PCP

يا عمال العالم اتحدوا

عن فكرة تحريم الإساءة إلى الأديان

طغى حدث الفيلم المسيء إلى الإسلام على كلّ ما عداه هذا الأسبوع. في الشرق وفي الغرب، الحديث هو عن هذا الفيلم وعن الردود عليه. وجدت السلفيّة ضالتها في موضوع لا يشكّل لها إحراجاً في مواقفها الخانعة من السياسة الخارجيّة. في الردود على الرسوم الدانماركيّة، قاد آل سعود وآل ثاني الحملة فقط لأنّ الدانمارك عدوّ يسهل عداؤه. السلالتان صمتتا نتيجة خشوعهما أمام (أو وراء) أميركا. والهبّة السلفيّة هي جانب مستعر في الصراع غير الخفي بين الإخوان والسلفيّة (وسيزداد حدّة في لبنان). ترى الردود الغاضبة وتتساءل: لماذا لم يهبّوا ضد العدوّ الإسرائيلي وضدّ غزو العراق؟ والذين أدوا دور أدوات الناتو في ليبيا، أحرقوا القنصليّة الأميركيّة في بنغازي وقتلوا من فيها. يوسف القرضاوي الذي أرغى وأزبد ضد الدانمارك، صمت احتراماً للولاء القطري لأميركا، وما القرضاوي إلا فقيه متجوّل للسلطان الخليجي. والفيلم لم يأتِ من فراغ، ولم تأت ردود الفعل عليه من فراغ: حدث ما حدث في سياق تاريخ من العداء العنصري ضد الإسلام والذي تضخّم بعد 11 أيلول. ما معنى أن تمتعض الأمم السويسريّة من المآذن وتحرّمها مع أنّ ليس هناك منها هناك إلا أربع. والدولة الفرنسيّة اليمينية (والمتحالفة مع صهيونيّة يهوديّة ومسيحيّة حول العالم) تذكّرت فجأة علمانيّة الثورة الفرنسيّة التي يبدو أنّها قامت فقط لمنع النقاب في الأراضي الفرنسيّة. وقد تغيّر الخطاب الأميركي الذي لم يكن يوماً متعاطفاً مع العرب أو المسلمين وقضاياهم. لكن شيئاً جديداً حصل: باتت الكراهية مُعلنة ويتنافس الساسة في أميركا على الظهور مظهر الحزم والقوّة في إهانتهم لمشاعر المسلمين. كانت جلسات الاستماع في الكونغرس عبارة عن تقيؤ للخطاب الصهيوني، وتحوّلت إلى تقيؤ واجترار للخطاب الصهيوني المُطعّم بالاستشراق المسيحي التقليدي. الصهاينة (من يهود ومسيحيّين وملحدين) يقودون الحملات كالعادة وهم لا يتستّرون البتّة. ومحطة «فوكس نيوز» (شريكة الأمير وليد بن طلال) تبرز كالصوت المُجاهر بالعداء للإسلام والمسلمين. وهي تذكّر بتلك المطبوعات النازيّة التي كان يوزف غوبلز يُشرف عليها، مثل «در أنغريف»، والتي كانت تقود حملات كراهية ضد اليهود. الفيلم سيّئ الإنتاج والإعداد وكان لا يستحق إلا التجاهل التام. قصد المنتج ومَن وراءه استفزاز مشاعر المسلمين واستثارة غضبهم، وقد أنجح أعداء الفيلم مقاصده من غير أن يعلموا. لماذا ينجح أعداء الإسلام بسهولة في إغضاب المسلمين والمسلمات؟ ولماذا رغم خطبنا الناريّة لا ننجح في إغضاب الأعداء وفي استثارة عواطفهم كما يتلاعبون بنا؟ لكن الموضوع يتعلّق بحريّة التعبير وبموضوع إهانة الأديان. لنقل بداية إنّ المنظمات الإسلاميّة المُحتجّة ليست في موقع الوعظ والإرشاد الأخلاقي: ليس فقط لأنّ ليس لها سجلّ نظيف في احترام الآراء المختلفة وفي احترام حق الاختلاف، بل لأنّ لدى بعضها سجلّاً حافلاً في إهانة أديان أخرى. عندما يصف رجال دين مسلمون اليهود ــ كل اليهود، بمَن فيهم نعوم تشومسكي وغيره ــ بـ«أحفاد القردة والخنازير»، تضعف حجّتهم حين يطالبون بسنّ قوانين ضد إهانة الأديان. لكن موقف حزب الله هو أكثر جديّة مع أنّ الحزب في خطب بعض قادته وفي أدبيّاته أيضاً لم يلتزم قطعاً ومطلقاً موقفاً رافضاً لإهانة أفراد أي دين من الأديان. وفكرة حسن نصر الله في سنّ قانون دولي ضد إهانة الأديان ــ السماويّة، كما قال ــ وتخصيص أربعة أنبياء بالتحريم: موسى وإبراهيم وعيسى ومحمد، تحتمل الجدل والنقاش، لا بل النقد والرفض. ماذا نعني بالأديان السماويّة؟ وكيف نقبل بأن ندعو الأمم المتحدة، التي نتهمها عن حق بالتدخّل الجائر في شؤوننا، والتي نتهمها أيضاً بالخضوع للإرادة الأميركيّة، أن تتدخّل بصورة سافرة في حريّة التعبير حول العالم؟ ألا يرى نصر الله أنّ قبولنا بمبدأ سنّ قانون دولي في حق التعبير ــ وحق التعبير يعني حكماً التعبير عن آراء غير شعبيّة وغير مقبولة لأنّ حريّة التعبير عن الآراء الشعبيّة والمقبولة تدخل في نطاق تحصيل الحاصل ــ يمكن أن يعطي عرفاً سيّئاً في القانون الدولي تستطيع دول الغرب أن تستخدمه ضدّنا؟ ماذا لو سنّ مجلس الأمن قراراً دوليّاً يحرّم انتقاد دولة إسرائيل بحجّة احترام اليهود واليهوديّة، كما فعل المجلس المحلّي في ولاية كاليفورنيا بالنسبة إلى الجامعات الحكوميّة؟ ثم، هل ينطبق اقتراح سن قانون دولي بتحريم إهانة الأديان على كل الأديان؟ هل ينطبق على البهائيّة، مثلاً، التي يرى بعض المسلمين في أبنائها وبناتها _ من منظار تقليدي للشرع الإسلامي ــ أنّهم وأنّهنّ مهدورو الدمّ؟ ماذا عن البوذيّة أو عن الهندوسيّة والفرق المُشركة؟ هل ضمن حزب الله وسائر المحتجّين المسلمين حق الهندوس في حريّة التعبير الذي لا يتوافق مع عقيدة التوحيد؟ ثم، لماذا تحظى الأديان بهذه الأفضليّة القانونيّة (الدوليّة) دون غيرها من العقائد؟ ماذا عن مُعتنقي الشيوعيّة والفوضويّة الذين نشأوا (غرباً وشرقاً) في بيئة تكيل لهم ولعقيدتهم (وعقيدتهن) الشتائم والإهانات بصورة دوريّة أو يوميّة؟ هل سيحظون أيضاً بقانون لحمايتهم من الإهانة؟ وماذا عن مقدّسات غير دينيّة لبعضنا: ماذا عن إهانات تلحق بأبطال وعظماء من تاريخنا، مثل جورج حبش أو خالد علوان أو حبيب الشرتوني؟ لا يمكن تعميم معايير يتفق عليها الجميع في منطقتنا أو خارجها حول المقدّسات الدينيّة. وهناك جانب لا يمكن أن يكون مخفيّاً عنّا ولا حتى أمام الغرب: نحن نعظ الغرب حول احترام الأديان فيما تعاني المنطقة العربيّة من حمّى حرب مذهبيّة لم نشهدها منذ قرون. إنّ الإعلام السعودي (وهو صامت هذه الأيّام حول مهانة الفيلم لا لسبب غير أنّه حصل في أميركا، وقد لاحظ الصهاينة ذلك وأثنوا على الحكم السعودي لصمته ولعدم سماحه أو رعايته لتظاهرات احتجاجيّة) يزخر بالكراهيّة المذهبيّة الصارخة لرموز الشيعة وينشر كتباً ومقالات في ذم الشيعة وخصوصاً العلويّين هذه الأيّام. هؤلاء وأنصارهم من السلفيّين ليسوا في موقع التزام مبدأ احترام العقائد الدينيّة. وهناك طائفيّون ومذهبيّون من السنّة والشيعة يخوضون نزالات يوميّة على الإنترنت. وهناك وجهان للقضيّة في الجانب الغربي. الغرب المسيحي وصل بعد منتصف القرن العشرين، وبعد صراعات دينيّة دمويّة وحروب أهليّة، إلى قبول فكرة نقد الدين السائد وحتى السخرية منه. وهذا الأمر وصل متأخّراً إلى أميركا، ولم يُجمع عليه كل الشعب الأميركي. هناك من لا يتقزّز للسخرية من المسيحيّة التي ترد في برامج الكوميديا المرسومة (مثل «ثاوث بارك» أو «فاميلي غاي» أو غيرهما) أو من تاريخ المسيحيّة وفق رؤية الفرقة الكوميديّة البريطانيّة، «مونتي بايثون». لكن السخرية أو نقد اليهوديّة في المجتمعات الغربيّة أمر لا يزال غير مقبول. لا يمكن في أميركا لغير اليهودي أن يهين اليهوديّة أو ينتقدها من دون عواقب أخلاقيّة وأجتماعيّة وحتى وظيفيّة، مع أنّ القانون يضمن حريّة التعبير. لكن كلام هيلاري كلينتون وباراك أوباما عن حريّة التعبير في أميركا كلام مراوغ. ليس صحيحاً أنّ أميركا تضمن حريّة التعبير المطلقة. إنّ مناصرة حزب الله أو حماس، مثلاً، تودي بالمُناصر إلى السجن (مع أنّ هناك جدلاً دستورياً إذا ما كان القانون يتضمّن في بند «المساندة الماديّة» المناصرة اللفظيّة أو الأدبيّة). إنّ المناصرة الماديّة لمستشفى يخضع لإدارة من هو قريب من حزب الله أو حماس، ممنوعة قانوناً في هذه البلاد. والقانون الدستوري في أميركا يتضمّن عدداً من الحالات التي قيّدت فيها المحكمة الدستوريّة العليا حريّة التعبير (وهذا لا ينطبق فقط على ما يُعرف في القانون الدستوري لحريّة التعبير بـ«التعبير الباطل» ــ أي الذي يتضمّن أكاذيب ــ بل ينطبق أيضاً على «التعبير الحق» أي التعبير الذي يتضمّن حقائق). وتسريبات الوثائق الأميركيّة الكبرى من قبل «برادلي مانينغ» تندرج في إطار «التعبير الحق»، لأنّ الوثائق غير مزيّفة، لكن برادلي يقبع في السجن وسيقضي عقوداً في زنزانة انفراديّة ــ على الأرجح. وعندما خاطبت هيلاري كلينتون المسلمين كالأطفال قبل أيّام وشرحت لهم بتبسيط شديد كيف أنّ الحكومة الأميركيّة لا تعترض على حريّة التعبير أو عمل الإعلام، كانت تعرف أنّها تراوغ. لا نزال نتذكّر مثلاً كيف أن إدارة بوش طلبت رسميّاً بعد 11 أيلول من كل وسائل الإعلام المرئيّة هنا، وبذريعة الأمن القومي الأميركي، عدم بثّ أي شريط لبن لادن «بنوب». وقد امتثلت وسائل الإعلام «الحرّة» لهذا الطلب، خلافاً لـ«بي.بي.سي» التي رفضت طلب حكومة بلير (التي كانت قد تلقّته من إدارة بوش). هذه أمور لا تنطلي. طبعاً، يخطئ حسن نصر الله وآخرون في ظنّهم أنّ الإدارة الأميركيّة ضالعة في إنتاج الشريط. لا دليل البتّة على ذلك، وهو أمر مُستبعد. هناك في أميركا مصنع للكراهية ضد الإسلام والمسلمين، وهو يضمّ في صفوفه صهاينة، وبعض اللبنانيّين والمصريّين من المتعصّبين المسيحيّين ضد الإسلام. لا شكّ في أنّ ردّ الفعل الإسلامي لم يأت من فراغ. هناك تاريخ طويل من التعصّب المسيحي ضد الإسلام. والذين هلّلوا لبابا روما في لبنان لم يريدوا أن يتذكّروا أنّ حضرته ينتمي إلى تراث مسيحي استشراقي كاره للإسلام. ومضمون الفيلم المذكور إنما يُكرّر أقاويل عن الإسلام يمكن مراجعتها في الإنتاج الخطابي المسيحي باللاتينيّة في القرون الوسطى: إنّ الهوس الغربي المسيحي برواية زواج الرسول بزينب بنت الجحش لازمة في كل إنتاج الكراهية المسيحيّة التاريخيّة للمسلمين، ولم ينس الفيلم أن يتضمّنها وأن يسخر منها. (والكاتب اللبناني الكتائبي _ الحرّاس أرزي، مصطفى جحا، كان ينشر ترجمات مقتبسة ومبتذلة من التراث الاستشراقي المسيحي المُعادي للإسلام، وهذا يفسّر سبب احتضان «النهار» و«الأحرار» و«العمل» له على مرّ سنوات إنتاجه الكريه). لكن هل الفيلم المبتور على الإنترنت يستحقّ الاحتجاج أكثر من احتلال فلسطين وأكثر من الحرب الأميركيّة في العراق وأفغانستان وأكثر من عدوان تمّوز وأكثر من فرض أميركا لنظام الطغيان في المنطقة العربيّة؟ هل حميّة المسلمين دينيّة فقط؟ هل يشير هذا إلى معرفة العدوّ بنقاط الضعف، ما يسهّل له مهمة إهانتنا وخداعنا واحتلالنا؟ وكيف نطالب الغرب باحترام مقدّساتنا فيما نحن نهين ونحقّر مقدّسات بعضنا البعض؟ كيف نطالب الغرب المسيحي باحترام الإسلام، فيما تتقاتل الفرق الإسلاميّة


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني