PCP

يا عمال العالم اتحدوا

قراءة أولية في « حرب غزة »

قراءة أولية في « حرب غزة » مصطفى اللباد ــ انتهت "حرب غزة" بعد أكثر من ثلاثة أسابيع مضرجة بدماء الشهداء والجرحى، بهزيمة إسرائيل سياسياً وعدم قدرتها على الانتصار عسكرياً، بالضبط كما كان متوقعاً قبل العدوان. وإذا كانت تل أبيب قد أعلنت وقف النار من جانب واحد بعد دمار هائل تسببت فيه آلتها العسكرية؛ فإن حركة "حماس" استمرت في إطلاق صواريخ غراد بعد إعلان تل أبيب وقف النار؛ وذلك لمنعها من تحقيق مكاسب سياسية على أشلاء الشهداء الفلسطينيين. هكذا سكتت المدافع وانقشع غبار المعارك لتبدو صورة المشهد الإقليمي مختلفة إلى حد كبير عن حالها قبل العدوان الإسرائيلي؛ إذ تغيرت التوازنات والأوزان الإقليمية واختلطت الأوراق والحسابات الإقليمية بشكل يضع منطقتنا أمام حقائق جديدة وبما يتجاوز الحدود الجغرافية لمسرح العمليات العسكرية في غزة. هندسة الخراب الإسرائيلية المرسومة بطائراتها المغيرة والموزعة على الرقعة المحدودة لغزة لم تستطع أن تطمس محدودية القوة الإسرائيلية الشاملة، بعد أن فقدت آلتها العسكرية هيبتها للمرة الثانية بعد حرب لبنان 2006. أظهرت "حرب غزة" أن الأداء السياسي الحمساوي لم يعد محكوماً بصيغ أفعل التفضيل ولا بالبلاغة اللغوية مثلما كان في السابق، بل إنه تفوق في بصيرته السياسية وخطابه السياسي على نفسه وأدار المعركة بقدر كبير من الوعي بالظروف المحيطة وبالأهداف الإسرائيلية المتوخاة من الحرب. أحرزت حركة "حماس" إنجازات عدة سياسية يصعب التعامي عنها حتى من المعارضين لها إيديولوجياً وسياسياً، وبشكل يجعلها تخرج رابحة سياسياً من حرب أولمرت عليها وعلى قطاع غزة. الانتصار الرمزي الأول لـ"حماس" تمثل في حقيقة أن صواريخ غراد –حتى مع تردي نجاعتها العسكرية- قد وصلت إلى مناطق لم تصلها من قبل، وسقطت في بئر السبع وأشدود وعسقلان. لم تستطع تل أبيب طوال ثلاثة أسابيع ترجمة التفوق الكاسح لآلتها العسكرية وسلاحها الجوي إلى مكاسب سياسية واضحة، وبحيث بات على مفكريها الإستراتيجيين العودة مرة أخرى إلى الأدبيات الأساسية لعلوم الإستراتيجية لاستخلاص العبر والدروس. يقول كارل فون كلاوزفيتس الإستراتيجي الألماني الأشهر في مؤلفه الموسوعي الشامل "عن الحرب"، والذي يعد من أساسيات الكتب في علم الإستراتيجية، أن "الانتصار التكتيكي العسكري هو بالضرورة انتصار مرحلي، ما لم يتوج بهدف سياسي أشمل يجعله انتصاراً إستراتيجياً". ولذلك فاستعراض الإمكانات التدميرية لسلاح الجو الإسرائيلي على سكان قطاع غزة بهدم المباني الأسمنتية فوق رؤوس النساء والأطفال، لم يعن أن تل أبيب نجحت في تدمير المباني الفكرية لحركة "حماس" في غزة، بل إن الحضور العسكري للحركة بعد "حرب غزة" مازال كافياً لاستمرار سيطرتها على القطاع، وهو ما يمنع تل أبيب بالنهاية من الانتصار سياسياً. يتمثل الانتصار الرمزي الثاني لحركة "حماس" في احتفاظها بسلاحها وعدم قدرة أولمرت وجيشه على نزع هذا السلاح. وبالعودة إلى كلاوزفيتس وكتابه المرجعي المذكور نجد أن " "تدمير القوة العسكرية للخصم هي المبدأ الحاكم في الحرب"، وهو ما لم تستطع تل أبيب فعله بأية حال مع حركة "حماس". وتعزز الفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف السياسية من "حرب غزة"، فلم يتحرر الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت، كما أخفقت في فصل الشعب الفلسطيني عن حركة "حماس" سياسياً، بل أطلقت حملة تعاطف دولي واسع مع القضية الفلسطينية في أنحاء العالم. ولم يقتصر الفشل الإسرائيلي على ذلك فحسب بل أن قرار مجلس الأمن الرقم 1860 والداعي إلى وقف النار قد اعترف في مضمونه بسيطرة حركة "حماس" على غزة لأول مرة منذ قيام الحركة. وإذ يعرف كلاوزفيتس الحرب على أنها "استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، فإن تل أبيب لم تصل أبداً إلى هدفها السياسي بمنع إطلاق الصواريخ على مدنها وهي نتيجة أفدح إسرائيلياً مما جرى في حرب 2006، حيث منع القرار 1701 "حزب الله" المنتصر سياسياً من إطلاق الصواريخ على إسرائيل. صحيح أن حركة "حماس" لا تملك مضادات للطائرات، وصحيح أن التفوق الجوي الإسرائيلي كاسح في المنطقة، ولكن هذا التفوق لم يعد مفيداً في مقاتلة الحركات المسلحة غير الدولتية. لم تعد تل أبيب تقاتل جيوشاً عربية كلاسيكية تحركها دول تنتمي إلى العالم الثالث، فتنتصر عليها بأحدث تقنيات السلاح الاميركي وبتفوق سلاح الجو وقدرته على التمهيد للحرب البرية. أصبحت تل أبيب تقاتل حركات مسلحة تسليحاً خفيفاً ومتوسطاً من الناحية العسكرية، ولكن تسليحاً ثقيلاً من حيث الحمولة الأيديولوجية والعقائدية، وهذا التحول في جولات إسرائيل العسكرية يجعلها على الدوام خاسرة سياسياً حتى قبل أن تبدأ المعارك. مرة أخيرة نعود إلى كلاوزفيتس حين يخرج بقاعدته الأساسية عن الحرب ومفادها أن "الغرض السياسي هو الهدف الأساسي من الحرب، والحرب ما هي إلا وسيلة الوصول إلى هذا الهدف، ولكن الوسائل لا يمكن أبداً تعقلها بمعزل عن الغرض منها"، وبتطبيق هذه القاعدة على ما جرى في "حرب غزة" تتأكد النتيجة المشار إليها لناحية هزيمة إسرائيل سياسياً. لا يمكن ضبط الأوزان الإقليمية المترتبة على نتائج الحرب بقرار لوقف النار من جانب واحد، يحدد الرابحين والخاسرين بقدر ما تتحدد هذه الأوزان وفقاً لتوازنات القوى على الأرض. ولما كانت الحال كذلك يبدو واضحاً أن النفوذ الإقليمي الإيراني، الذي استهدفته تل أبيب بـ"حرب غزة" قد زاد حضوراً على حضوره. تقول النتيجة الأساسية المستخلصة من "حرب غزة" أن حركة "حماس" انتصرت سياسياً على تل أبيب، وأن طهران الداعمة لحركة "حماس" قد خرجت أيضاً رابحة من هذه الحرب كما خرجت قبل ذلك رابحة من حرب 2006. يقود تقليب النظر في نتيجة حرب غزة الى أن الأصل الصراعي في المنطقة يكمن في بقاء القضية الفلسطينية بدون حل برغم من مرور السنوات وتآكل المبادرات، وإذا كانت طهران تستغل إخفاق محور ما يسمى "الاعتدال" في الوصول إلى حل يلبي الحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني-وهو ما يبدو راجحاً-، فهذا يدل على أن القضية الفلسطينية هي المحرك الأساسي للوجدان العربي، وأن طهران وعت هذه النتيجة التي لم تدركها غيرها من العواصم العربية. ألم يقل لنا ألماني آخر اسمه كارل ماركس في منطقه الجدلي الشهير والكاشف أن "التناقضات الأساسية تسبق التناقضات الثانوية"؟، وأن التحليل الموضوعي للظواهر يجب أن يعود بالظاهرة إلى أصلها التكويني لإلقاء الضوء على ارتباطاته الجذرية، قبل العودة مرة أخرى لتحليل الظاهرة وربط هذا التحليل بالأصل التكويني، بغية الوصول إلى النتائج الأقرب إلى الدقة. النتيجة الإقليمية الأعمق للحرب على غزة مفادها أن التناقض الرئيسي في المنطقة يقوم على التناقض بين العرب وإسرائيل، أما التناقضات بين العرب وإيران - برغم كل التحفظات عن مشروعها الإقليمي في المنطقة- فهي التناقضات الثانوية! مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية-القاهرة


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني