PCP

يا عمال العالم اتحدوا

الأمن والسلم بعيون إسرائيلية

الأمن والسلم بعيون إسرائيلية الأمن ، ولا شك ضرورة حياتية لتحقيق الطمأنينة والاستقرار والتطور والتنمية لدى الأفراد والجماعات البشرية . والشعور بالأمن يتولد لدى الفرد أو المجتمع عند الإحساس أنه بمنأى عن التهديد الناجم عن أخطار قائمة أو محتملة ، داخلية أو خارجية. وحت يتسنى للفرد أو المجتمع بالأمن لا بد من إزالة أسباب الأخطار المحدقة به أو القائمة في أعماقه ومن هنا ، فإنه من الأهمية بمكان البحث عن أسباب عدم الشعور بالأمن لدى الفرد أو المجتمع حتى وإن توافرت وسائل دفع الأخطار التي تهدده ولا سيما الخارجية منها. ولادة غير طبيعية إسرائيل ، ككيان أقيم على أرض فلسطين ، بل وفي قلب الوطن العربي ، انبثقت إلى حيز الوجود بشكل غير طبيعي ، وذلك بالقوة وبقرار من دول إمبريالية تلاقت مصالحها ووجهات نظرها الاستراتيجية ، والايديولوجية إلى حد ما ، مع الصهاينة ، وزرعت على أنقاض شعب آخر هو شعب فلسطين الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ منذ آلاف السنين وحتى قبل أن يظهر بني إسرائيل أو اليهود في التاريخ البشري بآلاف السنين أيضا. وهذا الكيان توافرت له أسباب الحياة بفضل الدعم والمساندة غير المحدودين من الدول الإمبريالية المنتصرة في الحربين العالميتين الأولى والثانية . وبسبب الضعف الذي كان يعاني منه الشعب الفلسطيني والعربي والمسلم إثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب وتقسيم أراضيها بين المنتصرين في هذه الحرب. من هنا ، فقد لاقت الصهيونية الدعم السياسي والذي تمثل بقرار الأمم المتحدة بإقامة دولة إسرائيل. والبشري الذي تمثل بتسهيل هجرة اليهود من أوروبا وأمريكيا وأصقاع الأرض الأخرى إلى فلسطين . والعسكري والذي جاء بتوفير السلاح بأنواعه من قبل الدول المؤيدة لفكرة قيام دولة إسرائيل ، والجماعات والتنظيمات المسلحة الصهيونية على الأرض الفلسطينية. وكذلك حرمان الشعب الفلسطيني من أسباب الدعم التي لو توافرت له لكان صمد ودافع عن وطنه، الأمر الذي أدى إلى فرض قيام كيان استطاني إحلالي تفريغي على جزء كبير من أرض فلسطين التاريخية . وقد أخذ هذا الكيان في التوسع العسكري حتى تم التوقيع على اتفاقية الهدنة عام 1948 ، بعد قتل وتشريد آلاف الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم وتحويلهم إلى لاجئين. لم يقف الأمر ، كما هو معلوم ، عند هذا الحد بل إن العدوان الإسرائيلي عام 1967 ، قد أدى إلى وقوع كامل أرض فلسطين التاريخية ، إضافة إلى سناء والجولان ، في قبضة إسرائيل. وإذا كانت حرب 1948، قد هدفت إسرائيل منها إلى فرض وجودها ، فإن حرب 1967، قد هدفت إلى تثبيت هذا الوجود . وكانت حروب إسرائيل اللاحقة تهدف إلى توسيع الكيان وتثبيت أركانه وفرض الهيمنة الإقليمية أيضا. نزعة انعزالية وككيان مرفوض ، رفضت إسرائيل الانصياع إلا لما تراه وتحلم به ، بل ولم تفكر بأن تصبح في المستقبل جزء من المنطقة التي زرعت فيها ، وهذا ما عبر عنه بن غورين بقوله: " نحن شعب أوروبي ، وهذه المنطقة موجودة بالصدفة إلى جانبنا ، ولكننا لسنا جزءا منها". وإزاء ذلك لجأت إسرائيل إلى القوة والتوسع لفرض هيمنتها على المنطقة ، الأمر الذي جعل منها كيانا عسكريا ، وبعبارة أخرى جيش له دولة. وأصبح الجيش الإسرائيلي هو "درع داوود" الذي يحمي الدولة ويضمن استمرار بقائها ، ولم تكن هناك حاجة ماسة إلى الكثير من "حكم سليمان" في إستراتيجة الأمن القومي الإسرائيلي. لم يتم بناء القوة العسكرية الإسرائيلة لتأمين الدفاع عن السيادة اليهودية، كما يرى الإسرائيليون ، وإنما أيضا كأداة لوضع علاج لعدة أمراض من أمراض الأمة اليهودية ، وعلى حد تعبيرهم فقد أرادوا للمؤسسة العسكرية أن تكون وعاء لصهر الجاليات اليهودية التي تم تجميعها ، لتثقيف الجهلاء ، ولتكون مصدر تطور تربوي وتكنولوجي فالجماعات البعيدة عن المركز في الدولة تحتاج إلى الإندماج في المجتمع وعلى قدم المساواة وكذلك فإن الرغبة في الخدمة في الجيش ظلت مقياسا في التميز بين الأشخاص الجيدين وغير الجيدين، فالمجتمع الإسرائيلي لا يوازي بين ما يمكن أن يسهم به سائق إسعاف وما يقوم به مجند إلزامي. لا شك أن الجيش كلما كان جيشا وحسب كان تأثيره في الحياة المدنية أقل ، وكان هذا الرأي وهذا التوجه يصعب على الإسرائليين قبوله ، وذلك لأن قوة الجيش الإسرائيلي هي الضمان الرئيسي لأمن إسرائيل ، كما يؤمن الإسرائيليون . ومن بين الأسباب الداعية لاستعداد أفراد المجتمع الإسرائيلي للبقاء في الجيش ، إن هذا الجيش يتيح أحيانا العمل في مشاريع متقدمة أو هامة أكثر من تلك القائمة في الصناعة المدنية. ومن هنا ، فإننا أمام كيان يمجد القوة والعنف ويعتبر الجيش فيه أسمى مؤسسات المجتمع لأنه يقوم بأكثر من مهمة الدفاع عن الكيان . وهكذا، فنحن أمام كيان هو في حقيقته كيان عسكري ، كما عبر عن ذلك اسحق مردخاي بقوله: " في أوقات الطوارىء وإزاء تهديدات واضحة للكل ، فإن جميع الإسرائيليين ، مدنيين وعسكريين يتركون خلافات الرأي بينهم جانبا ويتجندون كرجل واحد للدفاع عن الدولة ، وحتى في ظروف الهدوء في المنطقة فإن إسرائيل تضطر للعمل بموجب قاعدة : الذي يرغب بالسلام لا بد أن يستعد للحرب". علاقات عسكرية ـ عسكرية ليس من الغريب في كيان قام بالشكل الذي قامت به إسرائيل أن يكون هناك ارتباط وثيق ، بل وتداخل ، بين السياسة والجيش ، وأن تحيط الانتصارات التي حققها الجيش الإسرائيلي في حروبه القادة العسكريين الإسرائيليين بهالة من الكاريزما بحيث أصبح ينظر إلى القيادة العسكرية الإسرائيلة على أنها الوحيدة التي تمثل المصلحة القومية العليا، بل والحريصة عليها ، في الوقت الذي أصبح ينظر فيه إلى القيادات المدنية المنتخبة على أنها تمثل مصالح آنية . وبناء على ذلك ، فقد أصبح هناك ميل غريزي لدى وزراء الحكومة والجمهور العادي لتقبل وجهة نظر وآراء الاستخبارات العسكرية وكأنها شريعة موسى القادمة من سيناء ، ناهيك عن الجيش وأفكاره ، لأن الزي العسكري أصبح هو الذي يصنع الإنسان لدى الجمهور الإسرائيلي. ولهذا ، فإنه لم يعد هناك فصل بين السياسة والعسكري في ذهنية وعقلية الجمهور الإسرائيلي ، وكأنهم ينسون أن رؤساء الأركان وكبار ضباط الجيش والجنرالات ما هم إلا سياسيون في زي عسكري. فبارك الذي عارض أوسلو ، مثلا ، كان رئيس لهيئة الأركان ثم نزع ملابسه العسكرية ليقاتل على الحلبة السياسية . وشاحاك الذي دعم عملية السلام اجتاز الخطوط بسرعة وانتقل للبرهنة على دعمه للعملية السلمية في المجال المدني والسياسي ، وكذلك موفاز وفلنائي وداني ياتوم وعاموس جلعاد الذي كان يغذي حكومات إسرائيل بالمعلومات حول ميول السلطة الفلسطينية في العقد الأخير ، وهو الذي بلور التقيم والرؤية الاستخبارية حول ما يحدث في العراق . وفي الماضي أسس بعض القادة العسكرين الإسرائيليين أحزابا مثل ديان (حزب رافي) ، شارون (حزب سلام صهيون) ، يغال يادين (حزب الحركة الديمقراطية) وغيرهم. ينص القانون الأساسي في إسرائيل على أن القيادة العليا هي لحكومة إسرائيل جميعها ، ووزير الدفاع يمارس مهامه بتفويض من الحكومة . ولهذا ، فإن معظم وزراء الدفاع يرون أنفسهم كممثلين للمؤسسة الدفاعية مقابل النظام السياسي . كما أن عدم وجود قائد أعلى للجيش وعدم وجود حدود واضحة للسلطة بين رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان خلق ظروفا مواتية لرئيس الأركان لزيادة تأثيره على الحكومة . ومن هنا ، فإن المقولة المشتركة التي يتفق عليها ضباط الجيش هي : السياسة الخارجية يجب أن تخدم السياسة الدفاعية. أمن القوة لم تشمل العسكرة الجوانب السياسة في المجتمع الإسرائيلي وحسب ، ولكنها شملت جوانب المجتمع الأخرى بما في ذلك الثقافة والاقتصاد والصناعة وغيرها . ولما كان الاستناد إلى القوة في فرض الوجود ، فإن التفوق على الخصم في مجال هذه القوة أصبح لا مفر منه لاستمرار هذا الوجود . ولهذا ، لم تلجأ إسرئيل إلى بناء الجيش القوي وعسكرة المجتمع بل ورأت أن تفوقها النوعي يكون بكميات الأسلحة الضخمة والصناعة المعقدة والثقافة العسكرية التي ترى في التدريب والطاقة البشرية النوعية والقدرة على الصمود أهمية توازي أهمية السلاح. وفي مجال الردع استندت إسرائيل إلى بناء قوة نووية ضخمة وحافظت على سياسة التعتيم في هذا المجال لأن سمات السلاح النووي أنه سلاح سيكولوجي يهدف إلى الردع وإعطاء صورة عن التفوق العسكري . وهذان المرتكزان لهما أهمية دائمة في تجسيد الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك ، فإن سياسة التعتيم النووي أتاحت لإسرائيل منع حدوث نقاش جماهيري داخلي حول هذه السياسة ، فالقرارات المتعلقة في هذا المجال تتخذها مجموعة قليلة من صانعي السياسة وربما لم يكن معظم أعضاء الحكومة مشاركين في هذا السر. ويرى الخبراء الإسرائيليون أن قدرة إسرائيل على توجه الضربة النووية الثانية ، والمعروفة باسم "الرد الانتقامي بعد الدمار" تهدف إلى ضمان أن إسرئيل وبعد أن تمتص الضربة الأولى تستطيع أن ترد بسلاح نووي وتبيد الخصم المهاجم . وهذه القدرة ، كما يرى الإسرائيليون المختصون ، تشكل قاعدة التوازن في التهديد النووي . بالإضافة إلى ما سبق في بناء القوة ، لجأت إسرائيل إلى توفير الدعم الخارجي القوي بشكل ثابت لا يتزعزع ، وذلك لتعزيز أمنها وهيمنتها ولتحقيق المزيد من الطمأنينة لها . وقد وضع بن غوريون الاستناد إلى الدعم الخارجي لإسرائيل من الولايات المتحدة على سلم أولويات إسرائيل ، حيث رأى أن مصلحة إسرائيل تكمن أولا في وجودها ثم في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية ، ولا غرابة إذا ما ظل الإسرائيليون الآخرون ينظرون بذات العين التي نظر منها بن غورين . فأمير اورون ، يرى أن قوة إسرائيل تستند إلى منظمتين يهوديتين هما : الجيش الإسرائيلي ، والايباك (اللوبي اليهودي في واشنطن) . فالايباك ، شأنه في ذلك شأن جيش جنوب لبنان ، يعمل في الساحة الأمريكية كمليشيا تقيم علاقة مع إسرائيل ، وهو متوائم مع الروح العامة لتوجهات الحكومة الإسرائيلية ، الولايات المتحدة ، كما يرى يونيل ماركوس ، المحلل العسكري الإسرائيلي، تجلس على خزينة الأموال ولديها القدرات التكنولوجية ، ولا يمكن لإسرائيل ردع استراتيجي دونها. ولاستشعار المزيد من القوة للإحساس بمزيد من الأمن شرعت إسرائيل في استيطان المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، واستقدمت إليها قوة بشرية من المهاجرين ملتهمة جزءا كبيرا من الأراضي الفلسطينية ، وكان وراء نشرعها الاستطاني ثلاثة اعتبارات هي: أولا: الاعتبار الاستراتيجي : وذلك لتكون المستطوطنات القائمة ورقة رابحة بيد إسرائيل عندما يكون هناك حل سياسي في المستقبل تتحدد من خلاله حدود إسرائيل , ثانيا، الاعتبار الردعي: فقد أقيمت كثير من المستطوطنات كخطوة عقابية وردعية في أعقاب أعمال "إرهابية" فلسطينية حسب تعبيرهم ، وفي ذلك رسالة موجهة للفلسطينين مفادها: إذا لم تمتنعوا عن الأعمال "التخريبية" ضد إسرائيل فإنها ستقيم مستطوطنات دائمة بالقرب منكم وبذلك نقلل مساحة المنطقة التي سيتم التفاوض بشأنها في المستقبل . ومن خلال هذا الطرح يبدوا واضحا أن لغة القوة والهيمنة هي اللغة التي تتعامل بها إسرائيل مع خصومها وأعدائها الذين هم جيرانها دون مراعاة لأي أعراف دولية. ثالثا، تجسيد حلم " أرض إسرائيل الكاملة" : وهذا الاعتبار سعى إلى تجسيده حزب الليكود منذ توليه السلطة في إسرائيل عام 1977، حيث لجأ إلى إقامة الكثير من المستطوطنات الجديدة وبذرها في كل منطقة حتى لايبقى مكان أو إمكانية لإقامة وحدات الحكم الذاتي الفلسطيني ولتغير الطابع الفلسطيني للمنطقة. مما تلجأ إليه إسرائيل لتأكيد قوتها واستشعار الأمن لديها وكجزء من إستراتيجيتها العسكرية ، توجيه الضربات الاستباقية ونقل المعركة إلى أرض الخصم ، وذلك لإبقاء هذا العدو ضعيفا بحيث لا يتسنى له أية فرصة لاستجماع قواه بشكل يهدد أمن إسرائيل واستقرارها . ولهذا ، فهي تعمل على إبقاء هذا العدو ممزقا وضعيفا ، وتتخذ كافة الوسائل لاختراقه والابقاء عليه مشلول القوى. وحول رؤية إسرائيل للعالم العربي وكيفية التعامل معه في المستقبل ، يمكن الاستشهاد بما قاله شارون في محاضرة ألقاها في صيف عام 1980 ، في مركز الدراسات العسكرية في تل أبيب ونشرت في صحيفة معاريف بتاريخ 18/12/1981 ، فهو يرى أن إسرائيل تصل بمجالها الحيوي أطراف الاتحاد السوفييتي (السابق) شمالا ، والصين شرقا ، وإفريقيا الوسطى جنوبا ، والمغرب العربي غربا . فهذا المجال عبارة عن مجموعات قومية وإثنية ومذهبية متناحرة. ففي باكستان شعب البلوش وإيران يتنازع على السلطة كل من الشيعة والأكراد وهناك المسألة الأرمنية . أما في العراق فمشكلاته تندرج في الصراع بين الشيعة والسنة والأكراد ، في الوقت التي تواحه سوريا مشكلة الصراع السني العلوي . ولبنان انقسام بين عدد من الطوائف المتناحرة ، والأردن مجال خصب لصراع فلسطيني بدوي . وكذلك الأمر في الإمارات العربية الشرقية حيث يكثر الشيعة من ذوي الأصوال الإيرانية . وفي مصر يكمن جو من العداء بين المسلمين والأقباط . أما السودان فحالة مستمرة من الصراع بين الشمال المسلم والجنوب الوثني. والهوة بين البرابرة آخذة في الاتساع في المغرب. إزاء هذه الرؤية وهذه الصورة التي رسمها شارون ، فإن إسرائيل تعمل على تنفيذ برنامج تفتيتي في المنطقة لتبقى هي الأقوى. فقد جاء في دراسة حول إستراتيجية إسرائيل في الثمانينات في القرن الماضي ، نشرتها مجلة ايمونيم (الحقيقة) في عددها الصادر في صيف عام 1981، أنه " في المدى البعيد لا يستطيع العالم العربي البقاء ببيئته الحالية في المناطق المحيطة بنا دون تقلبات فعلية . فلعالم العربي الإسلامي مبني كبرج ورقي مؤقت شيده أجانب (فرنسا، وبريطانيا في العشرينيات من القرن الماضي) دون اعتبار لإرادة السكان وتطلعاتهم . فقد قسم هذا العالم إلى تسع عشرة دولة مكونة من الأقليات والطوائف المختلفة التي تناصب العداء بعضها بعضا . وهكذا فكل دولة عربية اسلامية تتعرض اليوم لخطر التفتيت الإثني الاجتماعي في الداخل لدرجة أن بعضها تدور فيه الآن حروب أهلية. لا شك أن التفتت في العالم العربي والاسلامي يعزز من قوة إسرائيل في الوقت الذي يضعف فيه من قوة خصومها ، ولهذا فإنه ليس من المستغرب أن تحاول إسرائيل إشعال نار الفتن الداخلية بين السكان (المواطنين) في كل دولة عربية ، أو إسلامية ، وتتمنى أن يتفتت هذا الوطن إلى إثنيات وطوائف متصارعة حتى تبرر وجودها كدولة إثنية يهودية ، كما ترى نفسها ، وحتى تبقى هي الأقوى والمهيمنة على هذه الأشلاء المتناثرة والمتصارعة. سلام القوة لم يكن السلام مع الجيران يوما يحتل مكانا متقدما على سلم أولويات إسرائيل . فالسلام مع العرب جاء في المقام الثالث يتقدمه وجود إسرائيل فالعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ، واعتبار السلام مع جيران إسرائيل العرب مصلحة أساسية لإسرائيل هو نظرة خاسرة ، كما يرى بن غورين الذي لم يؤمن يوما بالشرق الأوسط الجديد الذي تندمج فيه إسرائيل مع جيرانها العرب ، لأنه يعتبر الإسرائيلين شعبا أوروبيا. وهكذا ، فإن إسرائيل لا تعتبر السلام هدفا أو ضرورة حيوية لها ، فالآخرون هم الذيم يتوجب عليهم أن يطلبوا السلام من إسرائيل لأنها الأقوى وتستطيع بقوتها أن تفرض على الآخرين ما تريد ، وهذا ما عبر عنه موته غور بعد زيارة السادات للقدس ، حيث قال: " إن قوتنا العسكرية هي التي دفعت السادات إلى اختيار طريق المفاوضات وليس الحرب ، ولهذا فليس هناك إنجاز أعظم للقوة العسكرية من عدم الحاجة إلى استخدامها " . وجدير بالذكر أن غور كان يعتقد في بادىء الأمر أن زيارة السادات إلى القدس ما هي إلا عملية مضللة يتوجب على إسرائيل الحذر منها. المعارك التي خاضتها إسرائيل ضد جيرانها لم تكن إلا لفرض شروطها على المنطقة ، وهذا ما أشار إليه رفائيل ايتان خلال حرب لبنان عام 1982 ، حين قال : " إن معركتنا هي من أجل أرض إسرائيل وليس معركة على بيروت أو من أجل المسيحين ، ونحن نستطيع أن نملي شروطنا من موقف قوي" ، وهكذا ، فإن " إسرائيل لا تصنع السلام بل تمنحه للآخرين " كما يؤكد نتنياهو. وهذه الرؤيا تقوم على فرضية أن العلاقات بين أية دولة عربية والولايات المتحدة يجب أن تمر عبر إسرائيل . وهذا المنطق يعكس العلاقة العضوية بينهما ، ويعكس في الوقت ذاته هشاشة وتشرذم الجانب العربي في الصراع . فأية مفاوضات يمكن أن تكون بين الجانب العربي والإسرائيلي ؟ وما الذي يمكن أن تتمخض عنه في ظل ميزان قوة كهذا؟ وما الذي يمكن أن يجعل القوي يتوقف عند حد معين طالما ظل الضعيف على ضعفه؟ التهديد المقلق الاخطار أو التهديدات الجديدة التي تقلق إسرائيل في محيطها الاستراتيجي الجديد والتي حلت محل التهديدات التقليدية رتبها العميد احتياط شلوم بروم ( وهو من المبادرين إلى تفاهمات جنيف ) كمايلي : تهديد الإرهاب ، وتهديد السلاح الاستراتيجي : الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل . ولا غرابة إذا ما كان التهديد الديمغرافي في مركز الصدارة هنا ، وذلك لأنه يهدد الطابع اليهودي لدولة إسرائيل ، وهذا الطابع الذي يرى كل الصهاينة ضرورة المحافظة عليه لأن الصهيونية وعدت منذ تأسيسها بإقامة دولة يهودية محضة غير مشوبة بالأغيار . فـ بن غورين عندما رأي أنه لابد من الاختيار ما بين وحدة البلاد دون دولة يهودية وبين دولة يهودية دون وحدة البلاد اختار الدولة اليهودية دون وحدة البلاد. صمود الفلسطينيين على أرضهم وتناميهم الطبيعي ينظر إليه الإسرائيليون لخطر يتهدد ليس فقط الطابع اليهودي للدولة وإنما وجودها أيضا . وقد عبر عن ذلك أيهود أولمرت بقوله بأن إسرائيل تقترب من اللحظة التي يتزايد فيها عدد الفلسطينيين المقتنعين بأن ليبرمان هو في مصلحتهم إذ يقول لا مكان لدولتين بين النهر والبحر ، وأن كل ما يريدونه هو الحصول على حق الانتخاب وفي اليوم الذي سنخسر فيه كل شيء. وهكذا ، فإنه إذا ما أضحى التعايش مع الفلسطينيين على رقعة أرض واحدة خطرا لا تحمد عواقبه ، كما يرى الإسرائيليون ، وبات طردهم من أرضهم مستحيلا ، فإنه لم يبق إلا الإنفصال عنهم وتقييدهم بقيود تبقيهم ضعفاء وضمن الهيمنة الإسرائيلية. كان قادة حزب العمل من أمثال بارك ورامون وبن إليعيزر ، هم الذين بادروا إلى فكرة الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيلين ، وكان بارك هو الذي حول فكرة الفصل هذه إلى رؤية سياسية عندما رفع شعاره " هم هناك ونحن هنا " ولكن هذا الشعار سرعان ما تحول إلى " هم هناك ونحن هنا وهناك" كما أشار الصحفي جدعون ليفي الذي يردف قائلا بأن الفلسطينيين أصبحوا محبوسين في غيتوات خلف جدار عازل الذي يقيمه شارون بينما الإسرائيليون يواصلون البقاء على جانبي الجدار الذي يفصل بن الفلسطينيين والفلسطينيين. إنها عقلية الغيتو التي أخذ الإسرائيليون الصهاينة يطبقونها على الفلسطينيين كما كانت لديهم حيث كانوا يعيشون في أوطانهم في الغرب الأوربي قبل قدومهم إلى فلسطين . إن هذا يمكن أن يحقق لهم الهيمنة والسيطرة ويجعلهم يستشعرون المزيد من القوة ويتيح لهم قضم الأراضي الفلسطينية . ولكن هذا لا يمكن أن يجعلهم يستشعرون الأمن والسلام حقا؟ وهل يمكن لم يحرم غيره من الحياة الكريمة والأمن والسلام أن ينعم بالسلام والأمن والطمأنينة؟ قوة السلام وسلام القوة إن السلام والأمن والاستقرار ينبع من قوة السلام وليس سلام القوة . ففي الأولى اعتراف بالآخر وبحقه في الوجود وإمكانية إقامة علاقات معه على مختلف المستويات في العلاقات الانسانية . أما الثانية ، أي سلام القوة ، فليس فيها اعتراف بوجود الآخر وإنما تحكم بمصيره حسب هوى ونزوة المهيمن الطاغي. فهو الذي يفرض كيفية التعامل مع هذا الآخر من خلال ما يفرضه عليه وما يقرره فيما يتعلق بمصيره. إسرائيل لا تزال تتعامل بمنطق القوة مع الآخر، وهذا ما يفسره كثرة حروبها مع المحيطين بها ، وتستخدم كل أشكال العنف والقسوة والتدمير والأرهاب ، لتفرض عليهم إن استطاعت ، وحرب تموز 2006 ، ضد اللبنانيين خير دليل على ذلك ، ناهيك عن حروبها منذ تأسيسها ، ولعل الحرب الأخيرة التي دمرت البنى التحتية والبيوت التي تظلل الفلسطينيين في قطاع غزة ومئات القتلى والجرحى من النساء والأطفال وغيرهم هي خير دليل على المنطق الذي تتحاور فيه إسرائيل مع جيرانها ولفرض ما تراه مناسبا لها. ولعل ارتفاع أسهم اليمين الأسرائيلي ، واليمين المتطرف على وجه الخصوص ، لدى الجمهور الإسرائيلي ، يدلل على مدى تأصل نزعة الهيمنة والسيطرة والاستخفاف بالآخر لدى هؤلاء. وليس أدل على ذلك من الدعم الذي تلقاه الجيش الإسرائيلي في أعمال القتل والتدمير التي قام بها في قطاع غزة في حربه التي بدأت في نهاية العام الماضي ، بل قام حاخامات كثيرون بتوجيه تعليمات للجنود الإسرائيليين بممارسة القتل والتدمير ضد الفلسطينيين مبررين ذلك بفتاوى توراتية. وليس من الغريب أن توزع منشورات على الجنود الإسرائيليين تدعوهم "للحفاظ على أرواحهم وأرواح أصدقائهم وأن لا يعبأوا بالسكان المحيطين بهم لأن هؤلاء غير أبرياء" كما يرى هؤلاء الحاخامات . فهولاء الآخرون يجب أن لا يستفدوا " من قلب إسرائيل الواسع الرحين ". هذه القسوة ضد الآخر الفلسطيني ليست نزوة بل نابعة من إيمان عميق بالتنكر لهذا الآخر وعدم الاعتراف بأي حق له في الوجود. وهذا ما عبر عنه أحد كبار حاخامات إسرائيل وهو الرابي أفنير حيث يقول : " يمكن مقارنة فلسطيني اليوم بفلسطيني الماضي ، فهؤلاء الاخيرون لم يكونوا أصليين بل كانوا غزاة قادمين من أرض أجنبية ، حيث غزوا أرض إسرائيل ، وهي ليست لهم ، وادعوا ملكيتها سياسيا ، وها هي اليوم المشكلة ذاتها تتكرر. فالفلسطينيون اليوم يدعون أنهم يستحقون دولة عربية أو فلسطينية هنا داخل حدود بلادنا ، مع أن معظهم جدد في بلادنا وقدموا إليها في وقت قريب من حرب الاستقلال". مثل هذا التفكير وهذه النزعة ليست لدى بعض الحاخامات المتطريفين بل لدى الكثير جدا في إسرائيل سواء المتدينون أم العلمانيون . والسؤال الذي يطرح نفسه دوما هو : كيف يمكن تحقيق السلام والأمن مع من يفكر تجاه أصحاب الأرض الحقيقيين ، كما تدل كل شواهد التاريخ ؟ وهل يثمر القتل والتدمير والكراهية والأحقاد وفقدان الأمل بالسلام والأمان؟ إن مثل هذا التفكير وهذا التدمير لا يؤدي إلا إلى إزدياد قناعة الآخر المعتدى عليه والمهضومة حقوقه بأن مثل هذا المعتدي لا يريد سلاما أبدا ، وإنما يريد سيطرة وهيمنة ، وإن فرض الأستسلام لا يؤدي إلى سلام وأمن حقيقي، ولا يسمى سلاما . وما كان الفناء مصير أي شعب في العالم عبر التاريخ ، بل إن الذي لا يستفيد من التاريخ وحق الآخر في العيش بأمن وسلام هو الذي ستجري عليه سنة التاريخ . ومن أراد لنفسه شيئا عليه أن لا يحرم الآخرين منه حتى يتسنى له الحصول عليه ، هذا هو منطق الحياه وسنة التاريخ. محمد فياض صلاحات ( مجلة تسامح العدد 24 آذار 2009)


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني