PCP

يا عمال العالم اتحدوا

كل ّ شي ء هادئ على الجبهة الغربية» لأريك ماريّا ريمارك إدانة قوية للحروب الامبريالية

كل ّ شي ء هادئ على الجبهة الغربية» لأريك ماريّا ريمارك إدانة قوية للحروب الامبريالية ولد أريك ماريا ريمارك في اوستنابروك ، ألمانيا، عام 1898 لعائلة من الشرائح الدنيا للفئات الوسطى. أجبر عام 1916 على الخدمة العسكرية في الجيش الألماني للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، و أصيب فيها بجروح بالغة. وبعد عشر سنوات من انتهاء الحرب، طبع كتابه بالألمانية والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان " كل ّ شيء هادئ على الجبهة الغربية. وقد حطم ريمارك الأساليب التقليدية لكتابة روايات الحرب ، و أصبحت روايته عالمية و صورت عام 1930 كفيلم ناجح تحت نفس عنوان الرواية لأرنست بورجناين عام 1979. بعد وصول هتلر إلى السلطة عام 1933 في ألمانيا، هاجم النظام النازي رواية" كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" متهما إياها باللاوطنية. وخشية الانتقام لم يبد ِ ريمارك أية مقاومة ضد اعتداءات النظام النازي ، وقام بطبع كتاب آخر عام 1931 باسم " طريق العودة" يصف معاناة المدنيين الألمان من آثار الحرب بعد انتهائها. وإثر نشر الكتاب المذكور الذي اعتبره النظام النازي تحديا له و مثيرا للمعارضة ضده ، هرب ريمارك إلى سويسرا مع زوجته جوتا زامبونا عام 1934. أصدر النظام النازي عام 1934 قرارا بمنع روايتي ريمارك و قام بحرق نسخهما حيثما وقعت عليها عيون النظام وجلاوزته. رحل عام 1939 إلى الولايات المتحدة مثل معظم المثقفين الألمان الهاربين من النازية، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1947. و أثناء الحرب العالمية الثانية قتل النظام النازي شقيقته لصلاتها مع شقيقها. وقد ألهمه عشقه للممثلة مارلين ديتريخ و هيامه بها إلى كتابة روايته " قوس النصر" . وتزوج عام 1958 نجمة سينمائية أخرى وهي باوليت جوددارد ، فانتقلا إلى بورتو رانكو بسويسرا حيث مات ريمارك في 25 سبتمبر عام 1970. تعالج أغلب روايات ريمارك القضايا السياسية والاجتماعية في أوروبا في فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بينهما. تحولت العديد من هذه الروايات إلى أفلام. و ستبقى رواية" كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" أو في ترجمة أخرى "لا شيء جديد على الجبهة الغربية" رائعته وعمله الأعظم لشعبيتها و كثرة الدراسات النقدية عنها. وستبقى هذه الرواية من الأعمال الخالدة المناهضة للحرب و الغطرسة الامبريالية والشوفينية القومية. مناخ الرواية وبيئتها هي الحرب الامبريالية ، أو ماسمي الحرب العالمية الأولى بكل صورها الفظيعة متفوقة على أية حرب اندلعت من قبل، والتي غيرت تغييرا حاسما كل الإدراك الإنساني عن الصراع المسلح ، و مستوياته الكارثية من مجازر و عنف ،و معاركها الفرعية التي استمرت لشهور ، و التقدم التقني الحديث الرهيب ( مثل اختراع الرشاشات الأوتوماتيكية،و الغازات السامة، و الخنادق والمتاريس) ، ما جعل القتل أسهل ، وغير شخصي( أي ّ لم يعد المقاتل يشخص كقاتل شخصي بل جيشه وحكومته هما القاتلان أي تحولت الدولة الامبريالية الى قاتل صريح). إن رواية ريمارك تُؤرخ هذه الجوانب من الحرب العالمية الأولى ، وتصور الإرهاب المخدِّر للذاكرة ووحشية الحرب بالإضافة إلى التركيز المكثف على الأضرار النفسية و السيكولوجية التي يعاني منها الجنود سواء أثناء الحرب أو بعد انتهائها في نهاية الرواية، وان أغلب الشخصيات الرئيسية للرواية يُقتلون ، حيث تركز الرواية على تصوير التأثير المدمر للحرب والسياسة العدوانية للأنظمة الحاكمة على جيل الشباب من الرجال الذين يجبرون على القتال. السيرة الغالبة في رواية " كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" تتمحور حول الجرائم الفظيعة التي تستوجبها الحروب. . مثلما جربها في الحقيقة الجنود في الجبهة، بدون أن تسجل بيانات الحكومتين الألمانية والفرنسية ، و شعارات المجد و مشاهد البطولات ، كما تقوم الرواية بشكل أساسي باطلاع القارئ على صور الرعب غير الرومانسية ، والعبثية والمذابح البشرية. ينقلنا ـ اريك ماريا ريمارك ـ الى واحدة من الجبهات التي فتحتها الأطماع الألمانية للتوسع والاستحواذ كي يصوّر لنا بشاعة الحرب ، وهوس تجارها في إطالة وتوسيع أمدها غير عابئين بأنياب المآسي وحراب الدمار التي تنغرز في أجساد الأمم فتمزق أحلامها الخضر، وتطفئ جذوة الحياة المبتغاة في عيون الساعين إلى اقتطاف لحظة سلام واحدة تتمم لهم حلو العيش الرغيد .. تأتي قوة العمل الروائي فيها وصدقه من كون الكاتب ألمانيّاً خرج من بين جموع المخدوعين بعظمة أمته وسموها فوق الأمم ، فجاءت الرواية ألمانيّة بأبطالها .. أبطال ألتهمتهم محرقة الحرب ، وأفجعتهم بأحداثها المتهافتة فلم تترك لهم جرَّ الأنفاس لعظم هولها وبشاعة دقائقها وتفاقم المرارة والندم اللذين كانا يتناميان في نفوس شخوصها . يتحدّث ( بول ) بلسان جمعي عن أجواء المعسكر حيث ولجه ورفاقه متطوعين .. ستة من زملاء الدراسة ؛ شبّان لم يبلغوا التاسعة عشرة ؛ مبهورون ببريق الدولة العظمى ؛ مهووسون بحمَّى الانتصار والتفوّق تشحذهم خيلاء الملابس العسكرية فيزيدهم غطرسةً واستعلاء . لهذا تراهم يتحملون قسوة التدريب وعنفه ؛ لكنهم يخرجون بمحصلة تثير فيهم الشك واضعة إيّاهم على أعتاب موقف جديد : " أمضينا في الجيش عشرة أسابيع للتدريب اكتسبنا في هذه المدّة ما لم نكتسبه بدراسة عشر سنوات في المدرسة . عرفنا أنَّ زرّاً لامعاً في البذلة هو أكثر قيمة من أربعة مجلدات من فلسفة شوبنهاور . وفهمنا أنَّ ما يهم ليس هو العقل بل طلاء الحذاء ، وليس هو الذكاء بل النظام ، وليست الحرية بل التدريب العسكري . يشير ريمارك في هذه الرواية إلى أن أي جندي لكي يعيش هذه الأجواء الحربية عليه إطفاء ذاكرته والتحرك وفق ما تملي عليه الغرائز، وأن يتحول إلى أقل من كائن بشري ، يتصور باول نفسه "حيوانا إنسانا"، وبقية الجنود الناجين من الموت في المعارك تحركهم الغرائز أيضا. معايشة المعارك بهذه الطريقة حيوانية تماما في هذه الأجواء، حين يطيع الجنود غرائزهم بدل العقل والحكمة ويشمون كالكلاب إمكانيات الأمان حيثما كانت. وبهذا تتحطم إنسانية الجنود، وتسلبهم الغريزة الحيوانية إمكانية الشعور ما يجعلهم يسلكون كوحوش لا كبشر اجتماعيين. لا يكثر ريمارك في روايته " كل ّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" من توظيف الرموز ، لكن أهم رمز في الرواية هو جزمة كيميرخ التي يتناوب على امتلاكها عديد من الجنود بعد موت مالكها. كيمريخ نفسه انتزعها من جثة طيار مقتول، وبينما كان كيمرخ يستلقي على فراش الموت يبدأ مولر حالا بالمناورة لاستلام الجزمة العسكرية. يأتي باول بها لمولر بعد موت كيمرخ ، ويأخذه لنفسه بعد مقتل مولر في الرواية. و يصور ريمارك التأثير الشامل لهذه الظروف على الجندي وكأنه حمل مشلول هلعا و يأسا وإحباطا. وإن الطريقة الوحيدة أمام الجنود للبقاء هي الانفصال عن مشاعرهم، وكبح أحاسيسهم و القبول بهذه الظروف المزرية كنمط جديد للحياة وأمر واقع. وفي نظر ريمارك أن لهذا الانفصال النهائي عن المشاعر له تأثيره التدميري على إنسانية الجنود، فمثلا باول، يتحول إلى كائن لا يمكنه تصور مستقبل البشر بدون حروب ، وهو غير قادر على استذكار كيف عاش في الماضي.و كذلك يفقد القدرة على التحدث إلى أهله ومعاشرتهم . ولم يعد الجنود يندبون أصدقاءهم ورفاقهم القتلى. باول وأصدقاؤه تغرر بهم الأفكار القومية للانخراط في القوات المسلحة ، لكن التجربة سرعان ما تكشف لهم تلك الخدعة الكبرى بعد معايشتهم الحرب و فظائعها و إحساسهم بأنها جردتهم من الروح الإنسانية و حولتهم إلى وحوش على شكل البشر. تعليمات الأساتذة من أمثال كانتورك و هيملستوس تتحول إلى أحقاد تافهة وأفكار مهجورة فارغة ولن تصمد أمام فتك الأسلحة الحديثة الصنع. ويوضح ريمارك أن الجنود في الجبهة لا يقاتلون في سبيل أمجاد الأمة ، بل لمصالح الحكام الطواغيت. باول ورفاقه لا يعتبرون الجنود في الجبهة المواجهة لهم أعداء الحقيقيين، بل يعتبرون الرجال الذين يملكون زمام الحكم والسلطة والمال من أبناء أمتهم وشعبهم ، أعداءهم الحقيقيين ، الذين يضحون بهم في جبهات الحرب ويجبرونهم على مقاتلة ناس أبرياء في سبيل السلطة وتكديس الارباح. وكلّما توغلنا في دروب الرواية وتعددت الصفحات اكتشفنا أهوال الحروب الامبريالية مثلما اكتشف ( بول ) ورفاقه أنهم لم يعرفوا من الحياة غير الخوف واليأس والأحزان والموت ، فراحوا يتساقطون مضرَّجي الدماء ، مبتوري الأعضاء ، ممزَّقي الأحلام تحت السماء الداكنة ، يمزّق سكونها دوي المدافع ، فيسقط الرفيق الأول مهشَّم الساق . ينقل إلى المستشفى ؛ وهناك : " دنونا من فراشه . رأيته فارق الحياة . كان محيّاه لم يزل مبللاً بدموعه وعيناه نصف مفتوحتين . " . ويتبعه ( ديستوس ) في معركة أخرى فيموت بسبب جرح في ظهره يمزّق رئتيه ويقطع عليه أنفاسه فيما يموت ( جادن ) و ( موللر ) و تبتر ساق ( ألبرت كروب ) من فخذه ويموت آخر الأمر ... وأخيراً يحمل الراوي رفيقاً له على ظهره جريحاً إلى مستشفى الميدان ، وهناك يكتشف أنّه إنّما كان يحمل جثَّةً هامدة . هكذا راحوا يموتون في معارك متلاحقة تتخللَّها تداعيات مُرّة وذكريات تعود بهم القهقرى إلى الطفولة ، ففي يوم زار ( بول ) أهله في أجازة قصيرة ؛ وفي واحد من المواقف المؤثّرة تجلس أمُّه عند فراشه تسأله : " هل تخاف كثيراً ؟ " فيجيبها : " لا يا أمّي " . وينسحب إلى الداخل :" أوّاه يا أمي . لا أزال في نظركِ طفلاً . فلِمَ لا أدسُّ راسي في حجركِ وأبكي ؟ ماذا يحملني على التجلّد والتشدد ؟ كم أود أن أبكي لوعتي ؛ فإني في الحق لم أتجاوز دور الطفولة كثيراً . ولم يزل بنطلوني القصير معلقاً بين ملابسي في غرفتي . ما أقرب العهد ذاك بهذه الأيام ؟ لِمَ ذهبت وانطوت ؟ لِمَ لا أضحك ، يا أمي بين ذراعيك ونموت معاً ؟! " وتتخلل الرواية حوارات عديدة ساخنة بمواقفها . قوية بمضامينها .. يقول ( كات ) : _ لا بدَّ من وجود أناس معينين يفيدون من الحرب . فيجيبه ( جادن ) : _ لا يمكن أن يكون الإمبراطور لأنّهه يملك كل ما يشتهي .. فيرد ( كات ) : _ لا بَّد لكل إمبراطور عظيم من حرب واحدة في الأقل تنشب في عهده ، و إلاّ خمل ذكره ولم يذع صيته. ونقف عند حوار آخر يدور حول مصائرهم ، يقول ( بول ) : _ كلّما فكّرت يا ألبرت في زمن السلم الذي نتحدث عنه صوَّرت لي نفسي أن أقوم بعمل لا يتصوّره العقل . عمل يوازي هذه الكارثة التي بتنا بها . لكنني عاجز عن تصوّر ما أفعل . وساور هذا الإحساس ( كروب ) فقال : _ سنعاني أزمة شنيعة ؛ لكن ما من أحد يفكّر في أمرنا . ان سنتين تحت أهوال القنابل والمدافع أمر لا يسهل نسيانه . ان الحرب قد دمرتنا ولم نعد نصلح لشيء . إنها إذا السخرية والألم من خديعة مريرة وجدوا أنفسهم مُقادين في دروبها : " _ ربّما كان الحق في جانب الطرفين .. يستطرد ألبرت _ لكن مدرسينا وقساوستنا وصحفنا يقولون أن الحق في جانبنا وحدنا ، وهو ما نرجو أن يكون صحيحاً . لكن المدرسين الفرنسيين وقساوستهم وصحفهم يقولون أن، الحق في جانبهم هم ؛ فما رأيك في هذا ؟ _ لا جواب عندي . لكن أينما كان الحق فالحقيقة الواقعة أنَّ الحرب دائرة . " وتدور الحرب . يستعر أوارها فتضم إليها دولاً أخرى وتزداد أعداد القتلى ؛ تدمَّر المدن ؛ تُحرق البيوت ؛ يكثر المشردون . ويصبح " ( كل شيء في الحياة عبثا وخداعا ـ هكذا يؤول الراوي بروايته إلى نهايتها _ إذا كانت حضارة آلاف السنوات لا تستطيع أن توقف سيل الدماء التي تتدفَّق مدراراً ؛ ولا أن تحول دون هذه الجروح المروِّعة التي تكتظ بها غرف العذاب في المستشفيات فكيف يكون المصير . إنَّ المستشفى وحده يبيّن ما هي الحرب ؛ ويصوّرها تصويراً مجرداً ) . وتخلو الرواية من قصص الحب التي نجدها كالعادة في روايات أخرى ، وتظهر الحرب كمعادلٍ موضوعي سلبي لعواطف الأبطال وخيالاتهم . لقد أنستهم الحرب فيوض الحب ورياضه ِ ؛ وجعلتهم لا يبصرون غير الخنادق والأسلاك الشائكة تتعلّق بشفراتها الأعضاء البشرية الممزقة وخرق الأقمشة الملوثة بالدماء . ولا يشمّون غير رائحة البارود . ولا يخلو يوم من منظر فئران الخنادق التي تجابههم بحربٍ أخرى غير معلنة : " الحق أن الجرذان هنا بشعة ممقوتة ، فهي مفرطة السمنة ؛ من النوع الذي يسمى بآكلة الجثث ؛ ولها وجوه مروعة شنيعة عارية ، ومنظر أذيالها الطويلة المجردة من الشعر يثير أشد الاشمئزاز . " هي الحرب تتكرس ، فتأكل ستة رفاق من مجموع سبعة . أي بحساب النسبة المئوية 85% كانوا حطباً لنار سعير أشعلها المستبدّون كي ما يحصدوا أوسمة البطولة الملطّخة بالدم . إنَّ ما يميّز هذا العمل الإبداعي الجميل هو صدقه الفائق ، والتعبير عنه بأحاسيس خلت من المبالغة والتهويل ، فتلاحقت فصول الرواية الاثنتا عشرة وتسارعت أحداثها صُعَّداً نحو خيبة الأمل الذي وجد الراوي نفسه وحيداً على أعتابها . ولكي يربك خالق الرواية ذهن القارئ ويصعقه أضاف خاتمةً صغيرة ـ أسطرا معدودة ـ جاءت بلسان الصوت الثالث لتعمّق خيبة الأمل ، ففي أكتوبر من عام 1918 وكما ورد في الخاتمة ـ حيث الحرب وضعت أحمالها ، وثاب الكبار إلى رشدهم ـ بعد جنون طويل ـ سقط بطل الرواية قتيلاً ، ولكن في ذلك اليوم لم يُذكَر خبر استشهاده كي لا يعكِّر صفو الهدنة .. وكُتبَ في التقرير اليومي أن : " كل شيء هادئ في الجبهة الغربية " . متابعة :أسامة الماغوط (صوت الشعب)


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني