PCP

يا عمال العالم اتحدوا

فاروق عبد القادر.. وداعا لروح التحدي

أعرف، ولا أظن أحدا يعرف، طبيعة الإشارات الخفية التي تعتمد عليها الروح الإنسانية في لحظات خاصة جدا. كل ما أعرفه أنني ظهر يوم الاثنين 22 حزيران حوالي الثالثة ظهرا اتصلت بالروائي والصديق العزيز عبد الوهاب الأسواني لأسأله من العريش عن حالة الأستاذ فاروق عبد القادر. منعني من السؤال عنه فترة أنني شخصيا أجريت عملية جراحية منذ أكثر من شهر ثم غادرت القاهرة. ولم نكن لا أنا ولا الأسواني نعلم ونحن نتكلم بالتليفون أن فاروق لذي نتكلم عنه لم يعد بين الأحياء. حين أصابته جلطة في المخ منذ عدة شهور ذهبت إليه في منزله بشبرا، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها بيته، هناك حيث رأيت وحدته، وتخبطه بين الكتب وحده، وكبرياءه، وروح الفكاهة والتحدي التي لم تفارقه. ومنذ زيارتي الأولى له، كان يخلط بين الأزمنة والأحداث والأشخاص لكن دون شطط، وقيل حينها جلطة، وقيل ضمور في المخ، لكني أدركت في كل الأحوال أن الشخص الذي عرفناه طويلا قد اهتز بعمق، مثل شجرة ضخمة تقلقلت جذورها بيد عنيفة، فأخذت أزهارها تتساقط. في زياراتي اللاحقة له في منزله، ثم في بيت المسنين بالتجمع الخامس كان يوغل في خلط الوقائع مع استمرار ترحيبه بشخصي، وفيما بعد حين نقل إلي مستشفى الدمرداش لزم الصمت وقد حول بصره عن عالمنا إلي جهة أخرى بعيدة. ولا أظن الراحل الكبير بحاجة لتعريف، سواء من حيث جهده النقدي أو الكتب الهامة التي أثرى بترجمتها الحركة الثقافية والفكرية. لكن لا بأس عند الوداع من أن نذكر بأنه ولد عام 1938، وأنهى جامعة عين شمس عام 1958 وتأثر كثيرا بالفكر اليساري، وعمل سكرتيرا لمجلة المسرح ومسؤولا عن ملحق الأدب والفن بمجلة الطليعة وحين أغلقها الرئيس السادات شق فاروق عبد القادر طريقه الطويل المتفرد بالاستقلال عن المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهم بالاستقلال عن وجهات النظر الرسمية في الثقافة والنقد حتى توفي عن عمر يناهز الثانية والسبعين عاما، وحده، دون أسرة، أو أبناء. وعلى مدى نحو أربعين عاما تابع الراحل الكبير النشاط المسرحي والروائي والثقافي بقلم حاد ونظرة متشددة، وترك بعضا من دراساته في كتب مثل "أوراق من الرماد والجمر"، و"نفق معتم ومصابيح قليلة"، و"في الرواية العربية المعاصرة"، و"أوراق الرفض والقبول" وغير ذلك، كما ترجم بعضا من أهم أعمال الكاتب المسرحي البريطاني "بيتر بروك"، وقام الراحل الكبير بدور هام في متابعة إبداع الروائيين العرب والتعريف بهم، وترك من المؤلفات والتراجم ما يصل لنحو خمسة وعشرين عملا. وقد تعرفت إلي الناقد الكبير منذ نحو سبع سنوات، وكانت جلسته كل يوم أحد في مقهى "سوق الحميدية" بباب اللوق هي المكان الوحيد الذي أقصده كلما سمحت الظروف. ولم أكن أتردد عليه بفضل اتفاقنا، بالعكس فلم أكن أوافقه على كل ما يذهب إليه من تصورات، لم تكن القصة متعلقة بالآراء وتطابقها أو تنافرها، لكن كان يشدني إليه احترامي العميق لروح التحدي التي تشمله وتفيض منه وتحيل جلسته إلي جمرة من التماسك الأخلاقي والفكري. وكنت أفرح بعناده وصلابته في بحر الظلمة الثقافية حتى عندما تطيش ضرباته، وأستمد من ذلك التحدي شعورا بالقوة، وكان هو سعيدا ومزهوا بروح الفارس الذي لا يشتريه مال ولا بشر ولا منصب ولا وسام ولا جائزة. وحين تدهورت حالته الصحية ونقل إلي مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، كان يحدث أن أمر على مقهى "سوق الحميدية" وأمد بصري من بعيد إلي منضدته شاغرة وأقول لنفسي: لقد خلت القاهرة من الجرأة والتحدي وانطفأ سراجها. وطالما كان فاروق عبد القادر موجودا وحيا ومؤثرا كان ثمة معيار يعارض الرشوة في النقد، والمجاملات، والاستسهال، وتصنيع الكتاب استجابة لتعليمات الأجهزة، وقد انكسر ذلك المعيار برحيله، ولم يبق سوى أن يسود الفساد دون نجمة واحدة كاشفة. وقد رحل فاروق عبد القادر دون أن يدري أنه ـ قبل يوم من وفاته ـ قد تلقى جائزة التفوق في الآداب التي استحق ما هو أكثر منها من زمن بعيد. ولعله كان في لحظاته الأخيرة يردد لنفسه ما كان يكرره في حياته "وبقيت مثل السيف فردا". نعم، هكذا عشت، وهكذا تغادرنا.


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني