PCP

يا عمال العالم اتحدوا

غيوب» أحمد درويش.. تلاوين الصحو والغياب

لا يعبأ احمد درويش في معاقرته للقصيدة بتصنيفات شعرية أو نقدية تؤطر القصيدة في مدارس وأشكال، تماما كما لا يعبأ صاحب الكأس بطريقة حملها أو شربها . . ..فقط الوافدون إليها من خارج عالمها المضيء للمخيلة هم من يلتزمون بـ«البريستيج» المناسب والمرسوم لها. . . .فتصبح ككأس ماء لا تخرج المخيلة من سجنها، والحصيلة قصائد وأغاني وأحلام وهلوسات هي اقرب للصدق ككل القصائد المقفاة والموزونة المرسومة بمسطرة لا فرق ان كانت تعتمد مقاييس تقليدية أو غربية أو محدثة. . .. بعد مجموعتيه الشعريتين «خيبة الصحو» و«مكهوف» لا يبدو احمد درويش قادرا أو راغبا بالتحرر من عالمه الأثير: الحرية. . .حيث لا أهداف مسبقة للقول الشعري، لا قوالب ولا حدود أو إشارات حمراء تقف عندها عربة الشاعر المحملة نبيذاً وقصائد. .لكنه يعترف أنه لم يحرز هدفا واحدا في مرمى العمر: منذ الطفولة وأنا العب مباراتي الوحيدة مع العمر كلما دنوت من مرماي يرفع الله بوجهي بطاقته الحمراء من خيبته في المباراة الأبدية ينسج شالا لنصوصه التي تعلو حينا فتلامس سماء الشعر وحينا تنحدر إلى لغة الخطاب العادي، لنقرأ هذا الكلام: لك حضور كحضور القلب فيّ عيناك أجمل من صباحات البنفسج وان أدمعتا أجمل من الندى وان أغفتا (غفتا) أجمل من الحلم وبغض النظر عن الخطأ المغفور له في النص ـ ستتكرر الأخطاء في نصوص أخرى ـ فان الشعرية تكاد تغيب أمام طغيان البوح العادي الإنشائي مقابل التحليق في المقطع السابق له والذي يزين الغلاف الأخير للمجموعة. الأمر نفسه يتكرر في قصائد مثل: طيور العتمة، احتاج، دمع ذعر الغياب، ضلال . . . الخ. في إهداء الديوان استحضار لأبي العلاء المعري إذ يهديه إلى (كل من لم يساهم في قهر الإنسان وبؤسه. . . . .«وما جنى على أحد» ولن. . . . .) وفي المتن كذلك تظهر فكرة أبي العلاء نفسها بصورة شعرية طازجة، لكن الحامل اللغوي لها يشكو من ترهل وإطالة غير مرغوبة في القول الشعري، تكفي هنا ومضة الضوء لتتسلل الفكرة إلى وجدان القارىء، وغني عن القول إن الشرح يفسد لذة الصدمة الشعرية بل ينهيها أحيانا، أليست البلاغة في الإيجاز؟ أو بتعبير الشيخ الأكبر (كلما اتسع المعنى ضاقت العبارة): ليلة مارس آدم الحب مع حواء وكانت البداية بالنطفة الأولى المرتجفة من ذعر الحياة ليته بالقبل قد اكتفى وبنشوة المداعبة فما كنت أنا الآن وما كان كل هذا المقت وما غدوت تمثالا متحركا لحزن الكون واستمرارا لأساه الجزء الأول يعنونه الشاعر بـ«الرجم بالكلمات»، مع اعتذار من نزار قباني، وهي لفتة موحية كعتبة للنصوص التي تتراوح موضوعاتها بين أسئلة الوجود (الحياة، الموت، الزمن) وبين ما نستطيع أن نسميها الخمريات، وهي الموضوع الأثير عند احمد درويش لما للكأس من اتساع دلالي وحمولة روحية. . . . نصوص قصيرة اقرب إلى قصيدة الومضة لا تثقل على القارىء رغم ما تحدثنا عنه من إطالة في بعضها. من النصوص اللافتة في هذا الجزء نص بعنوان: عليّ ومنه نقتطف: عليّ تبديل الأصدقاء كالثياب كلما اتسخوا عليّ تبديل الوطن ككأس الخمر كلما ضاعت منه النشوة عليّ تبديل عقلي كالكتاب كلما حفظته. . . هذا الجزء مخلص لعنوانه، فهنا رجم لكل ما يستحق أن يرجم: القدر الذي رمانا في لجة الحياة، الجيران المتعبون، الأصدقاء المتلونون، الموت، الجوع، الفقر، طيور العتمة، . . . . بعد الرجم بالكلمات يقدم الشاعر قصيدتين طويلتين: الأولى بعنوان «ظميء»، ولا ادري لماذا يصر على عدم استعمال اللفظ الأقرب للذائقة (ظمآن) أو حتى المصدر ظمأ. والقصيدة مبنية على شكل مقاطع تبتعد عن بعضها حينا كمواضيع حتى يمكن اعتبارها نصوصا منفصلة، ثم لا تلبث أن تعود إلى السكة الأولى، ولا تخرج شكلاً ومحتوى عن أجواء الشاعر التي تحدثنا عنها، وان بدت بعض المقاطع أكثر نضجاً وشعرية من غيرها حيث تبرز الصنعة الشعرية والانزياحات اللغوية والدلالية، ويذكر في بعض القفلات المدهشة بالراحل الكبير محمد الماغوط: باتت الصدمة صديقتي إذا مر يوم دن صفعة من صديق أو صدمة من حبيب أُصدم * * * ما تبقى من بلدتي المنفية قليل من الشعراء والفلاسفة والكثير الكثير من السكارى والحزن يلاحق الفرح كشرطي ولص القصيدة الأخيرة والتي حملت المجموعة عنوانها «غيوب» تقترب كثيرا من الأجواء الصوفية، وفيها كما سابقتها مقاطع تتفاوت، لكن الشاعر هنا يتأني ـ كما يبدو ـ قليلا في إطلاق القصيدة من أقفاصها، فتاتي أكثر نداوة ورقة: غامضتي اشرحيني لأفسرك بافتدائي وفيها ومضات تحتفي بالأنثى والحب وذات الشاعر الغاضبة من وحول الطريق وتعرجاته: دائما أتكلل بالصدف الفاشلة حين يأخذ الطريق غفوة أما ختام الديوان فقصيدة متأخرة تبتعد عن كل ما نقرؤه، رغم أن الأجواء هي هي، الغضب من الحياة الطحلبية والتشيوء الذي يغزو يومياتنا، لكن هنا يقتضي الموضوع بعض المباشرة التي هي العدو القاتل لقصيدة النثر. من وحي العدوان على غزة وعلى لبنان والعراق قبلها يكتب الشاعر بعنوان حكام محاكيا قول محمود درويش (نعم عرب ولا نخجل)، فيعكس المعاني على خلفية العبارة نفسها، ليصبح الخجل المرفوض من كونه عربياً لدى محمود خجلاً مرفوضا أيضا لدى الحكام العرب، لكن من فعل الخيانة والتآمر الذي يقترفه النظام العربي منذ نشوئه، مقاومة المقاوم ومحاربة المواطن وإكرام العدو وحمايته. القصيدة تعطي انطباعاً أن لدى الشاعر المزيد ليقوله في حقل الكتابة «الملتزمة» لا بمعناها الشعاري الأجوف، بل بمعناها الشعري السياسي كما مارسه مظفر النواب واحمد مطر واحمد فؤاد نجم وغيرهم. المجموعة الثالثة لأحمد درويش رغم أنها لا تخرج كثيرا عن أجواء تجربته السابقة في «مكهوف»، إلا أنها تبقى كاستمرار في الدفاع عن حق الإنسان في الصراخ كبطل زوربا اليوناني: إن هذا الكون غير عادل غير عادل غير عادل وأنا زوربا الحلزون، دودة الأرض، غير راض. المجموعة تقع في 120 صفحة من القطع الوسط وهي من إصدار دار الجندي وصمم الغلاف علي الجندي. حسين خليفة


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني