PCP

يا عمال العالم اتحدوا

الحرية والإشتراكية

إرتكزت الفلسفة التي أسس لها كارل ماركس في القرن التاسع عشر على إعادة الاعتبار للإنسان والانسانية، كما عكست في جوهرها ومضمونها أنها نقد للأطروحات السابقة التي حاولت تقديم الحلول للمشكلة الوجودية.. فتمثلت تلك الفلسفة في تحرير الإنسان من قيوده التاريخية التي تمنعه من تحقيق ذاته، والتي تعتمل وفقاً لمبدأ التشيؤ (أي أنها تعمل على تحويل الانسان إلى شيء)، أو إلى آلة، في سياق الانتقال من حقبة الأدوات إلى حقبة الآلات .. حيث كانت فلسفته صرخة احتجاج ضد "إغتراب" الإنسان وضد إنفصاله عن ذاته وعن الموضوع الذي أصبح يراه حملاً ثقيلاً يقف على صدره من الطبيعة إلى البشر الآخرين. كانت الفكرة المركزية التي شغلته هي تحديد معنى وجود الانسان وانعتاقه من القيود الاجتماعية التي تعيق تطوره في إطار نفس المجتمع الذي يأسره ويكبل طاقاته (على عكس ما يتداوله جميع من شوهت الرأسمالية وعيهم). فكانت الفكرة التي سيطرت على فلسفته هي تحرير الانسان من العمل في ظل نمط الانتاج ذلك الذي يدمر انسانيته، حيث يرى ماركس أن العامل الذاتي في تحقيق الانسان لإنسانيته ليس منفصلاً عن وعي المجتمع والتغيير الاجتماعي الذي يبنى على أساسه. كما أكد ماركس على ذلك في الملاحظات الإحدى عشرة التي نشرها إنغلز بعد وفاته، “أطروحات حول فيورباخ” والتي صاغها عام 1845 موضحاً في نقده لفيورباخ العلاقة الجدلية التي تركز على أن الانسان فاعلية عقلانية وخلاقة في التاريخ، حيث يبني ويشكل فيها الانسان عالمه الموضوعي عبر خلق ذاته، ويخلق ذاته عبر بناء وتشكيل عالمه وبيئته، فكما جاء في الملاحظة الثالثة “إن اتفاق تبدل الظروف والنشاط الانساني لا يمكن بحثه وفهمه فهماً عقلانياً إلا بوصفه عملاً ثورياً.”، وليس كما رأى فيورباخ في نظرته للإنسان أنه مجرد مفعول به في تلك المعادلة، يتلقى ما يُفرض عليه ولا يسعه إلا تشرب تلك المعطيات المفروضة وتأملها لا تغييرها، بمعنى أن الفجوة الطبقية – على سبيل المثال – التي تخلقها الرأسمالية، واتساع الإستقطاب كنتيجة لتضخم وتراكم رأس المال، إضافة إلى الفقر والإضطهاد الذي تولده أيضاً لا يمكن تغييره، بل على الانسان القبول به والخضوع له بحجة أنه عامل موضوعي منفصل عن الانسان وخارج عن وعيه وإرادته الذاتية.. وبذلك الصدد أيضاً يرى ماركس أن الإستغلال والإغتراب في الرأسمالية (وليس الفقر ووعي الفقر فقط) هما عاملان أساسيان محركان للصراع الطبقي، مع الأخذ بعين الاعتبار الارتباط الوثيق لهذين العاملين بظاهرة الفقر كظاهرة إجتماعية تولدها الرأسمالية.. لذلك كانت الغاية التي صبّ ماركس إهتمامه عليها، هي كيفية قضاء الفقراء بالثورة الاجتماعية المنبثقة من رحم الرأسمالية على الفقر كظاهرة، وما ينتج عنها من إستغلال وإغتراب، وبالتالي تحرير طاقات الانسان والتحقيق التام لذاته وانعتاقه من هذه الظواهر المتجسدة في اغتراب الإنسان واستغلاله – كمفعول به – من قبل الفاعل (الآخرون والمجتمع والطبيعة)، وبالتالي تحويله من كونه كائن مغرّب إلى إنسان حقيقي قادر على تطوير نفسه، إيماناً بعظمته وقدرته على تحرير ذاته من سجن المجتمع وقواه الاجتماعية التي تقيده.. في الواقع إن جُل ما شغل بال ذلك الفيلسوف وهو يضع نظرياته وأفكاره، هو انعتاق الإنسان وتحريره من قيود الحتمية الاقتصادية، ليتمكن تبعاً لذلك من إدراك العالم حوله والتفاعل معه في وحدة الانسان الموضوعية مع الطبيعة ومع أقرانه من البشر. ولكن في سياق مفهومنا للإشتراكية، التي تستند في مضمونها إلى فلسفة ماركس المادية الجدلية والتصور المادي للتاريخ، تظهر مفاهيم اخرى متلازمة إلى جانب “الحرية” يتوجب علينا تفسيرها وإيجاد مكان لها في الخريطة الايديولوجية للاشتراكية.. فالإشتراكية تعكس في نضال الطبقة العاملة توق جماهير الفقراء والكادحين للحرية الكاملة، أي التخلص والإنعتاق نهائياً من الإستغلال والإضطهاد، والتشيؤ والاغتراب في ظل الأنظمة الرأسمالية والسابقة للرأسمالية.. إذاً فما هو معنى مفهوم “الاغتراب” هنا، وما هي أبعاده النظرية؟ الاغتراب والاشتراكية الاغتراب أو الانسلاخ، يعني انعزال الإنسان عن وجوده كذات بشرية فاعلة في الطبيعة، أو بكلمات أخرى هي حالة إنفصال الذات عن الموضوع، بمعنى أن الانسان لا يمارس فعاليته كقوة ذاتية فاعلة في التاريخ أو في سيرورة فهمه للعالم الذي يحيط به.. وعندما يضع الإنسان كل قواه في شيء ويعول عليه ويتضرع إليه، فهو يتواصل بذلك مع ذاته فقط بدلاً من أن يمارس نفسه كقوة خلاقة، ويمكن أن نقول بصدد ذلك أن الاغتراب تمظهر بدايةً قبل أن يكون نتيجة لظهور الطبقات، والتشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية العبودية والإقطاعية، والرأسمالية (التي جسدت الإغتراب في ذروته) ، كان في عبادة الأوثان (الأصنام) قديماً، فالانسان الذي يركع ويتوسل لشيء من صنع يديه قد وضع قواه فيه، يتحول بذلك ذات الإنسان إلى “شيء” متصل مع ذاته فقط وينقل إليه جميع خصائص ومميزات حياته كذات بشرية. والأوثان أيضاً ليست مختزلة فقط في صنم لإلهٍ ما، فهي يمكن أن تكون متمثلة في شخص أو دولة أو أي شيء. فاغتراب الإبداع البشري عن ذات الانسان قد ينصب في عدة مواضيع تتبدل بإستمرار. والتكنولوجيا الحديثة (كمحصلة للمعرفة العلمية التي وصلت إليها البشرية نتيجة للتطوير المستمر لوسائل الانتاج والذي توظفه الرأسمالية في خدمة أهدافها ومصالحها بدلاً من أن تكون تعبيراً عن فهم الانسان للطبيعة وتوظيفها لخدمته وحل مشكلاته المادية)، التكنولوجيا هنا تلعب دوراً أساسياً في اغتراب الانسان عن الواقع. فالعوالم والشبكات الافتراضية اليوم مثلاً أصبحت تفصل بشكل واضح بين الانسان المتكون من لحم ودم، الانسان العامل، الانسان الحقيقي، وبين الانسان المتكون من أرقام ولوحات مفاتيح، الانسان الذي يعيش خلف الشاشات، الانسان الافتراضي الذي أغلقت الرأسمالية الأبواب في وجهه وحرمته من الانخراط في الواقع الموضوعي والعمل على تغييره، ولطالما أن الرأسمالية هي المنظومة التي تدير تطور أدوات الإنتاج، والتكنولوجيا جزء منها، ستضاعف الأدوات الحديثة وأنماط الإنتاج الحديثة اغتراب الإنسان، والمطلوب هنا ليس إيقاف تطور أنماط الإنتاج، وإنما نسف البنية الاقتصادية الحاضنة لها، ألا وهي الرأسمالية. ولكن علينا أن نطرح هنا تساؤلاً جوهرياً في معرض تعريفنا لمفهوم الاغتراب. فإذا كانت رؤية ماركس ومفهومه للاشتراكية هي في التحرر والإنعتاق من الاغتراب، عن أي إغتراب نتحدث هنا، هل هو اغتراب العقل، أم اغتراب اللغة، أم اغتراب الذات، أم أنه الاغتراب في عموميته؟ وإن كان ماركس معنياً بتحرير الانسان وإعادته إلى العالم محتفياً بقدراته وطاقاته، وعودته بذلك لممارسة ذاته كقوة بشرية فاعلة. كما كانت صرخة الاحتجاج التي عبر عنها في أعماله ضد “إغتراب” الانسان بمجمله (وقد تجلت في مخطوطات 1844م)، ولكنه كان أكثر تركيزاً على العمل والعامل والرأسمال في سياق نقده لمفهوم الاغتراب، حيث رأى أن العامل ضمن نطاق عمله ومنهجية الرأسمالية في ملكية وسائل الإنتاج وتوظيف قوى العامل في إنتاج سلعةٍ ما، لا يملك أدوات إنتاجها كما لا يملكها هذا العامل بالأساس، فهو يصبح مغرباً بالنسبة لما صنعه هو، في حين تخدم هذه العملية –عملية صناعة السلع ومراكمة الأرباح إلى رأس المال- مستفيد واحد، وهو الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج. إذاً في الجانب المتعلق بالاغتراب والحرية. تعريف الاغتراب وتجاوزه نحو الإنسان العامل الموجود بفاعليته في معادلة خلق التاريخ، يحتاج إلى الاشتراكية كصيغة ضامنة لتحقيق ذلك ضمن إطار المجتمع. فالملكية العامة لوسائل الانتاج، وتحويل نمطية الإنتاج من أجل السوق (مجتمع الاستعراض الذي يدعي الوفرة) إلى الإنتاج من أجل الحاجات الاساسية للبشر (مجتمع الإنتاج وتحقيق الذات)، كفيل بتحرير طاقات الإنسان، وإعادته لإنسانيته، وعودته من اغترابه إلى العالم الموضوعي الحقيقي . يطلق على تلك الظاهرة – الاغتراب – إصطلاحاً (نفي الإنتاجية)، وذلك بالطبع بإضافة أن ما لاحظه ماركس إلى جانب مسألة اغتراب العامل عما يصنعه من سلعة كجزء منسلخ عنه، كان يتمحور حول “رأس المال” والعلاقة الجدلية التي تربط بينه وبين العامل نفسه. فقد جاء على ذكر ذلك في “المخطوطات الاقتصادية والفلسفية” عام 1844 والتي يقول فيها “ان العامل ينتج رأس المال، ورأس المال ينتجه، ومن هنا فإنه ينتج ذاته، والانسان كعامل، كسلعة، هو نتاج هذه الدورة كلها.” .. حيث رأى ماركس في العامل أنه رأسمال حي، أي رأسمال بشري، وتبعاً لذلك فهو رأسمال له إحتياجاته الخاصة ومتطلباته، ووفقاً لمنطق الرأسمالية فإن اللحظة التي لا يعمل فيها الرأسمال فهو يفقد قيمته. وينسحب ذلك كله على العامل نفسه بوصفه رأسمال حي، فالاقتصاد الرأسمالي لا ينظر إلى العامل كإنسان، و لا ينظر إلى العامل الذي لا يعمل، طالما أنه بعيد عن معادلة العمل والربح وخارج علاقات ذلك العمل.. أما الانسان فيبقى انسان، إنسانٌ حر في ظل ملكيته لوسائل الانتاج وعمله من أجل ذاته ومن أجل المجتمع. الحرية والحتمية.. الحرية والضرورة وهنا أخيراً نعود إلى نقطة كنا قد طرحناها سابقاً، وهي الاشتراكية كصيغة ضامنة لتحقيق الحرية بمعناها الواسع، حيث نعود مجدداً لنؤكد على نقطة قد تكون أكثر أهمية، وهي ارتباط مفهوم الحرية بالفلسفة ارتباطاً وثيقاً، لما يحمله المفهوم من عناوين متشعبة تقع في عمق معناها، كالضرورة والحتمية والاغتراب. فالاغتراب كما سبق وإن قلنا أنه انعزال الانسان عن واقعه وعن مجتمعه وعن عمله ككائن مغرّب، وعودته عن ذلك الاغتراب تكمن في ضرورة التحقيق التام لذاته عبر الملكية العامة لوسائل الانتاج والتي تنتج من أجل المجتع. أما بالنسبة للضرورة والحتمية، فالماركسية تهدف إلى التحرر من الحتمية، أي أن الماركسية تعترف بالضرورة ولا تعترف بالحتمية (الحتمية التي تأخذ منحىً قدرياً في التوصيف). فالحتمية تهمش وتلغي دور الفعل البشري الخلاق بذلك، والفعل الثوري العامل في التاريخ تحديداً، أما الضرورة فتكسب الفعل البشري معنى. حيث أن تدمير المنظومة الرأسمالية التي يقبع في عمقها الاغتراب والاستغلال والاضطهاد، والتي تحتضن كافة المفاهيم المشوهة بداخلها، ومن ثم الإنتقال عبرها إلى الاشتراكية يستلزم بالضرورة فعل بشري ثوري، ولكن ذلك الانتقال على الرغم من أهميته لتخطي الرأسمالية وحل تناقضاتها ليس أمراً محتوماً، أي أن الحتمية تحتمل نتيجة واحدة غير قابلة للتأويل وذلك ينفي دور الفعل البشري الخلاق، أما الضرورة كمعنى فلسفي في جوهرها فلا توازي فعل القدر والمصير المحتم، فهي تحتمل نتيجتين، بمعنى أنها قد تتحقق أو لا تتحقق، ولذلك يكون دور الفعل الواعي المدرك للضرورة هو البوصلة الأساسية لأي فعل سياسي، ولأي حزب سياسي، ففي حال عدم تحقيق المجتمع للاشتراكية بنضاله المستمر ستنزلق به الرأسمالية كمنظومة عالمية متآكلة نحو الهمجية والهلاك و”الإنتحار الكوني”، والمزيد من العبودية والاغتراب، لذلك تكمن الضرورة من هذا المنطلق في الانتقال نحو الإشتراكية لتجذير آفاق الحرية الحقيقية، أي في تحطيم هذه المنظومة الرأسمالية، وهدم أسسها والوقوف المبدئي أيضاً في وجه الامبريالية الرأسمالية وعبثية فوضى السوق الوهمي بلا تخاذل وتهاون.


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني