PCP

يا عمال العالم اتحدوا

طه حسين الأديب المتنور

شهد هذا العام الذكرى العشرين بعد المائة لميلاد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي ولد في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني عام /1889/ في قرية مغاغة في صعيد مصر لأب يعمل موظفاً في شركة السكر، وكان السابع بين ثلاثة عشر ولداً، أصيب في الرابعة من عمره بمرض في عينيه، وعولج على طريقة القرويين، الأمر الذي أدى به إلى فقدان البصر نهائياً، لكنه لم ييأس، بل دفعه ذلك لأن يكون أكثر إصراراً وتصميماً للدراسة والتحصيل العلمي. في البداية كان يرتاد الكتـّاب في قريته، حيث كان يقدس العلماء ويرى أنهم من طينة غير طينة البشر، ولكنه سرعان ما يغير رأيه بعد أن يرى ألاعيبهم ويكشف زيفهم، وحتى فهمهم الخاطئ للدين، فنراه يصف صاحب الكتاب بأنه «غليظ بدين أكرش كاذب يقسم أغلظ الإيمان وهو موقن بأنه كاذب» ويهاجم مشايخ الطرق ويصف واحداً منهم بأنه «شره يلقي إلى الناس كلمات غامضة يحارون في تأويلها ويذهبون في ذلك كل مذهب، وزيارته شر لا بد منه ترهق الناس من أمرهم عسراً». ويتوجه طه إلى القاهرة حيث الأزهر، ويتردد على دروس أساتذتها ويمل من طريقتهم في الشرح والتفسير، ويصل إلى قناعة برفض هذا العلم القائم على النقل والخرافة ومجافاة العقل، ويروح يدرس المنطق والفقه، ويتمرد على الأزهر وعلومها وشيوخها، وسرعان ما يترك الأزهر بعد أن حسم أمره برفض مناهجها العقيمة وثقافتها الغيبية، وينهل من كتابات المصريين المتنورين أمثال قاسم أمين وترجمات فتحي زغلول وكتابات جرجي زيدان في الهلال وغيرهم من الكتاب. وفي عام /1908/ تفتتح الجامعة الأهلية، حيث يجد طه حسين فيها الأمل، ويجتهد في تلقي العلوم والمعارف التي يلقيها على الطلبة أساتذة كبار، وينتهي إلى إعداد رسالة الدكتوراه عن أبي العلاء المعري، ويناقشها ليحصل على هذه الدرجة العلمية الرفيعة والتي كانت أول شهادة دكتوراه تمنحها الجامعة الأهلية «المصرية»، وأثارت رسالته هذه الكثير من اللغط حوله، حتى أن أحدهم اتهمه بالكفر والإلحاد، وطالب آخرون في البرلمان بحرمانه من هذا اللقب العلمي، وكان من الممكن أن يتم ذلك لولا تدخل سعد زغلول رئيس المجلس النيابي آنذاك. ولكن طموح طه حسين العلمي لم يقف عند هذا الحد، بل فكر بمتابعة تحصيله العلمي، وما أن أعلنت الجامعة عن إيفاد الطلبة إلى فرنسا حتى كان من أوائل المتقدمين، ولكن طلبه يرفض بحجة أنه بحاجة إلى من يرافقه، ولكنه لم ييأس ويعيد الطلب مرة ثانية وثالثة حتى يحصل أخيراً على الموافقة، وفي فرنسا تعرض عليه القراءة بطريقة «بريل» لتعليم العميان، فيرفض ذلك ويقول: سأقرأ بأذني، وهو ما فعله وأبدع. ويحصل على الدكتوراه حول «الفلسفة الاجتماعية لدى ابن خلدون» عام /1919/، ثم يعود إلى مصر ويعين أستاذاً في الجامعة المصرية. طه حسين السياسي رغم أن طه حسين معروف كأديب وعميد للأدب العربي، ورغم كتاباته العديدة في الأدب والفكر، وإبداعاته في القصة والرواية، رغم كل ذلك فقد كان ذا مواقف واضحة في القضايا السياسية التي مرّ بها وطنه تدل على أنه كان متابعاً للأوضاع العامة مؤثراً فيها ومتأثراً بها وقد انعكس ذلك في مقالاته في جرائد الجمهورية والاستقلال وغيرها. وسأشير إلى بعض المواقف التي تسجل للعميد، وتدل دلالة واضحة على سعة أفقه وبعد نظره، فعندما قامت الوحدة بين مصر وسورية عام /1958/ لزم الصمت فلم يعلق ولم يكتب، وكان بذلك يسجل موقفاً له مغزاه الواضح، ويعلق الدكتور محمد صابر عرب على ذلك بقوله: «من الواضح أن طه حسين لم يكن ضد الوحدة وإنما يرى أن تحقيقها يتوقف على الوقت والظروف الموضوعية لقيامها دون عجلة وكان يدرك التباين الواضح بين النظام الاقتصادي الجديد في مصر والآخر في سورية». وكان طه حسين من أوائل من أدركوا مبكراً مخاطر سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وحذروا منها، وبذلك برهن أنه كان يرى ويقرأ ما لا يدركه الآخرون، فيكتب تحت عنوان: «شراء الشعوب» ويقول: «الولايات المتحدة الأمريكية تريد شراء الشرق الأوسط، لكن البيع لن يكون حراً، وإنما يكون محاطاً بالترغيب والترهيب، فالدولة المشترية هي أغنى دولة في العالم وأقواها، والرئيس الأمريكي يطالب البرلمان بالمزيد من المال ليساوم شعوب الشرق الأوسط على استقلالها وحريتها، ويطلب الأذن في استخدام القوة إذا تطلب الأمر ذلك، وهذا فن جديد من فنون الاستعمار». ويستفسر من صهره الدكتور أحمد حسن الزيات وزير خارجية مصر قبيل حرب تشرين بشهور وكان هذا يستعد للسفر إلى الأمم المتحدة للمشاركة في المعركة السياسية الدائرة آنذاك، يسأله: عن نسبة خريجي الجامعات في الجيش المصري، ولما يجيبه الزيات بأن النسبة عالية، تنفرج أسارير العميد ويبتسم كما لو أنه يفرح لنصر قادم، لقد كان سؤالاً ذا مغزى. وفي عام /1962/ يصدر الرئيس جمال عبد الناصر «الميثاق» فلم يرتح العميد له وكتب مشيراً إلى ما ورد في الميثاق من ضرورة النقد، وانتقده بذكاء وشجاعة فكتب قائلاً: «أن نفسه لم تطمئن إلى قضية وردت في الميثاق وهي تاريخية تتعلق بما آلت إليه الأحزاب المصرية بعد نضالها في سبيل الاستقلال منذ الحرب العالمية الأولى، وما أثارته من نهضة فكرية ونشاط عقلي لا سبيل إلى الجدال فيه، فقد أيقظوا الشعب وعلموه بما ألفوا من كتب وما نشروا من أدب، وكنت أود لو أنصفهم الرئيس». طه حسين الأديب الثائر لم يتوقف طه حسين عن النشاط العلمي والمعرفي، سواء في محاضراته للطلبة في الجامعة أو في أحاديثه الإذاعية، وكتاباته في المجلات بل أصدر كتباً أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية والسياسية ولعل كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» خير مثال على ذلك، الكتاب صدر في عام /1926/، وأثار صدوره تقدم شيخ الجامع الأزهر وعدد من نواب البرلمان بطلبات إلى النائب العمومي لتقديم طه حسين إلى المحاكمة لطعنه بالدين الإسلامي وبنسب الرسول وغير ذلك من الاتهامات الباطلة، وتحت الضغط الرهيب الذي تعرض له، اضطر طه حسين إلى حذف بعض الفصول وإضافة بعضها ليصدر الكتاب باسم «في الأدب الجاهلي». إلا أن الدعوى تظل قائمة ويحاكم طه حسين بسببها، إلا أن القضاء المصري ورئيس نيابة مصر آنذاك الأستاذ محمد نور ينصفان العميد، ويشيد رئيس النيابة باجتهاده قائلاً: «إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقاً جديداً للبحث حذا فيه حذو العلماء الغربيين» وهكذا يقرر «حفظ الأوراق إدارياً لأن القصد الجنائي غير متوفر». ويعلق الشاعر المصري أحمد الشهاوي على معركة طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي قائلاً: «إن طه حسين القوي بعلمه، تمكنت منه قوى التطرف فهي تريد واحداً استطاع أن يترك أثراً واسعاً في ثقافة عصره ووجدان ناسه وعقل من قرؤوا له أو استمعوا إليه». ورغم أن طه حسين رضخ إلى حين للعاصفة الهوجاء التي أثارها الرجعيون عليه إلا أن النزعة العقلانية وروح البحث والتنقيب وإظهار الحقيقة كانت كامنة في روحه ولم تهدأ، فكتب وحلل ووصل إلى نتائج تعارض تلك المتعارف عليها في كتب التاريخ، مثل مقارنته ثورة الزنج بثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس وكشف الوجه الثوري لقائد ثورة الزنج، وكتب قصته الشهيرة «المعذبون في الأرض» التي تتحدث عن الريف المصري وواقعه الأليم، حتى أن الملك فاروق اتهمه بسببها بالشيوعية. وأعلن في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» بأن التعليم كالماء والهواء للشعب، وحينما طلب منه تولي وزارة المعارف في وزارة النحاس اشترط أن يعلن بنفسه مجانية التعليم في مصر، وكان له ذلك. وعندما يزور تونس في عام /1957/ ويحضر احتفالاً للمتفوقين من الطلبة والطالبات يكتب قائلاً: «راعني قبل كل شيء ما كان يوزع من جوائز على هؤلاء الشباب، فلم يكونوا يحملون مالاً ولا شيئاً يشبه المال، ولم يكونوا يتلقون ثناء يعلن اليوم وينسى غداً وإنما كانوا يعطون كتباً في الأدب واللغة والتاريخ والاجتماع». وفي بداية الثلاثينات يطلب منه رئيس وزراء مصر آنذاك إسماعيل صدقي أن يتولى رئاسة تحرير الجريدة الناطقة باسم الحكومة، لكن طه حسين يرفض ذلك، ويعود رئيس الوزراء ليطلب منه كتابة افتتاحية العدد الأول فيرفض ثانية ولكن بأدب، ويبدو أن السيد رئيس الوزراء لم ينسَ ذلك، وفي عام /1932/ يصدر وزير المعارف قراراً ينقل بموجبه عميد كلية الآداب الدكتور طه حسين إلى وظيفة مراقب للتعليم الابتدائي في الوزارة، لكن طه حسين يرفض هذا القرار الظالم ويرفع دعوى قضائية ضد الحكومة لنقله تعسفياً من وظيفته وكتب في الجرائد عن أسباب هذا النقل، وأن وزير المعارف طلب منه كعميد لكلية الآداب أن يمنح أربعة من ساسة مصر أعضاء حزب الشعب «ألقاب الشرف» بمناسبة زيارة الملك فؤاد للجامعة، لكن طه حسين رفض ذلك قائلاً: «لا يرضي الجامعة أن تمنح ألقابها بأمر من الوزير ورجاه أن يعدل عن طلبه وألا يورط الجامعة في السياسة»، ويغضب الوزير ويضمر الشر تجاه العميد، وتقرر الحكومة في آذار /1932/ فصل «طه حسين أفندي الموظف بوزارة المعارف العمومية من خدمة الحكومة» وأثار هذا القرار بصياغته التي قللت من شأن العميد، وتظاهر طلبة الجامعة هاتفين بأن طه حسين ليس عميداً لكلية الآداب فقط بل هو عميد للأدب العربي. هذه التسمية التي لازمت الدكتور طه حسين، تعتبر بحق أرفع من أي لقب أكاديمي آخر، ولاسيما أنها تسمية شعبية، علمية تليق بالدكتور طه حسين. محمود سالم


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني