PCP

يا عمال العالم اتحدوا

في تقييم الثورات والانتفاضات الشعبية العربية

في إطار القراءات الأوليَّة لما يعيشه العالم العربي من ثورات وانتفاضات شعبية, كتب مثقف واستاذ جامعي ما نورده على النحو التالي:- - إن الثورة العربية التي نشهد فصولها, لا ترقَ إلى مستوى الثورات العظمى التاريخية, كالثورة البريطانية والفرنسية والأمريكية, أو حتى إلى مستوى الثورات الأقل عظمة وجذرية, كالثورتين الروسيَّة والصينية. ذلك أن ما يشهده العالم العربي," هو أقرب إلى الإنقلابات السياسية الملتوية التي ابتليت بها شعوب العالم الثالث في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وفي العالم العربي", فما جرى عربياً, لا يعدو كونه انتفاضات للفقراء المسحوقين المطالبين بقسط من العدالة الإجتماعية, وليس ثورة على البنية الذهنية والثقافية السائدة في مجتمعاتنا, والتي مكَّنت المتسلِّطين والمستبدِّين من تبرير انتهاكهم لأبسط جقوق شعوبهم. - وإذ راى البعض- كما يجادل الكاتب-, بأن ما جرى من ثورة أو ثورات عربية هو وليد تحوُّلٍ في التربة الثقافية- الدينية والإجتماعية- في أوساط شعوبنا, فإن النظر الناقد لا يرى مثل ذلك, لأن العقل العربي ما زال خاضعاً للغيبيات الإلهية, الإسلامية خاصة بحكم اتساع انتشار الإسلام في عالمنا العربي, في حين شكلت الثورات الكبرى ولا سيما الغربية, انقلاباً على الغيبيات الدينية المتحدرة من العصور الوسطى, وذلك يضعنا على المستوى العربي, إزاء هبات تظلُّم شعبية لا تلبث أن تنتهي مع انتهاء الفورة الراهنة. - ويرى الكاتب على هذا الصعيد, بأن ما جرى في البلدان العربية استند إلى ثورة الإتصالات التقنية التي مكَّنت الأجيال الشابة من التواصل لكي تحتشد في الساحات مطالبة بتغيير أو إصلاح النظم السياسية. والثورة التقنية كما يقول, هي وليدة فلسفة العولمة غير الحضارية, وغير الإنسانية والأخلاقية بعكس فلسفة الأنوار التي ألهمت الثورات الغربية الكبرى. - وحيث يرى الكاتب بعد ذلك, بأن الثورات الغربية هي من أسَّس لشرعة حقوق الإنسان التي غدت كونية, فإنه بدون أن تستند ثوراتنا العربية إلى تلك الشرعة لن تكون ثورات, فالذهنية السائدة في مجتمعاتنا والمرتبطة بالوعي الديني, ليس بمقدورها أن تقيم التواصل مع الشرعة الكونية,وهي لا تعمل بالتالي غير إعادة إنتاج التسلط والاستبداد وكل مظاهر التأخر عن ركب الحضارة الإنسانية. - ويقترح الكاتب لخروج مجتمعاتنا من هذا الإنسداد الحضاري, قيام حوارٍ بين النخب الدينية والعلمانية تكون قِبلتهُ شرعة حقوق الإنسان وليس الثورتين الإسلاميتين الإيرانية والتركية, اللتين حققتا بعض التقدم العلمي والديمقراطي كما يقول, دون أن يكون بمقدورهما تجاوز حدود البنية الذهنية الدينية التي تحول دون إطلاق الإبداع الإنساني. - وفي ختام مقاله يرى الكاتب, بأن الصراع المرير مع الصهيونية وحلفها الغربي الاستعماري, يجب أن لا يدفع الإنسان العربي إلى التغاضي عن أساس بؤسه ممثلاً في المنظومة الذهنية والثقافية القائمة, مبرِّراً ذلك بالحاجة لمنظومة تضفي معنىً روحياً على تماسك مجتمعاتنا في مواجهة التحدي الصهيوني والاستعماري. وفي مناقشة ما يطرحه الكاتب يمكننا القول بداية, بأن ما يدعو له هو تغريب المجتمعات العربية باسم الكونية, ذلك أن الدعوة للقطع مع المنظومة الذهنية والثقافية العربية هي دعوة للقطع مع الموروث الثقافي والحضاري لتلك المجتمعات. وقد رأينا فشل تجارب التحديث التي قامت على مبدأ القطع مع الموروث السائد سواء في روسيا أو في تركيا, إذ لم تلبث الشعوب في مثل هذه التجارب أن انقلبت على سياسة تغريبها عن موروثها, باحثة عن سبيلها الخاص نحو اللحاق بركب الحضارة الإنسانية, ونحو إغناء تلك الحضارة الكونية انطلاقاً من الرسالة التي تحملها حضارتها وثقافتها. كما نقول بعد ذلك, بأن ما يصدر عنه الكاتب تجاه ثورة الإتصالات التقنية هو نظرة ميكانيكية, ورأينا أن هذه الثورة قد أحدثت مجالاً للتواصل والتفاعل وسط وبين شعوبنا العربية بما نمَّى إحساسها بهويتها الجامعة, الأمر الذي يفسِّر اندلاع ثوراتها التغييرية في لحظة واحدة. وكان أشار البعض على هذا الصعيد, بأن الفضائيات العربية غير المنضبطة لمشروع قومي نهضوي قد أسهمت في تعميق تشظي الوعي العربي, لكن ما برز من خلال الثورات, هو أن الفضائيات وثورة الإتصالات برغم فوضويتها والتحاق بعضها بمشاريع خارجية, كان لها اثر إيجابي, بما دلل على ان الأجيال الشابة تملك من القدرة على التمييز ما مكَّنها من الإلتقاء على ما يخدم تطلعها إلى الكرامة الوطنية والقومية والإنسانية ونبذ ما يناقض ذلك.ولعل أهم ما كشفت عنه هذه الثورات, هو ولادة إنسان جديد في محيطنا العربي استطاع أن يقف بثبات وانضباط واستعداد للتضحية في مواجهة القوى التي تقاوم التغيير الثوري, وتلك التي تعمل على احتوائه وإجهاضه. وإذ يضع الكاتب شرعة حقوق الإنسان كمرجعيته لحوارالنخب العربية, فإنه يغفل في رأينا الإطار الصحيح للحوار المنتج بين نخبنا وداخل مجتمعاتنا, والذي يقوم على قاعدة التوافق حول فكرة جامعة توحِّد شتات الأمة وتعيد تنظيم بناها المتحاجزة على قاعدة هوية قومية حداثية, ولعل ما نلاحظه على مدى الأعوام التي انقضت, هو أن الحوارات التي جرت, لم تتقدم كثيراً لكونها لم تتمحور حول فكرة جامعة عروبية وقومية ودينية وإن كانت قد أسهمت في تجاوز القطيعة بين التيارات ذات المرجعيات المختلفة. ونعود إلى الفكرة التي أفرزتها تجارب التاريخ بشأن العلاقة الجدلية التي تقوم بين النظرية وبين معطيات الواقع, والتي مفادها بأن النظرية تسهم في تغيير الواقع والإرتقاء به, فيما يعمل تطور وتغيُّر الواقع على إغناء النظرية وذلك في سياق عملية تاريخية. ومن هنا تأتي رؤيتنا, بأن الثورات العربية التي شهدنا فصولها, لم تأت منفصلة عما أنجزته الأمة من وعي في صراع الوجود الذي خاضته مع عوامل تأخرها واحتجاز إرادتها ثم أن هذه الثورات سوف تسهم في دفع مسيرة هذا الوعي. وما أثبت التاريخ خطأه, هو تصنيف الوعي الإنساني بين مثالي وغيبي, وبين علمي وعقلاني, مبيناً أن كتلة الوعي التي تسود الأمم والجماعات البشرية, هي أكثر غنىً من هذا التصنيف المانوي. وإننا لا نرى على هذا الصعيد, بأن المجتمع الأمريكي قد تحرر بفعل ثورته التي يشير لها الكاتب من الفكر الديني والاسطوري والدلائل على ذلك ماثلة للعيان, كما شهدنا بأن فكر الأنوار العقلاني الذي انطلقت على اساسه الثورة الفرنسية, لم يحمها من الانحراف عن مسارها حين سلم الشعب الفرنسي قياده لنابليون, كما أنه لم يحمها من الإنتكاس من خلال عودة الملكية, وإذ يشير الكاتب إلى عدم إنسانية واخلاقية فلسفة العولمة التي سعت المراكز الرأسمالية الغربية إلى تعميمها في العالم, فهو يقرُّ في الواقع, بأن الثورات الغربية العظمى قد تنكَّرت لمبادئها, وهي قد فعلت ذلك مع نشوء الحركة الإستعمارية. وإذ يدعو الكاتب في ختام مقاله إلى تحييد الصراع المرير مع الصهيونية وحلفها الإستعماري عن وعي شعوبنا وعن مسار منظومتها الذهنية والثقافية, فإن ما يغفله في الواقع, هو عمق تأثير هذا الصراع على مسيرة شعوبنا ومجتمعاتنا. ذلك أن أي صراع وجودٍ تعيشه أمة أو جماعة بشرية, لا بد وأن يدفعها نحو التشدُّد في التمسُّك بموروثها الثقافي والحضاري بما يضعف ميلها نحو الإنفتاح على الآخر المعادي خاصة. ورأينا هنا, هو أن ما يدعو له الكاتب وبغض النظر عن النوايا التي يصدر عنها, إنما يلتقي مع ما تطرحه النظم والقوى الداعية إلى مغادرة الصراع مع الصهيونية ومع المشروع الإستعماري وذلك باسم التصالح مع "المجتمع الدولي", وباسم الإندراج في سياق الحضارة الكونية التي ترفض العنف فقط من جانب الأمم والشعوب المقهورة والمنتهكة حقوقها. وما نلمسه مما هو قائم في محيطنا العربي ولا سيما على الساحة اللبنانية الآن, هو أن من ينادون باجتثاث فكرة المقاومة, هم من يروِّج لكل ألوان الإنعزال بدءاً من القطري, ووصولاً إلى الطائفي والمذهبي والجهوي, في تناغم مع مشروع الهيمنة الإمبريالي- الصهيوني. وختاماً نريد القول, بأن الثورة العربية الراهنة, وعلى الرغم مما يحيق بها من الأخطار, قد نقلت شعوبنا ومجتمعاتنا العربية إلى زمن آخر, وإنه على الرغم من أية انتكاسات قد تحل بهذه الثورة, فإن الأفق الذي فتحته أمام الأمة لن يسهل إغلاقه مجدداً. وعليه فإن مهمة النخب العربية, هي أن تقدم قراءَة تاريخية لهذه الثورة بحيث تضعها في سياقها الموضوعي, دون إظهار أن ما شهدته المنطقة هو مؤامرة أمريكية وصهيونية, أو أنه مجرد فورة عابرة شعورية معرضة للإحتواء من جانب قوى الثورة المضادة لافتقارها إلى نظرية ثورية ناجزة غطاس أبو عيطة


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني