأساس تكون المجادلة بين عبده وأنطون تنافسا لاستقطاب هذه الشريحة الجديدة، "الطبقة الوسطى"، التي نما دورها في الإدارة والفكر لكنها ظلت خارج البنيات الأساسية للسلطة، سلطة الدين وسلطة الدولة. لذلك يظل أثر المجادلات الفكرية في التغيير الاجتماعي محدودا. انطلقت هذه المجادلة من ابن رشد لتصل إلى العلمانية، مع أن العلاقة بين الموضوعين لا تبدو متأكدة في أوّل وهلة. لكن ليس من العسير استكشاف المنطق الداخلي لهذا الانتقال. كانت نقطة البداية تحديد موقع ابن رشد في تاريخ الفلسفة. لكن قراءة هذا التاريخ لم تكن تخضع لمعايير مشتركة في العرض والتقسيم. لم يكن عبده قادرا أن يقرأ ابن رشد خارج الإطار العام الذي تموقعت فيه الفلسفة قديما، إطار سينوي (نسبة إلى ابن سينا) لم تهز الفلسفة الرشدية أركانه لأنها متأخرة ولأن نصوصها قد طواها النسيان. أما أنطون فلم يقم بأكثر من تلخيص كتاب رينان عن الرشدية، متغافلا عن الأطروحة الرئيسية لهذا الكتاب وهي إبراز الفارق الذي تعمق تاريخيا بين ابن رشد العربي والرشدية اللاتينية. كيف غابت عن أنطون هذه القضية الرئيسية؟ وهل كان الغياب عفويا أم متعمدا؟ الواقع أن رينان قد عمل على تعميق الفصل بين ابن رشد والرشدية ليثبت أن الأفكار العظيمة قد تنشأ خارج أوروبا لكن أوروبا هي وحدها التي تمنحها الحياة، أوروبا وحدها تهب الخلود للأفكار المبدعة وتحتضن العظماء المضطهدين بين أقوامهم (ومن ذلك المسيحية أيضا ونبيّها الذي صلبه الشرقيون). مصير ابن رشد لدى المسلمين هو ما أوشك أن يكون عليه مصير العلمانية في أوروبا لو نجحت الكنيسة فيما نجح فيه فقهاء الإسلام، أي منع تطور العلوم والتفكير الفلسفي الحر. التاريخ الفلسفي الذي يهتم به رينان هو التاريخ الذي كان من حسن حظ أوروبا أنها تفادته. يجدر التذكير مع ذلك أن الأطروحة الرئيسية لرينان صحيحة رغم أنها عدّلت بعده في الكثير من التفاصيل، فالرشدية اللاتينية غير ابن رشد العربي وأثر فيلسوف الأندلس في الفلسفة المسيحية واليهودية كان أكبر من أثره في الفلسفة العربية. لكن كيف للمتقبل العربي، في شخص أنطون، أن يهتم بهذه القضية، وهو يبحث عن شرعية تراثية للعلمانية؟ كان عليه أن يتجاهلها كي يستقيم استدلاله، فيطلّ ابن رشد إطلالة الابن البار الذي يعود إلى أهله بعد طول غياب. إن هذه المجادلة بين عبده وأنطون، مجادلة الخطاب الماكر، لم يكن رهانها الموقف وحسب بل كانت معركة في التأويل وحوله. أوّل محاور التأويل تاريخ الفلسفة. يحشر عبده ابن رشد في تاريخ مفترض كان قد خطّط له الشهرستاني الذي لم يعرف ابن رشد. وينتقي أنطون صورة ابن رشد من تاريخ وضعه رينان للفكر الأوروبي دون الإسلامي. وثاني محاور التأويل هو المجتمع. العلاقة بين الدين والفلسفة مدخل فلسفي لقضية العلاقة بين السياسة والدين. التاريخ مخزون للانتقاء: الأصل لدى أنطون وضع الأندلس في عصر يعقوب المنصور، حين امتحن ابن رشد وأهين. والاستثناء هو عهد أبي يعقوب يوسف الذي قرّب ابن رشد والفلاسفة. إذا كان الشاذ يحفظ ولا يقاس عليه فإن العلمانية تكون الحل الوحيد الممكن لحماية العلم والمعرفة من استبداد الحكام باسم الدين. أما عبده فيقلب الصورة فتكون القاعدة عهد يوسف والاستثناء عهد المنصور، فتنفصل قضية الاستبداد عنده عن قضية الدين. هكذا تشكلت سرديتان متعارضتان حول الهوية والنهضة. إن من مفارقات هذا الانتقاء أنه يشمل مراجع البحث أيضا. لم يعب عبده على خصمه أنه يستند إلى الاستشراق، فقد استمد هو أيضا أهم عناصر استدلاله من مصدر أجنبي هو "التنازع بين العلم والدين" للأمريكي درابر. لكن نية الدفاع عن التراث اقتضت عند عبده إسكات التراث، فقد كان حضور النصوص العربية متواضعا في كلام المفتي مقارنة بالاستشهاد بالكتاب الغربيّين. كان عبده يعاند التراث باسم التراث، لذاك سكت على المعروف المشهور من نصوصه، عن منشور المنصور مثلا الذي يدين ابن رشد بحجة تعاطي الفلسفة، عن موقف الفقهاء في الأندلس الذين كفروا الفلاسفة ومنعوا الاشتغال بالفلسفة، عن حرق الكتب وخاصة في الأندلس، الخ. بل سكت عبده على رواية ابن رشد نفسه لتقديم ابن طفيل إياه لدى الأمير يوسف، إذ فزع من سؤال الأمير عن قضية فلسفية وسارع يرفع الاتهام عن نفسه وينفي أن يكون من المشتغلين بالفلسفة. كما سكت على شهادات أندلسية عديدة تؤكد أن الفلسفة والتنجيم كانا يتعرضان لتضييق خانق في الأندلس وأن الأمراء أنفسهم إذا هووا الاشتغال بشيء من ذلك مارسوه تقية كي لا يفتضح أمرهم عند العامة. إنّ رفض عبده التفكير في العلاقة بين الاستبداد وتوظيف الدين لشرعنته هو رفض يعاند معطيات التراث الذي كان يسعى للدفاع عنه وقد جعله هذا الدفاع يسكت صوته. كان عبده يواصل آليات التأويل القديم التي تمكّن من صياغة تمثّلات الحاضر والمستقبل وشرعنة هذه الصياغات بالتصرف الحر في التراث، ولو بالحذف. وكان ذلك ممكنا في القديم عندما كانت نصوص التراث من احتكار شريحة محدودة تتصرف فيها كما تشاء. لكن آليات التأويل القديم تعطلت يوم اتسع مجال عمل الفيلولوجيا إلى التراث الإسلامي، فأصبح متاحا للجميع الاستدلال من التراث نفسه والرجوع مثلا إلى هذه الفقرة في وصف الأندلس من شاهد على العصر: "كل العلوم كان لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يتظاهرون بها خوف العامة. فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو أحرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله السلطان تقربا للعامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق هذه الكتب إن وجدت". إنّ رهان المجادلة كان يدفع إلى تبرير الوسيلة بالغاية. فوجهة نظر أنطون هي بدورها إسكات لصوت عبده، أي تحويل للقضية عن مدار اختصاصاته ومؤهلاته. يقول أنطون إن كتب ابن رشد الفلسفية غير متوفرة بالعربية ولم تنشر سالمة صحيحة إلا باللاتينية، فلا يكون مختصا في ابن رشد إلا من أتقن هذه اللغة أو أخذ عمن يتقنها، ويعيّن تحديدا "الفيلسوف رينان المشهور الذي يعرف الأستاذ (= عبده) إنصافه ونزاهته وبراءته من وصمة التعصب فضلا عن معرفته اللغة اليونانية لغة أرسطو واللغة اللاتينية التي ترجمت إليها كتب ابن رشد ثاني مرة" (ابن رشد وفلسفته، ص 205). إدعاءان غريبان، أولهما اتخاذ كتاب رينان حجة على فكر ابن رشد، مع أنه أطروحة في الرشدية اللاتينية، أي الصيغة التي تقبّلت بها أوروبا اللاتينية ابن رشد. ثانيهما وصف رينان بالإنصاف وهو صاحب النظرية المشهورة للعجز الهيكلي للأعراق السامية عن إنتاج الفلسفة والعلوم. ربما لم يكن عبده قادرا على التفطن إلى المسألة الأولى لأنه لم يكن مطلعا على كتاب رينان، أما الثانية فهي في متناوله وقد خطرت بذهنه لا شك. لو كان عبده شيخا من عهد ما قبل الإصلاح أو زعيما من زعماء العصر الأصولي لاكتفى في الرد بالطعن في رينان والاستشراق. لكنه مضى في سبيل أخرى، فاقتبس من رينان نفسه ما ينتزع به رينان عن فرح أنطون. اقتبس من رينان قوله إنه تعرّف على رجال مسلمين ميّالين إلى التسامح يحاربون تعصب الفقهاء فيأمل أن يعمل هؤلاء على تحويل الإسلام إلى دين متسامح. كما اقتبس منه اعترافه أن غاية التمدن ليست القضاء على الأديان لكن على الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة لازب، وهو الانطباع الذي سجله رينان عن لقائه الأفغاني في باريس بعد مجادلة 1883. كما أن تراجع رينان عن معارضته القوية بين المدنية والدين هو معطى حقيقي. فكتاب "ابن رشد والرشدية" صدر بعد أربع سنوات فقط من تحرير "مستقبل العلم" الذي لم ينشر إلا بعد نصف قرن من كتابتهوصدر مسبوقا بمقدمة نقدية بقلم المؤلف نفسه يراجع فيها أفكاره الأولى ويتأسف لإفراطه السابق في الإيمان بالعلم وقابليته أن يحلّ كل المشاكل البشرية. والأهم أنه يعترف بأنّ تعصبه للعلم كان تحويلا لشعوره الديني السابق، إذ بدأ رينان شبابه كاثوليكيا متشددا قبل أن يتغلب عليه الشك والتمرد، فصوّر العلم ديانة جديدة تحلّ محلّ إيمانه المفقود. يقول رينان في مراجعة أفكار شبابه إنه لم يخطئ في اعتقاده أن العلم محور المعرفة الحديثة لكنه أخطأ عندما تصوّر العلم ديانة عامة واحدة على البشر جميعا الخضوع لها. فتوحيد البشر جميعا حول عقيدة واحدة هو مشروع للتعصب، أيا كانت هذه العقيدة. لقد جاء أنطون يعكّر على عبده صفو اطمئنانه، بل نخوة ما كان يعدّه انتصارا. اعتبر عبده أن رينان قد تراجع عن موقفه المعلن في المحاضرة التي ألقاها سنة 1883، فهل يريد أنطون العودة إلى نقطة البداية وكأن الحركة الإصلاحية لم تغيّر شيئا من 1883 إلى 1903؟ لئن عجز عبده عن طرح قضية العلمانية خارج الإطار التقليدي للمنازعة الدينية بين الإسلام والنصرانية فإنه لم يقتنع بأن الدافع الديني كان غائبا تماما عن أنطون الذي سبقه بالسؤال أيّ الدينين أكثر تسامحا وأقل تعصبا المسيحية أم الإسلام؟ أورد أنطون السؤال على سبيل الاستطراد بينما جعله عبده محور الرد متوقفا عند غياب التوازن في عرض القضية. ولعل لبّ القضية شعور عبده أن أنطون لم يجعل العلمانية ابتكارا من ابتكارات الحداثة بل جعلها قيمة مسيحية عاد إليها العالم الحديث، فقد كتب أنطون: "إن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية بحكم الشرع، لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معا. وبناء على ذلك فإن التسامح يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية فإن الديانة المسيحية قد فصلت بين السلطتين فصلا بديعا مهّد للعالم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن الحقيقي، وذلك بكلمة واحدة وهي أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (ابن رشد وفلسفته، ص 226). لقد قام الخطاب الإصلاحي على ثلاث مصادرات. أوّلا، الاعتراف بتخلف المجتمعات الإسلامية مع تفسير ذلك التخلف بأنه انحطاط عن عهد ذهبي. فجاء رينان سنة 1883 يقول إنه لا يوجد أصلا عصر ذهبي لأن ما يدعى بالحضارة العربية هي مجرد نقل عن حضارات أخرى. ثانيا، الاعتراف بضرورة الاقتباس من الحضارة الجديدة (الأوروبية) مع تنزيل ذلك الاقتباس ضمن آليات التأويل الإدماجي. فجاء أنطون سنة 1903 يلخص أطروحة رينان ويتحدث من موقع الفيلولوجيا التي هي نقيض التأويل الإدماجي القائم على مبدأ النص المفتوح والتأويل اللامتناهي. ثالثا، الاعتراف بتفوّق النظام السياسي الغربي مع تقديم ذلك النظام الليبرالي على أنه ذروة مسار البشر في مسالك المدنية ومرحلة عليا جاءت تراكما لمساهمات العديد من المجموعات العرقية والثقافية، ومنها العرق العربي والثقافة الإسلامية. فقبول الإسلام نظام الحرية الحديث يحصل من موقع مساهمته التاريخية المفترضة في عملية تشييده والتهيئة له، إن لم يكن، في دعوى الأفغاني وعبده، هو السابق باقتراحه. فجاء أنطون سنة 1903 يقول إن تفوّق النظام السياسي الغربي مصدره العلمانية التي تصدر بدورها عن آية في الإنجيل، ما يعني في ذهن المتقبل المسلم أنه يجعل المسيحية مصدر العلمانية، وهذا ما عمل المصلحون على تفاديه كي لا يختلط اقتباس المدنية بالتشبه بالأديان الأخرى. تفصلنا الآن عن المشروع الإصلاحي فترة طويلة، ما يجعل اعترافاته في حكم البداهة. لكن الخطاب الإصلاحي قد تشكّل في واقع المنافسة للخطاب التقليدي العنيد في الدفاع عن تفوق النظام الإسلامي كما هو لا كما يرجى منه أن يكون. وأعقب الموقف الإصلاحي الموقف الأصولي الذي استعاد أطروحة التفوق من موقع مواجهة الجاهلية بالإسلام. الموقف الإصلاحي، رغم محدوديته، يمثل ثورة في مجال الوعي الديني لأنه لا يدافع عن الكائن وإنما عن شيء يراد له أن يكون. لكنه يحاول بأنفة أن لا يحوّل تلك الاعترافات إلى عامل تثبيط أو استنقاص للذات. من هنا نفهم شحنات العنف المتبادلة بين خطابين يقصدان غايات متقاربة. فجوهر القضية أن الطرفين يحاولان انتزاع القيادة الرمزية للمجتمع لأنهما مفصولان عن القيادة الفعلية، السياسية والدينية، والسلطة الرمزية قد تكون مقدمة للسلطة الفعلية. لقد هرمت المؤسسات الثقافية التقليدية فبدا المجال مفتوحا للمشاريع الجديدة في التوجيه وللادعاءات الحصرية في تمثيل الثقافة. ُ يترتب على أطروحة أنطون أن لا حاجة لفكر ديني، لا تقليدي ولا إصلاحي، فعلى الدين أن يكون إيمانا شخصيا وكفى، وينبغي أن لا تخرج ممارسته عن دور العبادة. ويترتب على أطروحة عبده أن لا حاجة للخروج عن الآليات العريقة للتأويل الإدماجي. كأن عبده يطلب من أنطون حينئذ، بصفته النصرانية أو العلمانية أو كليهما، أن يكتفي بدور يوحنا بن ماسويه وحنين بن إسحاق، أن يكون ناقلا مترجما لا أكثر. الرابطة الشرقية المبنية على طموح الوحدة العددية لا تستقيم في رأيه إلا بزعامة الإسلام والطائفة الغالبة. صورة رجل الدين القابع في دور العبادة هي الصورة الحديثة للتدين في ذهن أنطون، أما في ذهن عبده فهي صورة الفقيه الشارح الذي لم يكن قادرا على أن يخرج من الأزهر ويخاطب العالم، وقد نشأ المناضل الإصلاحي بديلا عنه. والنصراني المترجم الذي يعيش في ذمة الإسلام وحمايته هي صورة التسامح في ذهن عبده، أما لدى أنطون فهي صورة الكاتب المضطهد الذي لا يسمح له بتوجيه المدينة، صورة قد نسختها المواطنة والمساواة في النظام العلماني الحديث. إنها حرب مواقع، على أساسها يتأول الماضي والمستقبل وتتشكل سرديّات الهوية والنهضة. لقد اختصر عبده القضية يوم كتب في "رسالة التوحيد" متحدثا عن الفلاسفة: "أما مذاهب الفلسفة فكانت تستمد آراءها من الفكر المحض، ولم يكن من همّ أهل النظر من الفلاسفة إلا تحصيل العلم والوفاء بما يندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول أو استكناه معقول. وكان يمكنهم أن يبلغوا من مطالبهم ما شاءوا. وكان الجمهور من أهل الدين يكنفهم بحمايته ويدع لهم من إطلاق الإرادة ما يتمتعون به من تحصيل لذة عقولهم، وإفادة الصناعة، وتقوية أركان النظام البشرية بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة في ضمائر الكون مما أباح الله لنا أن نتناوله بعقولنا وأفكارنا…". ثم يؤاخذهم عبده بأنهم "زجوا بأنفسهم في المنازعات التي كانت قائمة بين أهل النظر في الدين، واصطدموا بعلومهم في قلة عددهم… فسقطت منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامي من سعيهم". هذه الفقرة القصيرة مدخل مهمّ لفهم محدودية الموقف الإصلاحي وعدم كفاية مقولة التسامح المحبذة لديه. الفيلسوف لدى عبده تنطبق عليه أحكام الذميين وإن كان مسلما، أي أنه يعيش تحت حماية الجمهور وتسامحه شرط أن لا يضطلع بأدوار رئيسية في المجتمع. كن فيلسوفا واصمت، هذه قاعدة التسامح الإسلامي مع الفلسفة بمقتضى هذا التصور. فإذا كان موقع المثقف الحديث يقاس على موقع الفيلسوف القديم، فإن المطلوب أن يضطلع هذا المثقف بأدوار تقنية لا توجيهية، أن ينقل ويترجم مثلا لا أن يؤوّل ويحكم. كان أنطون على حق في دفاعه عن ابن رشد، فبمقتضى هذا التصور ربما اعتبر ابن رشد جديرا بما ناله من محن! إن العلمانية هي أيضا دفاع عن حق الجميع في المساهمة في المجتمع وإلغاء نظام الذمة في حق الأقلية، سواء كانت أقلية طائفة أم أقلية المثقفين. لقد فتح أنطون مجالا رحبا للعقل العربي الإسلامي عندما انتزع ابن رشد من مجال القول الديني وأعاده إلى مجال القول الفلسفي، فاصلا بذلك بين الفلسفة من جهة واللاهوت والعقائد من جهة أخرى. ولم يكن معاديا للأديان فهي عنده "سلّم مدنيّة الشعوب" (ابن رشد وفلسفته، ص 174) وهذا ما كان قاله الأفغاني أيضا في الرد على رينان. وفيما كان عبده يتمسك بالرؤية التقليدية التي تجعل العقل والقلب والنقل مصادر ثلاثة للمعرفة، حاول أنطون أن يعيد ترتيب هذه المصادر بأن جعل القلب للدين والعقل للعلم. إنه ترتيب مواز للفصل بين دور العبادة والمجتمع. ونرى من خلال تجربة القرن التي تفصلنا عن هذه المجادلة كم كانت تصورات أنطون مثالية في استشراف المستقبل، لأن هذا التقسيم بين العقل والقلب وبين المجتمع والدين ليس باليسر الذي كان يتوقعه، والقضية برمتها لم تعد قابلة أن تحسم بالقياس على دور الفيلسوف قديما. كانت قضية الفلسفة (الحكمة) والدين (الشريعة) مدخلا لقضية الدين والدولة والمجتمع. هل كان ابن رشد يدعو إلى الفصل بين الدين والفلسفة؟ هل اضطلعت الجامعات الإسلامية بنفس الدور التوجيهي الذي اضطلعت به الجامعات المسيحية في العهد الغريغوري؟ من يمثل الاكليروس في الإسلام؟ هل كان تضخم دور المراقبة الاجتماعية التي مارسها علماء الدين نتيجة الارتباط الوثيق بين الدين والدولة في التجربة الإسلامية أم كان، على العكس، نتيجة ضعف الدولة وغيابها عن فضاءات اجتماعية واسعة؟ هل يوجد نموذج إسلامي واحد أم أن المناهج قد تعدّدت حسب الأزمنة والأمكنة؟ هل يعتبر ابن رشد حدا لتجربة إسلامية منفردة أم كان أفقا في عصره وحدّا بعده، كما يقول عبد الله العروي؟ هذه أسئلة تطلب دراسات معمقة وأولى أن لا نبحث عن إجاباتها في مناظرة دارت منذ قرن. لكنّ ابن رشد ظلّ طيلة القرن العشرين المدخل إلى القضية العلمانية في الفكر العربي، من المجادلة بين عبده وأنطون إلى الشكل الجديد لهذه المجادلة بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي كان فرح أنطون قد حدّد المكاسب التي تجنيها "الأمة" من الفصل بين السلطتين في ما يلي: الحرية الفكرية، المساواة بين المواطنين، تطوير أحوال المجتمع بما يلائم العصر، تحصيل أسباب القوة، تجاوز وهم الوحدة الدينية. ويمكن أن تختصر هذه المكاسب الخمسة في جملة واحدة: فتح المجال للجميع للمشاركة في الشأن العام. لكن ما هو العائق التاريخي أمام هذه المشاركة؟ ما هو العائق لتحقيق المساواة والتطور والوحدة؟ الجواب من وجهة نظر أنطون أن الدين أداة الاستبداد إذا قامت الدولة باسمه، والجواب عند عبده أن الدولة هي التي تصنع الاستبداد إذا تخلصت من المراقبة الأخلاقية للدين. لعلنا نتساءل، هل نحن أمام موقفين متناقضين تماما؟ لننظر أوّلا في مستوى الشكل الاستدلالي. يربط أنطون بين الفكرة العلمانية والآية "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". فيجيبه عبده إنه إذا كان الإنجيل قد فصل بين السلطتين بكلمة واحدة فالقرآن قد أطلق القيد من كل رأي بكلمتين لا كلمة واحدة: "لا إكراه في الدين" و"قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". يعلم أنطون أن الآية المذكورة في الإنجيل لم تحل دون سيطرة الكنيسة على العقول ألف سنة وأن الأطروحة العلمانية نشأت في أوروبا في صراع ضد الدين وضد الكنيسة. ويعلم عبده أن الآيتين المنتقاتين من القرآن يمكن لمن شاء معارضتهما بآيات أخرى. لكن أليس كلاهما يحاول أن يجد توافقا بين تراثه الثقافي ومستقبل "الأمة"؟ ألا يبدو عبده مستجيبا لدعوة رينان الأديان أن تلين وتسالم كي لا تحكم على نفسها بالانقراض؟ ألا يستجيب أنطون بدوره إلى نداء فكتور هيغو أن يحرّر الدين من رجاله؟ ألا يحاول كل منهما أن يخفف الطابع الدرامي لاصطدام الفكر الديني بمواقف الحداثة في تراثه الثقافي، فكلاهما من هذه الزاوية يتبنى موقفا شجاعا بالنظر إلى السائد؟ عبده كان يواجه مجتمع الفقهاء الذي لم يتخلّ قيد أنملة عن التشريعات القديمة المنافية لحريّة العقيدة والمتمسّكة بديانة الجهاد، وأنطون كان يرفض الطائفية التي تنغلق على الانتماء والهوية بتغليب العامل الديني. أما على مستوى المضمون، فقد قال أنطون إن أساس المدنية الحديثة فصل السلطتين الروحية والزمنية، وقال عبده "ليس في الإسلام من سلطة دينية" (ص 57) ووجوب السلطان في الإسلام يعني وجوب تعيين حاكم وليس إقامة نظام سياسي بعينه، فالخليفة "حاكم مدني من جميع الوجوه"، ومثله القاضي. لكن عبده لا يحلّ أصل المشكلة: كيف يكون من شرط الخلافة الاجتهاد ولا يكون حكم الخليفة مصطبغا بالصبغة الدينية؟ وإذا كان الحاكم مدنيا ومنفذا للشرع في آن واحد أفلا يكون نظير ما تصورته الكنسية في العصر الوسيط عندما جعلت الحكم المدني آلة تنفيذ التعاليم الدينيّة؟ لقد خطا عبده خطوة باتجاه رفع القداسة عن السلطة السياسية في الإسلام، لكنّه توقف عند هذا الحدّ لأنه يخوض جدلا ولا يمارس تفكيرا، أو أنه باصطلاح القدامى يتحدث بالبيان دون البرهان. من هذا المنطلق يصحّ اعتبار "الإسلام وأصول الحكم" (1925) لعلي عبد الرازق تواصلا دون قصد وعن طريق الاستتباع لهذا الموقف، وعلامة تحوّل الفكر السياسي الإسلامي من أحكام الفقه التفصيلية إلى أحكام الأخلاق العامة. لكن ذلك لا ينفي أن عبده قد فاته إدراك الفارق الجوهري بين الوضعين القديم والحديث للدولة، فنجده يتساءل بسذاجة: ماذا يفيد الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية إذا كان دين الملك يقضي عليه بأحكام معينة؟ لم يدرك أن السلطة الحديثة تقوم على التمييز بين شخص الحاكم والدولة ومؤسساتها، فتغدو المعتقدات الشخصية للحاكم قليلة الأثر في إدارة الشأن العام. مع ذلك لا يعبّر موقفه عن نفي مبدأ الفصل بكل معانيه بل هو نظر إلى القضية من زاوية تاريخية بدل النظر إليها من زاوية مستقبلية. الفصل في رأيه قد يمنع الدين من التسلط لكنه سيسهل تسلط الساسة إذا خرجوا عن قيود الدين، وهذا في نظره جوهر الاستبداد. ذلك أن الاستبداد في التاريخ الإسلامي لم يكن في حاجة في الغالب إلى الدين كي يفصح عن وجهه الكريه، بل كثيرا ما كان الدين إما حدّا له أو ضحيّة من ضحاياه (لنتذكر مثلا أن ثلاثة من الأئمة الأربعة للمذاهب التي تتقاسم العالم السني قد نالهم اضطهاد الساسة، فضلا عن أئمة الشيعة). هذه وجهة نظر لا بد من الإقرار أنها تحمل الكثير من الصواب. فليست فكرة حصر التسلط في الدين إلا تعميما لا يصحّ في تاريخ أي دين، فكل الأديان استعملت أيضا أداة لرفع التسلط أو هي قابلة لذلك، في العصر الوسيط وفي العصر الحديث. كما أن التسلط قد مورس أيضا باسم المذاهب العلمانية حديثا. إلا أن الحداثة السياسية تقوم على المراهنة على الإنسان نفسه لا على الآلهة كي يحلّ المشكلة بواقعية، فما يمنع الحاكم الحديث من التسلط هي عوامل موضوعيّة مثل تحديد مدة حكمه وخضوعه لانتخابات دوريّة وتقييده بمؤسسات مستقلة تراقب قراراته، الخ. إن عبده الذي ينظر إلى القضية من التاريخ لا يمكن أن يشعر بالجدة التي تتضمنها فكرة كانت تنظر باتجاه المستقبل. كان أنطون ينظر إلى التاريخ الإسلامي من خلال ابن رشد، وكان عبده ينظر إليه من خلال ابن حنبل. وكان أنطون ينظر إلى الغرب من خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا من جهة كونها جمهورية العلمانيين، وكان عبده ينظر من نفس الناحية لكنه يراها جمهورية الاستعماريين. طريقة عبده في طرح المشكلة لا تخلو من منطق، ولو أنه عاش إلى العصر الأيديولوجي لذكر تسلط الجمهوريات الشيوعية والثورية حديثا أمثلة لتسلط دون دين. إلا أن ما فاته هو التصوّر الحديث للدولة، من جهة أنها توازن سلطات لمنع التسلط. وربما لم يقدّم أنطون بدوره نموذجا واضحا للدولة الحديثة. فهي في نظره مؤسسة متعالية اجتماعيا وأيديولوجيا ذات دور سالب يقتصر على احترام الحريات الفردية. هذا التعريف الليبرالي المتشدد ultra-liberal يعبّر عن مأزق الدولة الحديثة بصفتها ملتقى مصالح تحاول التخفي وراء الإجراءات الشكلية للحكم. يبدو أن أنطون لم يقرأ ماركس حتى تلك الفترة ليعيش هذا التساؤل. إن الدولة الحديثة هي التي تنجح في توفير إطار سلمي لعملية اقتسام المصالح بين القوى الاجتماعية، فتتجنب الاستبداد والفوضى، وهما الشكلان الأعظم للعنف. لا مانع حينئذ أن يكون الدين عاملا إيجابيا في المجتمع إذا كان من جملة وظائفه، كما اقترح عبده، أن يكون سلطة أخلاقية مراقبة للدولة تساهم في منعها من التسلط. لكن السلطة المراقبة غير مشروع الدولة المضادة، ولا يتحقق ذلك المقترح إلا إذا تخلّى الدين عن أن يكون مشروع دولة، وإلا أصبح بدوره ذريعة للتسلط وآلة للاستبداد أو تحوّل طلبه الكمال إلى ذريعة لإحلال الفوضى. ثم إن احتكار طائفة معينة الحديث باسم الله والحقيقة هو أعلى أشكال العنف المسلط على العقول والمانع حق التفكير الفردي والتعبير الحر والمواطنة البناءة. ربما يكون عسيرا على الفكر الإصلاحي أن يقبل العلمانية بعد أن اختلطت عنده بالسياسة اللادينية، لكنه مهيأ أن يقبل مبدأ الحضور الأدنى للدين، أي أن يدافع عن قيم أخلاقية عامّة دون الأحكام الفقهية التفصيلية، أن ينشد دولة الأخلاق لا نظام رجال الدين، أن يساهم في رسم المشتركات والمبادئ الجامعة لا أن يكون طرفا في الإدارة التقنية للمجتمع والمنافسات المباشرة للقوى الاجتماعية من أجل تحصيل المصالح. فالحضور الاجتماعي الأدنى يفرض شكلا من الفصل بين الدين والسياسة، ليس بمعنى اللادينية، بل بمعنى التمييز بين وظيفتين مختلفتين. إن الفصل قد يعني التمييز أو القطع، وهو بالمعنى الأوّل أكثر ملاءمة للوضع العربي الإسلامي. تعلن الخطابات الدينية عن رغبتها في تحقيق الفضيلة، لكن المطالبة بقدر مثالي من الفضيلة يمنع الاستقرار الاجتماعي لأنه يحمّل الناس ما لا يطيقون. وتعلن الدولة المدنية رغبتها في رعاية الاستقرار، لكن تحقيقه بأي ثمن يفتح مجال الاستبداد. ثم إن الفضيلة والاستقرار يفهم كلاهما من وجهات نظر مختلفة. هذه المفارقة ليست مفارقة الإسلام وحده. لكن التجارب الإسلامية، من الفتنة الكبرى إلى دول ما بعد الاستعمار، تشهد بعسر القضية وغياب حلول الكمال. لذلك قيل عن الديمقراطية إنها الحل الأقل سوءا، فهي المخرج الحديث من مفارقة لم يشهد لها العصر الوسيط حلاّ، لا شرقا ولا غربا. والديمقراطية ليست حكم الفضيلة، فاختلاف تصورات الفضيلة بتعدّد المجموعات البشرية يمنح إمكانيتين، إما أن يفرض طرف واحد قيمه على الجميع وهذا تسلّط، أو أن يحصل توافق لا تتحقق بمقتضاه فضيلة كاملة مقابل أن لا يخضع طرف للتسلط. كما أن الديمقراطية ليست حكم الأغلبية، فهذا التعريف أقرب إلى الفاشية. بل الديمقراطية مجموع آليات إجرائية تضمن أن يحصل التنافس بوسائل سلمية، ما يعني أنها تقوم على الوفاق دون الكمال الذي تختلف مواصفاته بين البشر. لقد اتفق عبده وأنطون على وصف المشكلة دون طريقة الحل. فالجامع الأعمق بينهما هو النظرة الحذرة من الدولة، من حيث هي مارد يهدد الأفراد في حرياتهم ومصائرهم، لذلك قال عبده "أعوذ بالله من السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس"، وقال أنطون "الدول في جميع أقطار الأرض وخصوصا الكبرى منها إنما هي اليوم بمثابة أغوال هائلة". ثقل الماضي والحاضر يدفع إلى البدائل المثالية التي تقوم على فضيلة الكمال. ينشد عبده دولة الأخلاق والمثل العليا وأنطون دولة الحرية والمثقفين. إن قرنا يفصل عن المجادلة قد يدفع إلى تعديل الطموح نحو قدر أكبر من التواضع. فالأخلاق والحرية يخضعان بدورهما للنسبية وحدودهما وفاق بين المجموعات البشرية المتعايشة. أما حديث المطلقات فيؤدي إلى المزايدة في المبادئ وترك الممارسة تهوى إلى حضيض، فيستمر غول الدولة باسم الدين أو ضده، وقد يتحوّل التدين إلى إرهاب أو إلى مشروع لدولة العنف البديل، كما يتحوّل خطاب الحداثة والأنوار إلى أيديولوجيا لتبرير العنف دون اكليروس. فمن الجدير الاحتفاظ بالوجه الإيجابي لهذه المناظرة، إذ عبّر عبده من خلالها عن لحظة انتقال من مشروع دولة الفقهاء إلى مشروع دولة الأخلاق الفطرية، وعبّر أنطون عن لحظة انتقال من أدب مرايا الملوك إلى مشروع دولة الأنوار القائمة على الحرية. حدس التحرر من السياسة الشرعية ومرايا الملوك خطوة ظلت راكدة منذ قرن وهي قابلة أن تتفاعل مجددا وتجارب العصر التي تطورت منذ ذلك الحين وأثبتت أن العنف قد يتسلط بكل الأسماء وتحت كل العناوين. خطّ أنطون عبارات رائعة في نقد الاستبداد الشرقي وإن لم تعد اليوم جامعة لأسبابه ومظاهره. ويمكن مراجعتها خاصة في الفصلين المعنونين "معنى التساهل الديني الذي هو أساس المدنية الحاضرة" "والفصل بين السلطتين المدنية والدينية هو السبب الحقيقي في التساهل الحقيقي". كما كان صائبا نقده لمثل السياسة الدينية والفضيلة الكاملة: "من أين للبشر دائما بمستبد عادل نزيه واسع الصدر كالفاروق عمر بن الخطاب ليحكم الأمة والشريعة بالعدل والاستبداد حكما ينقذهم من الاضطراب والفوضى ويعطي كل ذي حق حقه (…). أكثر ما تقع الرئاسة في أيدي الناس كباقي الناس ولهم شهوات وأهواء جميع الناس. فإذا لم يكن هناك ضوابط وروابط تضبط أحكامهم وتربط أهواءهم صارت الشريعة الحرة السمحاء المنزهة من كل قيد ورابطة آلة لاستبداد الظالم بالرعية استبدادا يبتز به خيرها. ولم يكن للشعب من سلطة حقيقية على الحاكم إلا بخلعه. ولكن هذا الخلع يجر وراءه دائما ما وراءه من الفتن والانقسام في الأمة. وهذا كل ما جرّ البلاء في الإسلام" (ابن رشد وفلسفته، ص 280- 281). إن هذا النقد لا يوجّه إلى الفضيلة الدينية وحدها بل ينسحب أيضا على كل المنظومات الفكرية القائمة على احتكار الحقيقة والتبشير ببلوغ العهد الأسمى ونهاية التاريخ، فالرهان الأكبر هو التحوّل من سياسات المطلقات إلى سياسات الممكنات، حيث تتبوّأ الديمقراطية مكانة محورية باعتبارها دولة الممكن حين يصير مطلوبا والتجربة الأقل سوءا بين محاولات البشر العديدة للتخفيف من غول الدولة دون السقوط في الفتنة. ولم يقتصر النقد الأنطوني على هذا الجانب فقد كان عميقا في نقد براديغم الإصلاح كله، في مقولة العودة إلى الأصل: "إذا كانت الوحدة الدينية محالا وتغير شروط الأديان وحالاتها بتغير الزمان والمكان أمرا لازما فالرجوع إلى الأصل أمر محال" (ص 297)، ومقولة الجامعة الإسلامية: "الجامعة الإسلامية هي الوحدة الدينية التي ذكرنا استحالتها. وإذا كان الآن لبعض إخواننا المسلمين أمل في هذه الجامعة فما ذلك إلا لأن المصائب تجمع، ولكن متى ذهبت المصائب إذا كان ذهابها في الإمكان وصارت كل أمّة إسلامية مستقلة فإن هذه الأمم المختلفة المشارب والأجناس والمذاهب واللغات تعود إلى الاختلاف والنفار"، ويضيف، كأنه يتنبأ بما يقع بعده "إن الحرب بين القوي والضعيف لا تؤذي إلا الضعيف" (ص 299). ثم مقولة العودة إلى إسلام عربي: "ما معنى الجامعة الإسلامية إذا كانت الشعوب الغريبة تبقى محسوبة غريبة قاصرة عن فهم الإسلام والعمل به ولو مرّ على اعتناقها الإسلام مئات السنين؟" (ص 296)، إلى غير ذلك. لا يتطوّر الفكر الديني إلا إذا حمل هذه القضايا المهمة التي أثارها أنطون على محمل الجد وناقشها نقاش البرهان ولم يتصورها عدوانا عليه بل هي مساءلات العصر له. بعبارة أخرى: ما ينقص الخطاب الإصلاحي هو رد لعبده على ردود أنطون عليه، رد تحليلي لا جدالي يعتمد الاستدلال لا الانفعال. فتطور الخطاب الإصلاحي رهين قدرته على الانتقال من الكتابة السجالية والوعظية إلى الكتابة التحليلية والاستدلالية، بعد أن نجح في الانتقال من الكتابة الفقهية إلى الكتابة الصحفية. ذلك أننا إذا تأملنا حجج عبده واستدلالاته نجدها تقوم على الخلط بين واقع الحال وحكم الحال. يستدل مثلا على التسامح في الإسلام بوجود طوائف "أجمع فقهاء الأمة على أنها من قبيل المرتدين والزنادقة" لكنها تعيش بسلام بين المسلمين. لا يشعر بالتناقض في هذا المثال الذي يقدّم، فمنح الفقهاء حق الحكم بالردة والزندقة هو لبّ المشكلة. ثم أن المتسامح في هذه الحال هو رجل السياسة إذا لم يطبّق الحكم "الشرعي" وليست الأحكام الدينية التي تفترض إقامة الحدود. لكن عبده محقّ في أن التسامح، بمعنى التعايش بين الأديان، كان واقعا قائما في التاريخ الإسلامي. المقاربة الجدالية للقضية وغلبة مناخ المنافحة والتمجيد والطابع الطائفي للمعاندة هي عناصر منعت عبده من طرح المشكل طرحا برهانيا، كما يقال في علم الكلام. لماذا لا يتحوّل واقع الحال إلى حكم الحال؟ لماذا لا يعيش هؤلاء الذين ضرب بهم عبده مثلا متحررين من سيف التكفير المسلّط على أعناقهم يغفله رجل السياسة حينا ويستعمله إذا شعر بالفائدة؟ الخطاب الديني حول الإصلاح يغلب أن يكون حيلا فقهية من أن يكون طروحا مبدئية للقضايا. ولا مناص من أن يترتّب على الخلط بين واقع الحال وحكم الحال عاقبتان ترتبط إحداهما بخطة الخطاب والثانية ببنيته. فخطة الخطاب انتقائية وبنيته مانوية. تتمثل الانتقائية في اختيار الأحداث التي تشهد على صحة الرأي ثم إهمال الأخرى. إنها خطة قديمة في المجادلة الدينية وإن أضيف إليها حديثا الانتقاء من القول الأجنبيّ بما يفيد الغرض. الأندلس هي عصر الخليفة يوسف الذي قرب الفلاسفة دون المنصور ا


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني