PCP

يا عمال العالم اتحدوا

القدس في ذاكرة الأغنية العربية: الأغنية الرحبانية تمردتعلى البكائية باكراً.. و’زهرة المدائن’ هزمت عبد الوهاب!

القدس في ذاكرة الأغنية العربية: الأغنية الرحبانية تمردتعلى البكائية باكراً.. و’زهرة المدائن’ هزمت عبد الوهاب! أطلقت الفنانة السورية أصالة نصري مؤخراً، أغنية جديدة عن مدينة (القدس) قالت إنها مهداة للقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009… وأضافت تقول في تصريحات صحافية حول معنى غنائها للقدس: (أن أغني للقدس فهي مهمة على الصعيدين الإنساني والشخصي، وأن أغني للقدس المكان الحلم الذي أحبه، والمهم بالنسبة لنا كعرب، والذي نتمنى زيارته والصلاة فيه، فأنا اليوم أغني للحلم). وقد سبق للعديد من كبار الفنانين على امتداد الوطن العربي، أن غنوا للقدس لا كحلم فقط، وإنما كرمز لتعانق الأديان السماوية حيناً، ورمز لمرارة الصراع الطويل الذي طبع تاريخ هذه المدينة منذ الفصول الأولى للنكبة. واليوم… والقدس تحتفل برمزية اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 2009، وهي تحت الاحتلال والتهويد والاستيطان… تستعيد الذاكرة صورة القدس في الأغنية العربية، حيث تبدو وكأنها المدينة التي جمعت حناجر المطربين العرب… ولونت آذان وأفئدة سامعيهم بالمراثي والألم والحنين. تشكل التجربة الرحبانية، حجر الزاوية في أغاني القدس والقضية الفلسطينية… ولئن تقدمت بعض المساهمات الفنية المحدودة على هذه التجربة من حيث التسلسل الزمني، فإن ما قدمه الرحابنة مع السيدة فيروز، شكل حالة ريادية على مستوى النوع… ونقطة علام في مسار الذاكرة الطويل منذ قدموا أولى أعمالهم في هذا السياق، مغناة ‘راجعون’ ولذلك لا بد أن تكون البداية من حالة الإلهام الرحباني، نظراً لتنوع وغزارة الأعمال التي قدمتها في هذا السياق، من جهة، ولقدرتها على البقاء في الوجدان بعد مرور عقود على ظهورها من جهة أخرى! راجعون.. فن استنهاض الهمم! تعود علاقة الرحابنة بالقضية الفلسطينية إلى سنوات نشاطهم الاحترافي الأول، ففي العام نفسه الذي شهد زواج عاصي الرحباني بفيروز بعد سنوات قليلة على بداية تعاونهما الفني، كانت أولى الأعمال الغنائية التي لامست قضية فلسطين، تخرج إلى النور بعنوان ‘راجعون‘. ويروي الفنان الراحل منصور الرحباني قصة هذا العمل الفني الكبير، فيقول: (بعد الزواج، جاءت دعوة من إذاعة ‘صوت العرب’ من القاهرة، فذهبنا.. عاصي وفيروز وأنا، حيث التقينا أحمد سعيد، ووقعنا على عقد لتنفيذ أغان وأناشيد وبرامج خلال مدة ستة أشهر. في تلك الفترة وضعنا ‘النهر العظيم’ وأعمالا أخرى. وذات يوم قال لي أحمد سعيد: إذا وفرنا لكما طائرة عسكرية إلى غزة هل تذهبان لتسمعا الأغاني الفلسطينية هناك؟! وكنا نخاف الطائرات كثيرا فطلبنا استحضار التسجيلات إلى القاهرة وهكذا كان. استمعنا إليها فإذا فيها نواح واستجداء وشكوى. قلنا له: ‘قضية فلسطين لا تعالج هكذا. لا يسترد فلسطين إلا الفلسطينيون لا ابن القاهرة يموت عن القدس، ولا ابن بيروت ولا ابن دمشق’ ولتثبيت مقولتنا وضعنا ‘راجعون’ وما فيها من استنهاض همم الفلسطينيين المشردين وسجلناها بأصوات فيروز وكارم محمود والكورس). سجل الأخوان رحباني ‘راجعون’ في إذاعة صوت العرب في القاهرة عام 1955، ويبدو أن التوزيع الذي قدماه، والذي تحتفظ به الإذاعة المصرية لم يكونا راضيين عنه، فأعادا إصدار ‘راجعون‘ عام 1956 على أسطوانة وأطلقا عليها اسم مغناة كما تقول الأسطوانة. لكن الصفحة الأولى من كتاب التوزيع الموسيقي تسميها (عملاً موسيقياً كورالياً) وقد قاد الأوركسترا فيها الموسيقي الشاب آنذاك توفيق الباشا، وأدت فيروز دور الغناء المنفرد، مع مشاركة لميشال بريدي عوضا عن كارم محمود. والحق أن ‘راجعون’ تتجاوز الشكل المألوف للأغنية الوطنية، أو حتى البناء الموسيقي الميال للفخامة بالنسبة لفن القصيدة، لتتحول إلى عمل غنائي يقوم على حوار بين الفرد والمجموعة، وبين الصوت والصدى، وبين الأمل وبؤس واقع التشرد وقسوته على اللاجئين الفلسطينيين في تلك الفترة. لكن هذا الحوار المشبع بالأصوات والنبرات التي تصارع واقعها، لا يعمد إلى عرض أفكاره، أو قول معانيه الوطنية في سياق شعري سردي وكفى، بل هو ينطوي على حبكة درامية تكاد تُطوِّع هذا الموضوع الشائك، لتجعل منه نسيجاً رحباني الأسلوب، حيث محاكاة الطبيعة في نبرة رومانسية تضج بالحنين، الذي تعبر عنه أصوات المجموعة، وهي تناجي نسيماً من ربى تلك الديار السليبة: أنتَ من بلادنا يا نسيمُ يا عبيراً يقطع المدى حاملاً همومَ أرضٍ يهيمُ أهلها في الأرض شُرَّدا إلا أن هذا المطلع الذي يحاكي طقوس الحنين في الشعر العربي، سرعان ما يتبدل في لحظة انقلاب درامي وموسيقي في آن معا.. ليطرح سؤالا استنكاريا، ينطوي على موقف ثوري أصيل: هل ننام وشراع الخير حطام هل ننام ودروب الحق ظلام ثم تستكمل تلك الحالة الثورية الجنينية التي تحمل الجواب في طيات السؤال الاستنكاري، في مقطع آخر من هذه (المغناة) ذات البناء الموسيقي البديع، الذي يعلي من دراميتها، ويرفع من مكنونات نهوضها: وقوفاً.. وقوفاً أيها المشردون وقوفا يا ترى هل تسمعون ديارُنا من يفتديها؟ من غيرنا يموت فيها؟! وبين تنويع على نبرة أسى مشوبة بالحنين في مقطع تال: (بلادي زمانا طويلا أذلك الغاصبون) وبين تواصل أكثر اقترابا وتجذرا: (بلادي أطلي قليلا فإننا راجعون) يصل الرحابنة في النهاية إلى جوهر الحقيقة التي يفرضها التشرد، وإلى معنى الأمل الذي يؤسس لفعل المقاومة والأمل بالتحرير: في الأمطار راجعـون في الإعصار راجعون في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح راجعون.. راجعون.. راجعون بالإيمـان راجعـون للأوطان راجعـون في الرمال والظلال في الشعاب والتلال راجعون.. راجعون.. راجعون وإذا أخذنا بالاعتبار زمن ولادة هذا العمل في منتصف خمسينيات القرن العشرين، وبعد سنوات قليلة على نكبة فلسطين الأولى التي هزمت فيها الجيوش العربية، لأمكن لنا أن نتصور قيمة تلك الرؤية الإبداعية المتحررة من أجواء وشعارات تلك الفترة، والمترفعة موسيقيا وفكريا ودراميا عن كل ما قدم وسيقدم لاحقا لسنوات طويلة.. فهاهنا يولد الموقف الثوري من رحم الحنين الرومانسي، ليعطي للحس الثوري معنى الارتباط بالأرض والبيت والذكرى، لا بالشعار والحماس الأجوف.. ومن هنا فليس غريبا أن تكون ‘راجعون’ كما رآها الناقد اللبناني نزار مروة، بعد ثلاثين عاما على صدورها، محتفظة بتلك الريادية، حيث وصفها في ندوة عقدت عام 1986 عقب رحيل عاصي الرحباني بأنها كانت (على درجة الفكر الموسيقي الأرقى، يرتفع بالسامع إلى مستوى التجربة) ثم يمضي إلى تقييمها بالقول: (مغناة ‘راجعون’ من الأعمال القليلة التي انجلت عن معالجة ناجحة لمسألة التعامل مع العناصر الثلاثة: الأوركسترا والصوت، الفرد والمجموعة، بالمعنيين الوظيفي والجمالي. وعلى المستوى الغنائي بخاصة، ينهض حوار مؤثر بين جموع الشعب الممثلة بالكورال، وبين ضميرها في الصوت المفرد فيروز) الرؤية الرحبانية: محاور ومفردات! قدم الرحابنة، أحد عشر عملاً غنائياً عن القضية الفلسطينية، عبروا من خلالها عن مفردات شتى، واختزلوا فيها صورا ووقائع وأحداث، بطرق مختلفة ومجددة، ويمكن لنا في ضوء التحليل النقدي، أن نقسم هذه الأعمال ضمن محاور أربعة: 1 ـ التشرد واللجوء: ضمن هذا المحور استحضر الرحابنة معاناة التشرد واللجوء، وركزوا على مأساة الانتظار، باعتبارها جوهر المشكلة الإنسانية التي يواجهها اللاجئون. الانتظار في أغنيتي: ‘غاب نهار آخر’ و’احترف الحزن والانتظار’ يبدو أشبه بموت بطيء.. فهو يغتال أعمار المنتظرين، ويبدد إحساسهم بالزمن رغم ما يمتلئ به من ترقب، إنه يمارس عنفا خفيا على آمال الناس وأحلامهم في كل آن: أحترف الحزن والانتظار أنتظر الآتي ولا يأتي تبددت زنابق الوقت عشرون عاما وأنا.. يأكلني الحنين والرجوع. 2 ـ ذاكرة المكان: خص الرحابنة معالم ومدن فلسطين بالعديد من الأغنيات، وبدا الحنين إلى المكان بما يختزنه من ذاكرة وذكريات، محورا هاما سواء في أغنيات مستقلة، أو في أغنيات وجدت في ذاكرة المكان اتكاء شاعرياً، نحو الانطلاق للحديث عن حلم العودة، أو الإيمان بالمقاومة. في هذا المحور تندرج أغنيات: ‘يا ربوع بلادي’و’يافا’ و’بيسان’ التي صدرت ضمن ألبوم القدس في البال، وتعلو النبرة الشعرية كلمات ولحناً نحو آفاق يرتقي بها صوت فيروز، وخصوصا في ‘بيسان’ التي يقول مطلعها. كانت لنا من زمان بيارةٌ جميلة وضيعةٌ ظليلة ينام في أفيائها نيسان ضيعتنا كان اسمها بيسان خذوني إلى بيسان إلى ضيعتي الشتائية هناك يشيعُ الحنان على الحفافي الرمادية 3 ـ أغنيات القدس: نظرا للمكانة الخاصة التي تمتعت بها القدس في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، حظيت القدس باهتمام مميز في سجل الأغنية الرحبانية، وتشكل ‘القدس العتيقة’ و’زهرة المدائن’ إضافة مميزة للأغنية العربية التي استلهمت القدس موضوعا ولحنا. حيث الارتقاء نحو الرمز في صياغة الملامح الجغرافية والتاريخية والدينية لهذه المدينة، وضمن بوتقة فنية ملحمية كما سنبين لاحقا. 4 ـ حلم العودة: لم تخل أغنية رحبانية من الأغنيات التي تحدثت عن فلسطين من مفردات ‘العودة’ و(الرجوع’ وربما أمكن لنا أن نتلمس ملامح هذا الحلم في معظم ما قدمه الرحابنة، إلا أن أغنيات: (’راجعون’ و’سنرجع يوما’ و’أجراس العودة’ (سيف فليشهر) و’جسر العودة’ تبقى هي الأكثر تعبيرا عن هذا الحلم، وتأكيدا وإصرارا على إذكائه. صراع الألم والأمل! لقد ظل حلم العودة، واحدا من المفردات الأساسية التي صاغت رؤية الرحابنة للقضية الفلسطينية، وقد اقترن هذا الحلم على الدوام بثلاثة عناصر رئيسة: الأول: النبرة الرومانسية التي تعبر عن الحنين إلى المكان السليب، والذكرى التي تضطرم نيرانها في النفوس كلما أوغل المكان الذي احتضنها في الغياب. الثاني: البعد التراجيدي الذي يستحضر آلام الغربة ولوعة الانتظار، والذي يعبر عن عمق المأساة بشاعرية راقية، وجلال بعيدا عن البكائية والميلودرامية الفجة. الثالث: الأمل الراسخ بإمكانية العودة وحتميتها، مهما طال زمن الانتظار. واللافت أن الرحابنة استطاعوا أن يحققوا في هذا الأعمال فتحا جديدا في مجال (الأغنية الوطنية) فإذا كانت قصيدة ‘أجراس العودة’ أو ‘سيف فليشهر’ التي كتبها سعيد عقل، تمثل في بنائها الموسيقي الشكل الشائع للأغنية الوطنية بطابعها الحماسي المليء بالحيوية، والتي استخدمت فيه المارشات العسكرية والأبواق النحاسية في حالة منسجمة مع الطابع العام للقصيدة؛ فإن أغنية ‘سنرجع يوما‘ تمثل في هذا السياق، حالة شديدة الخصوصية في سياق التعبير الغنائي عن مفهوم الأغنية الوطنية، تعبيرا رومانسيا خالصا في الكلمة واللحن والبناء الموسيقي العام، فالحنين هو العنصر المسيطر على الحالة الشعورية للعمل، والتغني بالوطن باعتباره الحي والناس والحب والذكريات.. هو الحجر الأساس الذي يشكل أساس الانتماء لهذا الوطن، خارج الشعارات والأيديولوجيات، لكن الوطن - إلى جانب ذلك كله- هو اليقين الراسخ بالعودة مهما طال الزمن وامتدت المسافات: سنرجعُ يوماً إلى حينا ونغرق في دافئات المنى سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا. إن ميزة أي فن عظيم هو بث الأمل وزرع الإيمان في نفوس أصحاب الحقوق، ولقد وعى الرحابنة هذه المسألة فتعاملوا معها باعتبارها يقيناً ثابتاً، يرقى إلى مستوى الحقيقة المطلقة، وغالبا ما تبقى الحقائق المطلقة خارج نطاق التحولات والمتغيرات، وفوق انقلاب موازين القوى.. ولذلك يأتي التعبير عنها راسخاً، وخارج النطاق الزمني المحدود الذي قد يحكم بعض الأعمال والرؤى الفنية.


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني