PCP

يا عمال العالم اتحدوا

أوسلو ونهاية الاستقلال الفلسطيني

أوسلو ونهاية الاستقلال الفلسطيني لم تقتصر آثار أوسلو على المفردات الفلسطينيّة، مثل التحرير وإنهاء الاستعمار والمقاومة، والنضال ضدّ العنصريّة، ووضع حدٍّ للعنف الإسرائيليّ، وسرقة الأراضي، والاستقلال، وحقّ العودة، والعدالة والقانون الدوليّ التي حلَّت محلّها مصطلحات جديدة مثل المفاوضات والاتفاقيّات، والمساومة، والبراغماتيّة، والطمأنات الأمنيّة والاعتدال والاعتراف، التي كانت جزءاً من مفردات إسرائيل قبل أوسلو وبقيت بعدها كذلك، بل مأسست أوسلو نفسَها كذلك بوصفها لغة السلام التي تنزع الشرعيّة تعريفيّاً عن أية محاولة لمقاومتها بدعوى أنها دعم للحرب، وتنبذ كذلك جميع معارضي التنازل عن الحقوق الفلسطينيّة بوصفهم معارضين للسلام. إنَّ جعل لغةِ التنازل عن الحقوق لغةَ السّلام قد مثلت جزءاً من استراتيجيّة إسرائيل قبل أوسلو وبعدها، كذلك فإنّها لغة السلطة الإمبرياليّة الأميركيّة ذاتها، التي بها تلقّى العربُ والمسلمون درسَ الرئيسِ باراك أوباما في خطابه الأخير في القاهرة حزيران/ يونيو الماضي. وهكذا فإنّ التحوّل الذي أحدثته أوسلو لم يقتصر على اللغة ذاتها فحسب، بل أيضاً على تحويل اللغة والمنظور الفلسطينيّين اللذين نظرت القيادةُ الفلسطينيّة من خلالهما إلى طبيعة العلاقات الفلسطينيّة ـــــ الإسرائيليّة، حيث مأسست عوضاً عنهما المنظورَ والمفرداتِ الإسرائيليّةَ بوصفها محايدة وموضوعيّة. إنَّ ما سعت إليه عمليّة أوسلو، إذاً، كان قلبَ هدفِ السياسة الفلسطينيّة ذاتها، من هدف الاستقلال الوطنيّ عن الاستعمار والاحتلال الإسرائيليّ إلى هدفٍ يصبح الفلسطينيّون بموجبه عالةً في بقائهم السياسيّ والوطنيّ على إسرائيل وراعيها الأميركيّ، وذلك لفائدة سلام محتلّيهم وأمنهم. أما المعادلة التحويلية الرئيسة لاتفاق أوسلو المكرَّسة نصّاً مقدّساً في إعلان المبادئ الصادر في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، فقد كانت «الأرض مقابلَ السّلام». وتظل هذه المعادلة المجحِفة بحقوق الشعب الفلسطينيّ، المعترف بها دوليّاً، هي المقاربة الموجِّهة والمحدِّدة لكل ما تلاها من اتفاقات ـــــ وخلافات ـــــ بين السلطة الفلسطينيّة والحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة. إنَّ هذه المعادلة هي التي تنزاح بالعمليّة بِرُمَّتها بافتراضها ضمناً أنَّ لإسرائيل «أراضي» ستكون مستعدة لمنحها «للعرب»، وأنّ «العرب» بوصفهم مسؤولين عن حالة الحرب مع إسرائيل، بمقدورهم مَنحُ إسرائيل السلامَ الذي تتوق إليه منذ عقود. إذ إنّ إلقاء مسؤولية الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة على عاتق «العرب» هو رؤية نموذجيّة لا تخضع لأية مساءلة في الغرب. كذلك، إنَّ تنازُلَ منظمة التحرير الفلسطينيّة، قد ضَمِن أخيراً أنَّ الفلسطينيّين وبقية العرب لن يقوموا بمساءلتها أيضاً. فبالرغم من مظهرها السطحيّ كتسوية سياسيّة، إلا أنَّ هذه المعادلة هي في الواقع انعكاس للرؤى العنصريّة التي تَسِمُ (اليهود الأوروبيّين) الإسرائيليّين والفلسطينيّين وغيرهم من العرب. ففيما يطالَب الإسرائيليّون و(يُطرحون) ظاهريّاً بأنهم راغبون في التفاوض في موضوع الممتلكات، ذلك الحقّ البورجوازي (الغربيّ) المُسَلَّم به بامتياز، يُطالَب الفلسطينيّون والعربُ الآخرون بنبذ الإرهاب ـــــ أو بدقة أكثر وسائلـ«هم» الإرهابيّة ـــــ بوصفها وسائل غير شرعيّة ويمكن أنْ تُنْسَبُ فقط إلى برابرة غير متحضّرين. إنَّ حقيقة كون فلسطينيّين قد تنازلوا عن مطلبهم العادل المشروع بـ77 بالمائة من فلسطين ويفاوضون على سيادتهم المستقبليّة على مُجرَّد 23 بالمئة من وطنهم، لا تصلح لمعادلة «أرض مقابل أرض» لأن تبنى عليها «عمليّة السّلام»، إذ إنَّ الصيغة الصحيحة من منظور فلسطينيّ، يجب أن تكون معادلة «الأرض مقابل السلام»، إذ إنَّ الفلسطينيّين هم من يتخلى بموجبها عن حقوقهم في وطنهم التاريخي (الأرض) مقابل إنهاء الاضطهاد الإسرائيليّ والعنف الكولونياليّ ضدّ شعبهم (السلام). رَحَّبت منظمة التحرير الفلسطينيّة، وإسرائيل والإعلام الغربيّ باتفاقيّة أوسلو كـ«اعتراف متبادل». إلا أنَّ هذا يناقض فحوى الكلمات التي نطق بها كلا الطرفين، والأفعال المترتبة على تلك الكلمات. فبينما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينيّة (التي كتبت الرسالة الأولى) «بحقّ دولة إسرائيل في الوجود بأمن وسلام»، فقد قررت الحكومة الإسرائيليّة في «رَدٍّ» على رسالة عرفات، «الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينيّة مُمَثِّلاً للشعب الفلسطينيّ وبدء المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينيّة في إطار عمليّة سلام الشرق الأوسط». لكن هذا بالكاد يرتقي إلى الاعتراف المتبادل. فلكي يُصبح هذا اعترافاً متبادلاً، كان يَتحَتَّم إما أن يعترف الإسرائيليّون بحقّ الشعب الفلسطينيّ بالوجود في دولة له بسلام وأمان، أو أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينيّة بحكومة رابين مُمَثِّلة للشعب الإسرائيليّ فقط، دون الحاجة إلى منح الدولة الإسرائيليّة أيّ «حق» في الوجود بسلام وأمان، أو بأي شكل آخر. إذاً، لم تَرقَ الاتفاقيّة الفعليّة إلى اعتراف متبادل، بل أفضت إلى الشّرْعَنَة النهائيّة للدولة اليهوديّة بالاعتراف بأنها تملك «الحقَّ» بأن تكون دولة أبارتايد عنصريّة، وذلك من الشعب ذاته الذي مارست وتمارس بحقّه سياساتها العنصريّة، ودون إلزام الإسرائيليّين بجديدٍ جوهريّ. حيث إنَّ منح منظمة التحرير الفلسطينيّة الاعتراف بأنها تُمَثِّل الفلسطينيّين، الأمر الذي اعترف به معظم العالم (باستثناء الولايات المتحدة) منذ منتصف السبعينيات، لا يُلزِم إسرائيل بأي تنازلات للشعب الفلسطينيّ. وما يُلزِمها به لا يتعدَّى سيناريو يرتّب على الحكومة الإسرائيليّة، إنْ هي رغبت في التحدث مع «مُمَثِّلين» عن الفلسطينيّين، أن تتحدث مع منظمة التحرير الفلسطينيّة، لكونها باتت تعترف بها الآن طرفاً مُمَثِّلاً لهم، بينما لم يكن مثل هذا الاعتراف قائماً في السابق. وهذا هو السبب الحقيقيّ وراء تردّد الحكومات والقادة الإسرائيليّين المتعاقبين في ما إذا كانوا سينعمون على الفلسطينيّين بحقّ إقامة دولة مستقلة، مستندين دائماً إلى اتفاقيّة أوسلو والاتفاقات اللاحقة التي لم تقدم فيها إسرائيلُ للفلسطينيّين أيّ تعهدٍ من هذا القبيل. بعدما انتزع الإسرائيليّون اعترافاً ثميناً بشرعيّتهم من ضحاياهم، مضوا قدماً، من خلال آلية عمليّة أوسلو للسلام، لتقسيم الفلسطينيّين إلى مجموعات مختلفة، طُردت غالبيتُها خارجَ عمليّة السلام. ومن خلال تحويل منظمة التحرير الفلسطينيّة، التي مثلت جميع الفلسطينيّين في الشتات وداخل إسرائيل وفي الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشرقيّة، إلى السلطة الفلسطينيّة، التي كان أقصى ما طمحت إليه هو تمثيل فلسطينيّي الضفة الغربيّة وغزة، الذين لا يمثّلون سوى ثلث الشعب الفلسطينيّ، فقد هَندَسَت اتفاقيّات أوسلو اختزالاً ديموغرافيّاً عظيماً للشعب الفلسطينيّ، خافضةً عدده إلى الثلث، فيما أحدثت نموّاً ديموغرافيّاً كبيراً في عدد السكان اليهود في إسرائيل، مضاعفةً عددهم ثلاثة أضعاف. يتمثل مكرُ هذه العمليّة في أنه كيّف للسلطة الفلسطينيّة، المدركة لهذا التحوّل، أن تواصل الحديث باسم «الشعب الفلسطينيّ»، الذي لا تزال تدعي أنها تمثله، بالرغم من أنه اختُزل من خلال اتفاقات أوسلو إلى فلسطينيّي الضفة الغربيّة وغزة فقط. وببساطة، فإنه يُشار إلى فلسطينيّي الشتات، وفقاً للّغة الإسرائيليّة والأميركية السائدة، بـ«اللاجئين»، فيما يطلق على فلسطينيّي إسرائيل بموجب الإملاءات الإسرائيليّة اسم «عرب إسرائيل». بهذا، فإنه ليس دور القيادة الفلسطينيّة ومكانتها التمثيلية لجميع الشعب الفلسطينيّ ما جرى اختزاله فحسب، بل إنّ الشعب الفلسطينيّ نفسه قد تقلّص ديموغرافيّاً من خلال استملاك السلطة الفلسطينيّة لاسم «الشعب الفلسطينيّ» لإطلاقه على ثلث الفلسطينيّين لا أكثر. في هذه الأثناء، دفعت عمليّة أوسلو، التي أَنتَجَتْ الاتفاقات الشبحيّة، التي من بينها اتفاق جنيف، دفعت قدماً الادعاءَ الإسرائيليّ بوجوب اعتراف الفلسطينيّين بحقّ إسرائيل في الوجود لا فقط في أمن وسلام، لكن أيضاً بحقها في الوجود بوصفها دولة يهوديّة، وهذا يعني أن تكون دولة عنصريّة بموجب القانون وأن تميِّز بموجب مواد القانون وطبيعة الحكم ضدّ المواطنين غير اليهود. ويشمل ذلك الاعتراف بأنها ليست دولة لمواطنيها اليهود وحسب، بل دولة اليهود في كل أنحاء العالم. وهذا ما أصرّت عليه الإدارات الأميركية المتعاقبة من كلينتون إلى بوش، وصولاً إلى أوباما أخيراً. ولا تفوِّت إدارة أوباما في الواقع فرصة لإعادة تأكيد التزامها بإجبار الفلسطينيّين على الاعتراف بحقّ إسرائيل في أن تكون «دولة يهوديّة». ورغم أن إسرائيل لا تملك أيّةَ شرعيّة وغير معترف بها من أيّ هيئة دوليّة بوصفها «ممثلاً» لليهود في جميع أنحاء العالم، بل كدولة للشعب الإسرائيليّ، الذين هم مواطنون فيها، فإنّ منظمة التحرير الفلسطينيّة والسلطة الفلسطينيّة مطالبتان بالاعتراف بسيادة إسرائيل على يهود العالم. وهكذا، فبينما تقلَّصت المكانة التمثيلية المعترف بها دوليّاً لمنظمة التحرير الفلسطينيّة ممثلةً للشعب الفلسطينيّ كلّه إلى ثلث عدد الفلسطينيّين منذ أوسلو، تنامت المكانة التمثيلية للحكومة الإسرائيليّة لتشمل ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل أوسلو، وهو ما اعترف لها به الممثلون غيرُ الرسميّين للسلطة الفلسطينيّة في جنيف. يصرّ بنيامين نتنياهو على أنه لن يُحرَز أيُّ تقدم في ما يسمى «عمليّة السلام»، ما لم يعترف الفلسطينيّون رسميّاً بحقّ إسرائيل في أن تكون دولة يهوديّة عنصريّة. كذلك، دعا الرئيس أوباما أيضاً جميع العرب إلى التصديق على هذا الاعتراف رسميّاً. وقد تمَّ ذلك على الرغم من حقيقة كون غالبية اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل ليسوا مواطنين إسرائيليّين، كذلك ليس من الهيئات التي تمثلهم في أيّ وقتٍ مضى هيئة مَنَحَت الدولةَ الإسرائيليّةَ الحقّ في تمثيلهم. تواكبت عمليّة تقسيم الشعب الفلسطينيّ وتقليصه ديموغرافيّاً مع عمليات تقليص أرض فلسطين جغرافيّاً، أو بالأحرى تقليص تلك الأجزاء منها التي استعدت إسرائيل للتفاوض على إعادة انتشار قوات احتلالها العسكريّ الاستعماريّ فيها. فقد استثنيت القدس الشرقيّة المستعمرة والمحتلّة التي مُدّدت مساحتها بصورة مخالفة للشرعيّـة الدوليّة (حيث تضاعفت مساحتها عدة مرات عن مساحتها الأصليّة على حساب أراضي الضفة الغربيّة) من الأراضي التي استعدت إسرائيل للتفاوض على إعادة الانتشار فيها، كذلك قُسِّمت الضفة الغربيّة إلى كانتونات تستثني من هذه المفاوضات كذلك المستوطنات الاستعماريّة اليهودية والطرق السريعة المقصورة على استخدام اليهود، التي تربط بين هذه المستوطنات، وما فرضته من محميّات طبيعيّة، ومناطق عسكريّة مغلقة. لكن هذا ليس كل شيء؛ فقد بنتت إسرائيل أيضاً جدار الفصل العنصريّ داخل الأراضي الفلسطينيّة، الذي يزيل فعلياً 10 في المئة من مساحة الضفة الغربيّة من تلك الأراضي التي قبلت التفاوض عليها، وكذلك من عمليات إعادة انتشار جيشها فيها. وقد تمثلت أهم التدابير الأخرى التي حرص مهندسو اتفاق أوسلو من الإسرائيليّين والفلسطينيّين على اتخاذها لضمان الاستمرار البنيوي لـ«عمليّة أوسلو للسلام» بإنشاء بنى ومؤسسات وطبقات مرتبطة بهذه العمليّة مباشرة، لديها القدرة على البقاء والاستمرار، ولو انهار اتفاق أوسلو نفسه، ما دامت قد حافظت على «العمليّة» التي تمخضت عن هذا الاتفاق. وقد كُرّست هذه الضمانة قانوناً، واعتمدت من التمويل الدوليّ شرطاً لاستمرار «عمليّة أوسلو»، ما دامت تخدم هذه الأخيرة المصالحَ الإسرائيليّة والأميركيّة ومصالحَ النخبة الفلسطينيّة الفاسدة التي قبلت بها. أما الطبقات الخمس الرئيسية التي أنشأها مهندسو اتفاقيّات أوسلو لضمان استمرار «العمليّة»، فهي: طبقة سياسيّة، مقسمة بين أولئك الذين انتُخبوا لخدمة عمليّة أوسلو، سواء في المجلس التشريعيّ أو السلطة التنفيذيّة (وأساساً مركز رئيس السلطة الفلسطينيّة)، وأولئك الذين يُعيّنون لخدمة الذين يُنتخبون، سواء في الوزارات أو في مكتب الرئاسة؛ طبقة شُرَطيّة، يبلغ تعداد منتسبيها عشرات الآلاف، وتتمثل مهمتها في الدفاع عن عمليّة أوسلو ضدّ أيّ فلسطينيّ قد يهدد بقاءها. وهي مقسمة إلى عدد من الأجهزة الأمنيّة والاستخباريّة تتنافس في ما بينها، كلٌّ يعمل لإثبات أنه الأكفأ في القضاء على أيّ تهديد لعمليّة أوسلو. وقد دشّن فريقٌ من هذه الطبقة خدماته، أثناء سلطة عرفات، بإطلاق النار وقتل 14 فلسطينيّاً عدّوهم أعداءً لـ«العمليّة» في غزة في عام 1994، وهو الإنجاز الذي أكسبهم احترام الأميركيّين والإسرائيليّين الذين أصرّوا على ضرورة أن تَستخدمَ هذه الطبقةُ الشُرَطيّةُ المزيدَ من القمع لكي تكون أكثر فعاليّة. أما أحدث مثال على أدائهم، فقد تمثّل بقتل أعضاء من حماس وبعض المارّة غير المنتسبين الصيف الماضي في جنين، في محاولة لاسترضاء الرئيس أوباما الذي طالب القيادة الفلسطينيّة بالالتزام بالشق الأمنيّ من اتفاقها مع إسرائيل. ثالثاً، طبقة بيروقراطيّة: مرتبطة بالطبقة السياسيّة والطبقة الشُرَطيّة وتتألف من جهاز إداري يضم عشرات الآلاف من الأفراد الذين ينفذون أوامر الأعضاء المنتخبين والمعينين لخدمة «العمليّة»؛ رابعاً، طبقة المنظمات غير الحكوميّة: وهي طبقة بيروقراطيّة تكنوقراطيّة يعتمد تمويلها بالكامل على ما تقدمه من خدمات لعمليّة أوسلو لضمان نجاحها من خلال التخطيط والخدمات؛ وأخيراً، طبقة تجاريّة تتألف من رجال أعمال فلسطينيّين من الشتات، إضافة إلى رجال الأعمال المحليين ـــــ وتشتمل على أعضاء من الطبقات السياسيّة والشُّرَطيّة والبيروقراطيّة ـــــ ويعتمد دخلهم جميعاً على الاستثمارات الماليّة في عمليّة أوسلو، والصفقات الرابحة التي يمكن السلطة الفلسطينيّة ضمانها. وفيما لا تتلقى طبقة المنظمات غير الحكوميّة في الغالب تمويلاً من السلطة الفلسطينيّة، حيث تنعم بالسخاء التمويليّ للمنظمات الحكوميّة وغير الحكوميّة الأجنبيّة المرتبط هيكليّاً بعمليّة أوسلو، فإنّ الطبقات السياسيّة، والشُّرَطيّة، والبيروقراطيّة تتلقى جُلَّ دخلها الشرعيّ وغير الشرعيّ من السلطة الفلسطينيّة مباشرة. وبربطهم لسبل عيش مئات الآلاف من الفلسطينيّين بعمليّة أوسلو، منح مهندسو العمليّة هذه الجموع أسباباً جوهريّة للالتزام بالمحافظة على استمرار «العمليّة»، وإن لم تؤدِّ إلى أية نتائج سياسيّة. أما المهمّة الرئيسية للنخبة السياسيّة التي تربعت على عرش السلطة الفلسطينيّة، فقد تمثلت بضمان استمراريّة عمليّة أوسلو، وضمان سيطرة هذه النخبة على كل المؤسسات التي تضمن استمراريّة «العمليّة». لكن ما لم تتوقعه هذه النخبة هو أن تفقد زمام الأمور لمصلحة حركة حماس، المعارضة الرئيسية لعمليّة أوسلو، التي قاطعت كما كان متوقعاً منها انتخابات عام 1994 التي كانت تسيطر عليها حركة فتح من خلال لعبة تقسيم الدوائر. أما انتخابات عام 2006، التي كانت فتح واثقة من الفوز بها، فقد أحدثت الزلزال الذي يمكن أن يدمّر كل هذه الضمانات الهيكليّة ومعها «العمليّة» برمتها التي صُمِّموا لحمايتها. وهذا ما يفسّر ذعر الأميركيّين الذين هندسوا عمليّة الانقلاب بمساعدة إسرائيل وأمن السلطة الفلسطينيّة برئاسة محمد دحلان لإسقاط حكومة حماس، التي اشتملت على خطف أعضاء من حماس: ممثلين في المجلس التشريعي ووزراء في الحكومة وسياسيّين واعتقالهم رهائن في السجون الإسرائيليّة، وأخيراً، المحاولة العنيفة للاستيلاء على قطاع غزة التي فشلت فشلاً ذريعاً. وقد ركّزت كل المحاولات منذ الانقلاب الأميركيّ الفاشل في قطاع غزة على استمرار عمليّة السلام من خلال الحفاظ على هياكلها تحت سيطرة السلطة الفلسطينيّة، وبعيداً عن متناول أيدي حماس المنتخبة ديموقراطيّاً. وهكذا، فقد أصرّت إسرائيل والأميركيّون على أن تقويض الديومقراطيّة الفلسطينيّة هو الثمن الضروريّ الذي يجب على الفلسطينيّين دفعه، وهو ما مضوا به قدماً من خلال جهود الجنرال كيث دايتون العسكريّة. لقد أصبح هذا الوضع ممكناً نتيجة الاستراتيجية التمويليّة التي تبنتها الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربيّة المنتجة للنفط تجاه النضال الفلسطينيّ. فحكاية الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لا يمكن سردها إلا من خلال سرد تاريخ وسائل ومحاولات الحكومات العربيّة وغير العربيّة للسيطرة عليها. فبينما أنشئت منظمة التحرير الفلسطينيّة ورضخت مبدئياً لسيطرة نظام جمال عبد الناصر، إلا أن هزيمة عام 1967 قد أدت إلى إضعاف هذه الترتيبات، ما قاد إلى استيلاء حركات الفدائيين الثوريّة على المنظمة في عام 1969. ومع اعتلاء فتح وحركات الفدائيين اليساريّة الفلسطينيّة سدّة المنظمة، أصبحت الإمكانات الثوريّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة تمثّل تهديداً لم يلبث أن أدى إلى اندلاع حرب شاملة في الأردن في عام 1970، وهي حالة لم ترغب الأنظمة القمعيّة العربيّة برؤيتها تتكرر في سياق آخر. في سبيل ذلك، أخذت أموال النفط العربيّة (من كلّ من: المملكة العربيّة السعوديّة، والكويت، وليبيا، والإمارات العربيّة المتحدة والعراق) تتدفق على خزينة منظمة التحرير الفلسطينيّة، وذلك مبدئياً لضمان أنّها لن تشجع أيّ تغيير ثوريّ في البلدان العربيّة، وأن قواتها لن تتعرض لمصالح الأنظمة العربيّة، بحيث تكون بنادقها موجَّهة حصراً نحو إسرائيل. ظلت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ودور منظمة التحرير الفلسطينيّة فيها، في النصف الثاني من عقد السبعينيات، تمثّل مشكلة للأنظمة العربيّة، لكن بقدر ما كانت هذه الأنظمة تشعر بالقلق، إلا أنها كانت قادرة على احتوائها. ومع حلول عقد الثمانينيات، وإثر الهزيمة العسكريّة التي منيت بها منظمة التحرير الفلسطينيّة في عام 1982 في بيروت، لم يعد التمويل العربيّ لمنظمة التحرير الفلسطينيّة مشروطاً بعدم توجيه أسلحتها إلى الأنظمة العربيّة فحسب، بل فُرضَ على المنظمة أن تتوقف عن استهداف إسرائيل أيضاً. وقد مثلت المحاولات المختلفة لإبرام اتفاقات بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والملك حسين في منتصف الثمانينيات جزءاً من هذه الخطة. ومع مواصلة إسرائيل والولايات المتحدة رفضهما التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينيّة، بغضّ النظر عن مدى التغيّرات التي لحقت بسياستها وأيديولوجيّتها، بقي الوضع مجمّداً حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى في عام 1987 التي منحت منظمة التحرير الفلسطينيّة الفرصة للمساومة على إلقاء سلاحها الموجّه إلى إسرائيل. وقد جرى ترسيم هذا التحوّل في الجزائر في عام 1988، ولاحقاً في مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991. وبعدما جفّ التمويل النفطي إثر حرب الخليج عام 90 ـــــ1991، أصبحت منظمة التحرير الفلسطينيّة بحاجة إلى مموِّلين جدد. وهنا دخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الذين لم تقتصر شروطهم على إبرام اتفاق أوسلو فحسب، بل اشتملت أيضاً على وجوب تسليح السلطة الفلسطينيّة التي أنشئت حديثاً، المهيمَن عليها من حركة فتح، على أن يكون لهذه الأسلحة هدف جديد: ألا وهو الشعب الفلسطينيّ نفسه. وقد التزمت السلطة الفلسطينيّة بتنفيذ ذلك، واستمرت بتلقّي التمويل حتى اندلاع الانتفاضة الثانية، عندما قامت مجموعة من قواتها الأمنيّة، خلافاً لمقتضى وجودها، بتبادل إطلاق النار مع الإسرائيليّين عندما هاجم الأخيرون الفلسطينيّين. شحَّ التمويل نتيجة هذه الأحداث، وأصبح متقطعاً، ووُضع عرفات تحت الإقامة الجبرية، وأعادت إسرائيل اجتياح الضفة الغربيّة. وبعد وفاة عرفات استؤنف التمويل مشروطاً «بجدية» محمود عباس بتحويل فوّهات البنادق الفلسطينيّة باتجاه الفلسطينيّين أنفسهم، وهو ما نفّذه عباس فعلاً بمشاركة أجهزته الأمنيّة العصاباتيّة. ومع ذلك، فإنّهم لم يكونوا ناجعين بالقدر الذي كانت ترغب فيه الولايات المتحدة وإسرائيل، ما دفع الجنرال دايتون إلى تولي السيطرة الكاملة على الوضع العسكريّ على الأرض لـ«مساعدة» الفلسطينيّين على تسليم الحصة المنوطة بهم من السلام إلى إسرائيل. ومن الجدير بالملاحظة، أنه طوال الأعوام الستة عشر الماضية، دأب القادة الإسرائيليّون على التأكيد أنّهم، وفقاً لصيغة الأرض مقابل السلام، يريدون ويسعون إلى تحقيق السلام مع الفلسطينيّين، لا إلى إقامة دولة فلسطينيّة، أو ضمان حقّ الفلسطينيّين في تقرير المصير. وبالفعل، ضاعفت إسرائيل عدد المستوطنات الإسرائيليّة وعدد المستوطنين الاستعماريّين اليهود في الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة ضعفين، مقتطعة بذلك المزيد من الأراضي التي كان يجب أن تكون جزءاً من المفاوضات. وواصلت إصرارها على انتزاع المزيد من التنازلات الفلسطينيّة لضمان «أمن» إسرائيل وعلى وجوب أن يمنحها الفلسطينيّون «السلام» بموجب صيغة «الأرض مقابل السلام». كذلك، أصرّ الأميركيّون والأوروبيّون على أن على الفلسطينيّين تقديم السلام لإسرائيل حتى قبل أن تقرِّر الأخيرة أيّ جزء من الأراضي ستعيده إلى الفلسطينيّين، وأي نوع من الترتيبات ستختار لضمان هذا «السلام». بناءً على ذلك، فإن ما جلبته صيغة الأرض مقابل السّلام ـــــ على الرغم من أن نتيجة تحيّزِها التعريفيّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ ـــــ كانت تأجيلاً دائماً لإعادة الأرض مع مطالب ملِحّة للحصول على دفعات على الحساب من ثمن السلام الذي على الفلسطينيّين دفعه لإسرائيل. وفيما تسوِّق إسرائيلُ إعادةَ انتشار جيشها في قطاع غزة وفرض الحصار على سكانه وتجويعهم وقصفها لهم على أنه تنازل إسرائيليّ بإعادة جزء من الأراضي للفلسطينيّين، تظلّ الحقيقة هي أن قطاع غزة حوِّل من سجن يسيطر عليه الإسرائيليّون إلى معسكر اعتقال محروس ومحاصر إسرائيليّاً من الخارج مع إمكان اجتياح القوات الإسرائيليّة له كلما دعت الحاجة لذلك، كما فعلت في الشتاء الماضي. في نهاية المطاف، فإنّ ما حققه اتفاق أوسلو والعمليّة التي انبثقت منه كان إغلاق الباب في وجه أيّ استقلالٍ مستقبليٍّ، حقيقياً كان أو متخيلاً للقيادة الفلسطينيّة، أو حتى الاستقلال الوطنيّ لثلث الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة الذين هم، على أيّ حال، الفلسطينيّون الوحيدون الذين يزعم اتفاق أوسلو أنه جاء لمساعدتهم على تحقيقه. وبِرَهْنِها القيادةَ الفلسطينيّةَ لرعايةِ الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال إنشاء وإدامة الهياكل الإداريّة والقانونيّة والماليّة التي تضمن هذه التبعيّة، فإن أوسلو تكون قد حققت ما صُمِّمت لتحقيقه من البداية: بأن تكون آلية لوضع حدٍّ لنضالِ الفلسطينيّين لإنهاء الاستعمار والاحتلال الإسرائيليّين، وإضفاء الشرعيّة على الطبيعة العنصريّة لإسرائيل من الشعب ذاته الذي تمارس عليه حكمها الاستعماريّ والعنصريّ. وكلُّ من تسوِّل له نفسه مساءلة هذه القيود يكون عرضة لنيران أسلحة الأيديولوجيّة البراغماتيّة (الواقعيّة). فمعارض أوسلو ليس سوى امرئ طوباويّ ومتطرف ورافض، في حين أن من يساهم في هياكلها هو إنسان واقعيّ ومعتدل يعمل من أجل السلام. وقد كان هذا بالتحديد هو السلاح الأيديولوجيّ الأكثر فعالية من بين ما أنتجته أوسلو منذ عام 1993، حيث رأت أن أيّ شخص يعارض التنازل الكامل عن الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة ليس سوى داعية حرب، ومعارض للسلام. باختصار، إنّ الهدف من عمليّة أوسلو، الذي تحقق بكل نجاح، لم يكن تعطيل تحقيق الاستقلال الفلسطينيّ عن الاحتلال الإسرائيليّ غير المشروع فحسب، بل إنهاء الاستقلال الفلسطينيّ بوصفه هدفاً مستقبليّاً أو حقيقة راهنة. وعند النظر إلى عمليّة أوسلو من هذه الزاوية، نرى بوضوح أنها مثّلت ولا تزال تمثّل نجاحاً باهراً. )هذا المقال هو نص خطاب ألقاه الكاتب في مؤتمر عُقد في أوسلو نهاية عام 2009(. * أستاذ السياسة والفكر العربيّ المعاصر في جامعة كولومبيا. وقد صدر له أخيراً عن دار الآداب كتاب «ديمومة المسألة الفلسطينيّة». جوزيف مسعد الأخبار اللبنانية


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني