PCP

يا عمال العالم اتحدوا

عبد الرحمن منيف ومساءلة التاريخ

عبد الرحمن منيف ومساءلة التاريخ يحيل التاريخ على صعود الرواية مرتين: وجد كلاهما في القرن الثامن عشر مرجعا له, بعد أن اتخذ ت فلسفة الأنوار من الإنسان مبتدأ لقراءة التاريخ كله, وبعد أن اكتشف العقل التنويري معنى الزمن وتقص ى أبعاده في سـيرورة الإنسان. غدا الإنسان, في الحالين, أصل ذاته, يقتفي المؤرخ آثاره الماضية, ويتأمل الروائي حاضره وآفاقه القادمة. وعلى الرغم من تاريخية الرواية, إن صح القول, فقد اتخذ ت رواية <<الإنسان غير الأوروبي>> من التاريخ سؤالاً جوهريا, تتأمل فيه أسباب هزيمة طرف وانتصار آخر, وتوحد فيه اغتراب الإنسان عن مساره الذاتي واغتراب المهزوم عن التاريخي الكوني. وعبدالرحمن منيف, الروائي العربي المشدود إلى التاريخ الجماعي, آثر أن يكون روائيا من <<عالم الأطراف>> بامتياز, ساءل انتصار الوافد الأوروبي وهو يسائل وظيفة آلته المنتصرة, وأكثر من الأسئلة وهو يرى إلى مآل عربي, أخطأ زمن الآلة قبل أن يخطئ زمن الانتـصار. ولأن المآل الجـماعي كله, في زمن ما قبل حداثي, لا ينفصل عن سلطة سياسية, تحد ث آلة القمـع وتمنع تحديث ما خارجها, كان على عبدالرحمن منيف أن يقرأ أقدار الإنسان المهزوم في بنية سلطة تقليدية, وأن ينقب عن أسس خرابها في ماضيها القريب, الذي لم تتحرر منه أبدا. 1ـ الحرية والفرد الطبيعي: ولد الإنسان في الطبيعة حرا, يفعل ما يل بي ميوله, يساوي غيره بلا مفاضلة ولا تمييز. فالطبيعة هي البراءة الأولى والإنسان الطبيعي هو البريء الجوهري الذي امتثل إلى قوانينها, ورأى في الحرية معطى بديهيا. لذا يظهر ما يعارض الطبيعة تشو ها يقترب من الإثم, ويغدو الإثم وباء حين يصدر عن السلطة المستبدة, كما لو كانت الأخيرة نقيضا للطبيعة بامتياز. ومع أن الجوهر الإنساني الذي لا اغتراب فيه لا يتحقق بالعودة إلى <<قوانين الطبيعة>>, وهي عودة مستحيلة على أية حال, فقد آمن عبدالرحمن منيف بـ<<الإنسان الطبيعي>>, وعمل على صياغة ما آمن به بمقولات تتضمن الحرية والعدل والمساواة... وما روايته <<النهايات>>, وتصورها مسكون بالشعر وبأطياف البراءة, إلا صـورة عن الطبيعة السمحاء, التي تنقضها السلطة القاتلة, وعن الإنسان الطبيعي, الذي إن لمسته السلطة انتهى إلى الموت. ت قيم <<النهايات >>تعارضـا بين سلطة لا عقلانية, تساوي بين الصيد والقتل, وطبيعة حكيمة, توازن بين الحاجة والتكاثر. وبسبب هذا الفرق يأخـذ اللقاء بين الطرفين شكل المأساة, تتكشف السلطة كيانا قاتلا, وتتحول الطبيعة إلى وجود ذبيح. ينقد منيف, الذي يند د باغتيال الطبيعة الموس ع, الحداثة السلطوية, التي ت ختزل إلى أدوات الجهاز الأمني, ويند د بالمدينة المشو هة, التي تحو لها السلطة إلى سجن كبير, يستنكر الحداثة وتستنكره في آن. يقف <<ابن الطبيعة>>, نقيضا للسلطة والمدينة والحداثة السلطوية, طرفان يعوزهما التكافؤ والتجانس ولا يلتقيان, فإن تم اللقاء حصد الهلاك البراءة واحتفظ بالدنس. تحكي <<النهايات>> عن صياد بريء يقود <<مسؤولين>> من المدينة في رحلة صيد مشؤومة, مسرحها صـحراء تحتقب <<عقلانية فطرية>>, توازن القحط بالخصب وتنكر القتل وتعف عن الصيد. والصحراء, كمـا يراها منيف, هي الطبيعة _ الأصل, التي تعالج مخلوقاتها بحكمة غامضة, تكفل تجد د المكان وتصد عن الإنسان المجاعة. ولأن الروائي يكره الكل الطاغي الذي لا يعترف بالأجزاء المستقلة, فإن <<صحراءه>> شخصية حية حرة واضحة التفاصيل, لها مواسم من الفرح والكآبة والغضب والاعتدال, كأنها مخلوق شاسع الأطراف يستفزه الأذى وينعشه الحنان. ولعل هذا التصور, الذي يجعل من الصحراء كيانا حيا جديرا بالرعاية, هو الذي يعي ن <<بطولة المكان>> مقولة جمالية _ إيديولوجية في تصور منيف للعالم, كما لو كان الروائي ي ؤ ن س ن المكان ويضع في المكان المؤنسن بطولة واسعة. لذا تكون شخصية الصياد, وهو ابن الطبيعة الخالص, امتدادا نوعيا للمكان المؤنسن, يقاسمه البطولة البريئة, ويشاطره عفوية هي شرط البطولة والوجود السوي. ومع أن القارئ يرى في الصحراء مكانا محتشدا بالرمال فإن منيف, الذي يحترم الحي ويبحث عن الجمالي فيه, يصير الصحراء وجودا نابضا, يعرف العزاء والاحتفال. تنطوي <<النهايات>> على أطروحتين متضافرتـين: جمالية الطبيعة التي تشتق منها الطبيعة الإنسانية, وحرية التجلي التي تحايث العلاقتين معا. بعد النقاء يأتي ما يدن سه, وبعد الصيد الأليف يأتي القتل الفاحش, وبعد البراءة الحرة تمثل السلطة, التي تقو ض البراءة والحرية. ولن تكون رحلة الصيد, التي يرافق فيـها <<ابن الطبيعة>> رموز السلطة والحداثة الشائهة والمدينة المقزمة, إلا رحلة إلى التهلكة, بسبب التناقض الكلي بين الطبيعة الأولى والطبيعة الثانية, أي السلطة, التي استبدلت بالتسامح العنف وبالكيف الكم وبالبطولة العفوية الاغتيال المنظم. سعى منيف, بحذق فني خصيب, إلى توطيد المعنى وتكثيف الدلالة, كاشفا عن الفرق بين تجليات الحياة ووجوه الموت, إذ في طوية الصياد مالا يتفق مع طوية السلطة, وإذ في رحابة الصحراء مالا يأتلف مع مدن الحداثة الخائبة. لذا تكون الصحراء مؤنسنة, بقـدر ما تكون المدينة السلطوية عدوا للإنسان, ويكون إنسان الصحراء نقدا لإنسان سلطوي مي ت الملامح. حتضن الصياد كيف الطبيعة في وجوهه المتنوعة, فهو الحصان والفهد والغيمة, بريء يجهل المخادعة وكريم لا يعرف الأنانية, يتبادل مع الطبيعة الحراسة والرضا, ويتخذ من ظلالها ساعة لا تقبل بالخطأ. إنه الإنسان الغنائي, فلسفته في سعادته, وسعادته تجهل العسس وجيوش الظلام. وفي الجهة الأخرى طبيعة أخرى, قوامها الجشع والاحتفال بالكم والخلط بين المهارة وغزارة النيران. تقول الـرواية وهي تعر ض بأهل المدينة: <<تكلموا بتلك الطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, التي لا يتقنها إلا المتعلمون وأبناء المدنس(1). تنقض المدينة المتسلطة الصحراء, وينقض الكذب السلطوي حقيقة الطبيعة. وفي هذا الفرق تكون السلطة طبيعة ثانية, توازي الطبيعة الأولى ولا تكتفي بها, إنها الخبث والمخادعة والكذب والجشع وكل ما هو غريب عن الفطرة الإنسانية الأولى. وواقع الأمر أن منيف, الذي يكره السلطة كرها لا مزيد عليه, يركن إلى مجازين يحقـق ان مقاصد الروائي: المجاز الأول هو الطبيعة - الأصل, الكاملة في نقائها, والـمجاز الثاني هو الصـيد الذي يغتال المكان المقدس وينتزع منه الحياة. بهذا المعنى, يكون الصيد السلطوي, وهـو تعبير عن جوهر السلطة, فعلا مرعبا يختلط فيه القتل بالكفر واغتيال الحياة. كأن السلطة شر مكتمل يهاجم الإنسان والحياة والطبائع المقدسة, طامعا ببناء عالم لا يعرف الأخلاق والمقدسات(2). حين تتحدث الرواية عن القادمين من <<المدينة>> تقول: <<أولئك الأغنياء الذين يملكون خيام الحديد ويتحركون بتلك الطريقة كأنهم أفواج الجراد بحثا عن الغزال>>. يكثف مجاز <<خيام الحديد>> معنى الحداثة الهجينة الصادرة عن سلطة أكثر هجنة, فليس في أدواتها خيمة عادية ولا بيتا من حديد, بل ذلك الشيء الذي لا هوية له, الذي يترجم العقل في أكثر أشكاله لا عقلانية. ولعل هذه الهجنة السلطوية القاتلة, هي التي تستنفر عاصفة رملية عاتية تعبيرا عن غربة الصحراء النقية عن سلطة الرجس والدنس, وهي التي تقود الصياد البريء إلى موت قاس, كما لو كان الذهاب إلى الموت هو شرط احتفاظ الإنسان ببراءته المهد دة: <<كان عساف مدفونا في الرمل, لم يكن يظهر إلا رأسه, وفوق الرأس تماما كان الكلب رابضا,...., لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجا حول جسد عساف, خاصة رأسه, كان يحتضنه>>. في منظور بالغ التشاؤم والأسـى, وكما تظهر الرواية في فصلها الأخير, يعقد منيف مقارنة بين <<أبناء المدن>> وحيوانات الطبيعة, ويرى الحيوان أرقى من <<الإنسان المتسلط>> وأفضل منه, فالأخير امتـداد للطبيعـة وأفعاله وميوله مكتوبة في القوانين الطبيعية(3). أنتج منيف في رواياته المختلفة خطابا تحريضيا, ينقد الراهن العربي ويدعو إلى مدينة غائبة مؤمنا, رغم تداعي السياق, بالتقدم وأفكار التنوير الكلاسيكية. والتشاؤم الذي أغلق به رواية <<النهايات>> محدد وبالغ التحديد, مديد هو وشاسع في علاقته بالسلطة, ولا وجود له في علاقته بالإنسان العربي, الذي عليه أن يتحرر من السلطات الرابضة عليه. ليس غريبا أن يتحدث منيف عن <<الساسة>> بلغة شديدة العنف, يخالطها التنديد والاحتقار, كأن يتحدث عن: <<جو السياسة الأمية والمتقلبة التي تغمر الساحة العربية من أقصـاها إلى أقصـاها>>, وعن: <<سيطرة نمط من السياسيين الذين يتصـفون بالشطارة والقسوة والانتهازية وصـولا إلى الخـسة, في آن>>4). إن جملة الصفات السلطـوية, التي تحتـقب السلـب في أكثر أشكاله شدة, هي التي تنتج سلطة مأخوذة بولع الكم والمصـادرة. وهذا ما يعطي مأساة الصياد شكل البداهة: فهو مفرد حر في فضاء سلطـوي لا يقبل بالفردية, وهو إنسان نزيه سوي في زمن سلطوي يطارد النـزاهة ويعتنق التشوه. 2ـ سلطة التشوه والهزيمة: جاء لويس عوض, وهو ينقد موضوعيا فترة وطنية منقضية, بتشبيه مسكون بالمفارقة مؤد اهما يلي: كان البشري قادون إلى غايات وطنية كبيرة مقيدين بالسلاسل. إذا كانت الفترة الوطنية المنقضـية مزيجا من القـيود والغايات الكبيرة, فإن الفترة التي أعقبت هزيمة عـام 7691, وقد تركت جرحا لا يندمل في روح عبدالرحمن منـيف, استبقت القيود ووأدت الغايات الكبيرة. وعن تلك القيود الثقيلة المتناتجة وضع عبدالرحمن رواية <<شرق المتوسط>> التي تصر ح, وهي تقرأ واقع التداعي العربي, بأفكار أربع: السجن الصغير تلك الصناعة السلطوية المتألهة التي تعيد خلق السجين من جديد, كي لا يخرج كما جاء أبدا. السجن الكبير, أي المجتمع, الذي ضيق عليه وحجر على إمكانياته وقيدت حركاته حتى غدا ميتا أو اقترب من الموات. المنفى, الذي هـو الحيز المتاح الذي يفك الإنسان فيه قيوده الأولى, وينتظر أحزانا قادمة. والفكرة الأخيرة هي: الوطـن, الذي تختصـره السلطة إلى <<أرض>>, لا كرامة لها, وتعيد اختصاره إلى ملكية سلطـوية, تتحكم بالأرض وبالرزق والبشر. نددت <<شرق المتوسط>> بـ<<القمع السياسي>>, إن صح التعبير, منتهية إلى فضاء كابوسي خانق يحاصر القارئ ويطارده ويستفزه, كما لو كان يشاطر السجين زنزانته ويقاسمه عذابه. أغلق الروائي باب <<التعويض>> إغلاقا كاملا, فلا بطولة فردية متوهمة, والأبطال الوهمي ون الذين يمد ون الشعب بانتصار مرغوب لا وجود لهم, و<<تفاؤل النهايات>> الذي لازم <<الرواية الواقعية>> غائب الغياب كله, ذلك أن الروائي استبدل بـ<<التعويض>> تحريضا د فع إلى نهايته الأخيرة. جاء هذا الاستبدال عن إيمان منيـف بسلطة الكلمة التحريضية, وعن إيمان مواز بضرورة تمرد الإنسان على وضع يهين إنسانيته. وكانت هزيمة حزيران, في الحالين, هي المرجع الذي يقرر شكل الكلمة وموضوعها. ولهذا لا يمكن الفصل بين <<شرق المتوسط>> ورواية <<حين تركنا الجسر>>, رغم الفرق الظاهري بينهما, ذلك أن سلطة القمع هي تلك التي جاءت بالهزيمة. <<حين تركنا الجسر>> نص نموذجي عن المهزوم الذي خذل قضيته, وكتابة متوترة عن وعي شقي يتاخم الجنون. والقضية هي الجسر المهجور, والقضية - الجسر هي الوطن الذي لم يجد في <<حرب حزيران>> من يصون كرامته. لذا تقول الرواية: <<العجز يسري في الدم, وسيأتي يوم لا ينسل رجال هذه الأمة إلا الأقزام والمشوهين, والأقزام والمشوهين لا يعرفون إلا أن يموتوا رخيصين>>5). يأتي القول غاضبا مباشرا منذرا بهزائم قادمة تحايثه, في إيقاع متصاعد, طبقات إشارية توطد تشاؤمه, تتحدث عن: <<العيون المهترئة, الرجل المخصي, القرد الأسود وأضواء تنصب على الشارع البارد برخاوة عاجزة..>>. يبوح الراوي, وهو جندي عادي مهزوم, بكوابيسه الثقيلة, دون أن يتهم, إلا بشكل ومضي, صناع الهزيمة, كأن الخوف الموسع يمنعه عن الكلام الصريح في <<الثكنة>> وفي الغابة الموحلة التي يطارد فيها طائرا أسطوريا لا وجود له. بهذا المعنى, فإن <<الخصاء>>, الذي تقاربه الرواية بإشارات مختلفة, يتوزع على المؤسسة المهزومة وعلى الجندي البائس الذي ينتسب إليها. إنه السجين الذي ي قاد مقيدا إلى معركة قرر مصيرها. إذا كان عبدالرحمن, الوطني المنغمس في قضايا الأمة انغماسا مرهقا, قد أنتج في <<شرق المتوسط>>, فضاء كابوسيا خانقا يحاصر القارئ ويثيره في آن, فإن ما جاء به في <<حين تركنا الجسر>>, وبفنية مدهشة, يستثير القارئ ويحضه على التأمل والمساءلة. لم تترك الرواية الأولى للتساؤل الطليق إلا حيزا محدودا, تاركة الكابوس اللاعقلاني يكتسح غيره, بينما جمعت الرواية الثانية بين الكابوس وفسحة التساؤل, منتظرة بشرا يردون على الهزيمة ولا يقبلون بتأييدها, ذلك أن الرد على الهزيمة متاح أن تحرر الإنسان من قيده والوعي المهزوم من أوهامه. ولهذا يعيد <<الطائر الأسطوري>>, بعد مطاردة طويلة شاقة, صياغة الصياد ووعيه, يحرره من <<عقد الخصاء>>, ويدلل على أن <<خصاء السلطة>> لا يقع, لزوما, على جميع الذين يأتمرون بأوامرها. صاغ عبدالرحمن رواية <<حين تركنا الجسر>> باقتصاد إشاري محسوب, ي ست هل بـ<<بنات آوى>> ويختتم ببشر ينتظرون أفقا مغايرا. تبدأ الرواية بصراخ حيواني وصياد معطوب وأرض موحلة ومناخ شتائي بارد وكلب ذليل, واضعة على لسان الصياد المخذول لغة فاحشة وبائسة في فحشها, تستدعي القرود والأفاعي والعناكب والجرذان والفأر القطبي. تصدر الكلمات عن مركز مأزوم, متوسلة <<مونولوجا>> عصابيا, يخلط الحاضر بالماضي والمخلوقات بالأشباح, كما لو كان زمن الذاكرة المثلومة هو الزمن الـوحيد الذي يقرر معنى العالم. من هذه العناصر المختلفة, التي تستولد فيها اللغة المتـدفقة الرموز والإشارات والحكايات, بنى منيف معنـى الهزيمة, ووضع في الهزيمة معنى السلطة, وقرأ الطرفين في معنى <<الخصاء الموسع>>. سردت <<حين تركنا الجسر>> سيرة جندي مهزوم وسردت, بشكل مضمر, سيرة سلطة تقمع الجندي وتنهار أمام العدو الخارجي. وإذا كان في سيرة الجندي ما يفصح عن هموم الإنسان العادي, فإن في السيرة المضمرة ما يحكي عن سلطة متداعية. يظهر سؤال الهزيمة من اختصاص الإنسان العادي, ويتجلى اختصاص السلطة في الدفاع عن الشروط التي تنتج الهزيمة. والسؤال الآن: ما العلاقة بين هذا كله وموضوع التاريخ الذي قاربه منيف في <<مدن الملح>> راجعا إلى بدايات القرن العشرين, وأعاد مقاربته في <<أرض السواد>> راجعا إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر? ما هي الأسباب التي أملت على الروائي أن ينصب ذاته مؤرخا مغايرا وأن يذيب في عمله الفني معلومات تاريخية واسعة? لم اعتقد المؤرخ أن في الحاضر نقطة عمياء وأن في الماضي ما يضيء الحاضر ويعيد تخليقه أكثر وضوحا ?. طرد منيف السؤال وبحث عن الإجابة مرتكنا إلى جملة من العلاقات متضافرة: في البدء كانت السلطة التي يعقبها فرد مقموع لا ذاتية له وتتلوها هزيمة لا هرب منها. وعلى هذه السلطة ردت روايات: <<شرق المتوسط, حين تركنا الجسر, النهايات, الأشجار واغتيال مرزوق, وصولا إلى <<الهنا والآن>> أو شرق المتوسط مرة أخرى..>>. بيد أن اتساع القمع وتمد د أطرافه بشكل غير مسبوق أربك السؤال وأضاف غموضا إلى السلطة, فبدت أحجية أو قريبة من الأحجية. وهذا التلغيز السلطوي, الذي يحتاج إلى ما يكشف عنه, دفع بعبد الرحمن إلى الرجوع إلى الماضي القريب, معتمدا على المعرفة الموثقة والتجربة الذاتية وتأمل المعيش العربي. ليس غريبا أن يكتب منيف <<سباق المسافات الطويلة>>, قبل أن يكتب <<مدن الملح>>, مبتدئا من <<النفط الإيراني>> ومتخذا من بلد مجاور لبلاد العرب مجالا لاختبار أسئلته. وبعد أن اختبر ما يود اختباره في <<أنموذج غير عربي>>, طب ق ما وصل إليه على <<النفط العربي>>, منتهيا إلى قضية شائكة دعاها المنظرون بـ: علائق الاستعمـار والتبعية. بدأ السؤال من وضع الذاتية الإنسانية الذي يستدعي موضوع السلطة, وانتـهى إلى سؤال الهوية الوطنية, الذي يستدعي السلطة والاستعمار. ومع أن الرواية, بالمعنى النظري, تدور حول <<الفرد المغترب>>, الذي شاء أمرا وأفضى به طريقه إلى أمر آخر, فإن عبدالرحمن منيف, الذي انشغل بهموم الأمة لا بمصائر الأفراد, اتخذ من <<الهوية القومية المغتربة>> موضوعـا له. توزع الموضوع, الذي يبحث عن معنى السلطة في تاريخها, على <<شرق المتوسط>> و<<بلاد النفط>> إلى أن وصل إلى <<عراق القرن التاسع عشر>>. <<لا نظرية في السياسة بلا نظرية في التاريخ>> يقول بعض الفلاسفة, و<<لا رواية عن الحاضر العربي بلا رواية عن ماضي السلطة التي تحكم الحاضر>> يقول منيف. لم يقبل منيف بما جاء به المؤرخ السـلطوي, الذي إن لم تحاصره الرقابة حاصرته منافع السلطة, فانتدب ذاته مؤرخا مغايرا, يراوغ السلطة ويتوجه إلى <<أطياف>> السلطة البديلة. وكان على منيف, وهو يراوغ سلطة تكره التحديد والمسميات الصريحة, أن يمحو الأسماء ويكتفي بـ<<شرق المتوسط>>, إذ المدن صريحة ومقنعة في آن, وأن يخلق <<موران>> مجازا شاسعا لـ<<العواصم العربية>>. ولعل سعيه إلى الوضوح, كما ميله إلى مقارنة حقبة تاريخية بحقبة تاريخية أخرى موازية أو قريبة, هو الذي أرسل به إلى عراق الربع الأول من القرن التاسع عشر, إذ المكان عار لا يحتاج إلى تمويه, وإذ ما يربض على الحاضر مربكا الجميع يتراءى أكثر وضوحا ولا يربك أحدا. كتب منيف مالا يكتبه المؤرخ السلطوي, أو كتبه بشكل ناقص ومجزوء, مازجا صحيح التاريخ بالكلمات الموحية, التي تضع في النص المكتوب نصا آخر ينهض من ذاكرة القراء وينتظر من يكتبه. وهذا التوتر بين نص وطني - أخلاقي تجب كتابته بلا تمهل ولا تقاعس وآخر غائب ينتظر كتابة محتملة, هو الذي خلق عقدا شفهيا بين الروائي وقارئه, وأقام بينهما حوارا صامتا قوامه <<اللغة الوسطى>> التي كتب بها عبدالرحمن منيف رواياته. تنكر <<اللغة الوسطى>> التصور التراتبي التقليـدي للعالم, الذي يضع إنسانا فوق آخر ولغة فوق غيرها ويقمع, لزوما, <<لغة العوام>> بـ<<لغة الخاصة>>. ولغة كهـذه, وهي تحتفي بالبشر لا بالقواميس, تصرح بتجانس منظور الكاتب والقارئ, الذي هو شـرط العقد والحوار وتعبير عن تجربة تاريخية واحدة. وبداهة فإن كاتبا, ينـكر المراتب ويستـنكر الطبقات الكتابية, يرفـض أن ينصب قراءته للتاريخ مرجعا للحقيقة, بل يرى أنه يضيف قـراءة جديدة إلى قراءات أخرى, تاركا القارئ يقارن ويصل إلى ما يريد حرا. 3ـ السلطة ومعنى التاريخ: تتعي ن <<مدن الملح>> رواية عن السلطة المتنفطة ورواية عن السلطات العربية جميعا, محدودة النفط كانت أو لا يوجد فيها نفط على الإطلاق, فنمط الوجود النفطي, ومنذ بداية السبعينيات الماضية, لف المجتمعات العربية كلها. و<<الواقعة النفطية>>, كما كتبها منيف, تتحد د موضوعا وإشارة في آن: مادة خام هي معروضة للبيع والشراء, تعطي <<ريعا ماليا>> هائلا تتحكم به السلطة وتتصرف به من وجهة نظر سلطوية, بما يضمن استمرارية السلطة وديمومة احتكارها للريع النفطي. والنفط أيضا إشارة, تلت فورته هزيمة حزيران وانصرف إلى اجتثاث الزمـن العربي الذي سبق الهزيمة. بهذا المعنى تكون <<الواقعة النفطية>> واقعة تاريخية, لا بمعنى ظهور النفط وارتفاع عائداته, بل بمعنى استثمار الريع النفطي في هزيمة زمن عربي محدد ونصرة زمن جديد, يقطع مع الأول وينبت عنه. ليس غريبا, والـحال هذه, أن يتحول النفط إلى علاقة سياسية وثقافية ودينية, يتكون في حقولها المختلفة: السياسي النفطي, المتحالف مع السلطة المتنفطة, والشيخ النفطي الذي يعطي الدين تأويلا جديدا, والمثقف النفطي الذي يدمن التعميم ويبتعد عن التخصيص... انصرفت السياسة النفطية, المعمم ة عربيا, إلى إنجاز مهمات ثلاث: العبث بـ<<الجغرافيا الـتاريخية>>, التي تجعل <<النفط - العاصمة>> يسوس غيره من العواصم, مستبدلا بالتاريخ والثقافة والتقاليد الريع النفطي معيارا مسيطرا, يدعم ويقو ض وينشئ ويحاصر. التشكيك المتواتر بالزمن العربي الحديث, الذي امتد من نهايات القرن التاسع إلى هزيمة حزيران, اعتمادا على <<مقولات نفطية>> قوامها الكفر والمروق والاستبداد والتبعية للغرب والتعامل مع الأفكار والنظريات الوافدة. أما العنصر الثالث, وهو الأكثر أهمية وخطرا, فيتجلى في تمديد الفضاء السلطوي تمديدا غير مسبوق, وتقليص الفضاء الشعبي - المدني إلى حدود الإلغاء, ذلك أن الخطاب النفطي الجوهري, الذي ساوى بين المقدس والسلطة, رأى في الأحزاب السياسية والانتخابات والبرلمان والديمقراطية والإبداع الأدبي والفني كفرا صريحا, يحاكي <<الغرب الكافر>> ولا يستلهم الأصل الثابت القديم المفعم بـ<<الإيمان>>. هذه العناصر الثلاثة, التي تشكل نصا مستترا يحايث النص المعلن في <<مدن الملح>>, هي التي وضعت رؤية تاريخية في عمل منيف بمعنى مزدوج: فإذا كان في اكتشاف النفط, الذي استقدم قوى غربية وغريبة لا ترحل, فعل تاريخي لا مراء فيه, فـإن في آثـار النفط, بعد هزيمة عام 1967, فعلا تاريخيا أشد خطرا, نقل المجتمـع العربي من مفـردات الحداثة الاجتـماعية إلى إيـديولوجيا ماضوية بطرة, تعالج الحاضر العربي المهزوم بماض مخترع, حاجبة المعيش المشخص بطبقات بلاغية لا تنتهي. لم يكن غريبا, وقد غدا النفط مجازا موسعا, أن يشخص منيف الزمن العربي الجديد بشخصية روائية شاسعة, <<صبحي المحملجي>> جاءت إلى بلاد النفط من بلد لا نفط فيه. تمتد هذه الشخصية, في حيز الكتابة, من نهاية الجزء الأول إلى جزءين تاليين, وصولا إلى الصفحات الأخيرة من الجزء الأخير, كأنها تسرد في مسارها مسار السلطة النفطية. فهي على مستوى المكان تمر بلبنان ومصر وسوريا وأوروبا وأمريكا والخليج, وهي على مستوى القيم تعطي تعاريف جديدة للتجارة والصدق والكذب والدين والأدب, وهي على مستوى المهنة كثيرة الصفات: الطبيب, التاجر, الصيدلاني, الفيلسوف, ناصح الحاكم, رجل الإعلام ورجل الأمن وهي <<المفتي>>, الذي يضع الحدود بين المحلل والمحرم. يتراءى التاريخ في <<المجاز النفطي الموسع>> في اتجاهات ثلاثة على الأقل: تحقق <<العروبة المهزومة>>, بعد أن فات العرب تحقيق <<عروبتهم المنتصرة>>, التراجع المروع لـ<<المثقف الرسولي>> أمام <<كاتب>> رسالته الوحيدة نشر التضليل وتكثير الامتياز الذاتي, انحطام القيم التي تحو ل <<الربح>> إلى مرجع للحقيقة. لهذا يحيل <<المحملجي>>, بالمعـنى الروائي, على ذاته, فهو الشخصية الواضحة المحددة الشامية الأصول, التي مارست <<مهنها>> في بلاد النفط وخرجت بثروة هائلة, وهو المجاز المتعدد الأطراف الذي نقرأ فيه تحو لات المجتمع العربي من الهزيمة إلى التداعي والانحطام. يظهر <<الحكيم الشامي>>, في مستـوى منه, فردا مستقلا له عائلته وأفراحه وأحزانه, ويظهر, في مستوى آخر, وجودا مختلف الأقاليم لا وجه له, ذلك أنه علاقة داخلية في تكون السلطة النفطية, بقدر ما أن الأخيرة علاقة داخلية فيه, فما كان قطريا <<تعرب>>, بعد أن داست سنابك <<العروبة المهزومة>> بقايا العروبة التي كانت تبحث عن الانتصار. يتعين <<المحملجي>> علاقة داخلية في السلطة النفطـية وتتعين الأخـيرة علاقة داخلية فيه, فهي تحكي بدايته وصعوده وهو يحكي نهايتها المأساوية. ولـعل هذه الرؤية, وهـي فنية - تاريخية في آن, هي التي فرضت على <<الحكيم الشامي>> أن يسهم في <<إرشاد>> السلطة النفطية وأن يعمل في جهازها الأمني وأن يقترح سياستها الإعلامية, وأن يهجس بوضع <<سفر عظيم>> عن فضائلها اللامتناهية. ولعل هذه الرؤية أيضا, وهي منطقية وتاريخية, بلغة أخرى, هي التي أملت على الشخصية - المجاز أن توسع أعمالها التجارية في سوريا ولبنان, وأن تستقدم <<عقولا>> من مصر, وأن تنشى <<ولدا نجيبا>> أمريكي الهوى وشرقي الإيمان. تترابط العلاقات جميعا على المستويين المنطقي والتاريخي, من ناحية, وعلى مستوى التأويل ومستوى الرؤية, من ناحية ثانية. يظهر الوجه الأول في التحولات الاجتماعية العربية, التي تحتقب الهجرة واختلال المعايير وتنفيط الثقافة والسياسة والدين, ويستبين الوجه الثاني في المآل الأخير, حيث الشخصية - المجاز متهدمة متداعية مقو ضة, تتساقط وحيدة بلا ضجة ولا كبرياء. المآل المرتقب قائم في الرؤية الفنية, لأن جوهر النهاية ماثل في جوهر البداية, ولأن في البداية والنهاية عقم خادع المظهر, تذروه الرياح بيسر, بعد حين. في مسار الشخصية - المجاز, ولقبها الضيق هو <<المحملجي>>, ما يؤول المسار العربي, وما يخبر عن تاريخ مأمـول مضى وعن آخر ضنين التفاؤل. إذا كان نجيب محفوظ قد وضع في <<أحمد عبدالجواد>> = بطل الثلاثة, عبث الزمن وسطوة الأقدار, فقد وضع عبدالرحمن منيف في <<صبحي المحملجي>> - بطل مدن الملح - عبث العرب بمصائرهم وسطوة التخلف المستسلم, التي تجعل الزمن العربي يعيد إنتاج تخل فه, الذي لا يكف عن التوالد. يتبدى معنى التاريخ في شخصية <<المحملجي>>, مرآة ذاته ومرآة الزمن العربي, في اتجاهات متعددة: إعادة خلق المهنة الإنسانية (الطب) بما يصير ها مدخلا إلى الشر ويحرر ها من طبيعتها الأولى الخيرة ويدرج فيها طبيعة شريرة منحطة... انحطاط الاستمرارية البيولوجية التي تعين <<ابن الطبيب>> عربيا صوريا يـرى في الأرض العربية مصـدرا للربح ويضع خبراته المهنية تحت تصرف أعداء العرب... الاتـجاه الثالث وهو الأكثر أهمية: أسهم <<المحملجي>>, المخادع الكاذب الجاهل, إسهاما كبيرا في توطيد السلطة الجديدة, مدللا على أن صفات السلطة من صفاته وأن فراغها القيمي - الأخلاقي انعكاس لفراغه اللامحدود... يتجلى الاتجاه الرابع في سرعة صعود <<الفراغ السلطوي>> وسرعة أفوله, كما لو كان كيانه <<ملحا>> يتداعى إن لامسته الأمطار ويتبد د إن عبثت به الرياح... تأخذ هذه الاتجاهات معنى محددا حين تفسيرها بمنظور العالم عند منيف: فإذا كان تقدم التاريخ في منظور الروائي هو ارتقاء الأخلاق وتقدم القيم, فإن في ظهور السلطة النفطية ما يدلل على تراجع التاريخ إلى الوراء, لأن ممارساتها نقض للأخلاق واعتداء على القيم. في الزمن العربي المخذول زمن تاريخي مختلف يلهو بالمخذول ويتقدم منتصرا. والزمن الآخر هو الزمن الأوربي, الذي يعرف الاكتـشاف والتقـنية, ويعرف أن احتكار العلم التطبيقي مدخل وحيد إلى احتكار الانتصار. وهذه التقنية المتطـورة التي تقلب طبيعة عذراء وتروع إنسانا أعزل هي التي جعلت منيف يضع في <<مدن الملح>> مشـهدا لا ينسى عن الأشجار المتوجعة الصارخة المتضرعة التي تجتثها الآلات وترمي بها جانبا. تتكـشف الآلة امتدادا نوعيا هائلا للجسد الإنساني تهيمن على الإنسان والطبيعة معا, كما لو كانت طبيعـة أخرى سواها العقل المبدع وغزا بها إنسانا لا يزال يكتـفي بأطرافه. غير أن الآلة, التي يراها الإنسان الأعزل مرآة لكل أرواح الأبالسة, تعلن في مهارتهـا اللامسبوقة عن <<تفاوت الأجناس البشرية>>, إذ الفعل والإدارة والقرار لـ<<إنسان الآلة>>, وإذ الخـضوع المندهـش لـ<<الإنسان البدائي>> المتد ثر بثقافة الأدعية. وإذا كانت <<مدن الملح>> قد عبر ت عن <<التفـاوت>> في اللقاء التراجيدي بين الطبيعة العذراء المستسلمة وذلك الحديد القاطع القارض الـهائل الصـوت, فقد أعادت المتواليات الحكائية إنتاج التعبير في ثنائية ثابتة متعددة الوجوه: الفاعل والمتفرج, المرجع والمحاكي, الأعلى والأدنى, الذهني واليدوي, التابع والمتبوع... صـاغ عبدالرحمن منيف <<التفاوت>>, من وجـهة نظر الإنسـان المغلوب, معتمدا على ثنائية: الآلة والإنسان الأعزل, دون أن يقع في فتنة المنتصر, التي تجعل المغلوب يرى في الغالب مرجعا له, ويرى إلى مستقبله في مستقبل <<إنسان الآلة>> الذي صادر مستقبله. ولهذا واجه منيف التاريخ التقني بتاريخ القيم, معلنا أن إبداع الآلة لا يعبر بالضرورة عن التقدم الإنساني, ذلك أن التقدم الجـوهري قائم في القيم, التي تأمر بالمساواة والعدل وعدم الاعتداء على الآخرين. فلكل شعب تاريخ خاص به, مثلما أن لكل مجتمع ثقافة أنتجتها بيئته, دون أن يقاس الاختلاف بمعايير الأعلى والأدنى, طالما أن جوهر التقدم الإنساني قيمي أولا. ولهذا لا يكون الإنسان التقني متفوقا على <<ابن الصحراء>>, بل أنه, وبالمعنى التاريخي, متخلف عنه, لأن <<ابن الصحراء>> يصر ف حياته مستقلا ولا يعتدي على أحد. يضيء التصور السابق, الذي ينقض الآلة بالقيم, معنى الشخصية - الأحجية: <<متعب الهذال>>, الذي لا ينتصر ولا ينهزم ولا يحضر ولا يغيب, لأنه يحتقب في وجوده دلالتين: فهو تكثيف نوعي للقيم الإنسانية من ناحية, يقول بالتضامن والخصب والتجدد والتمرد والكرامة, وهو إحالة على تاريخي قيمي مصادر, يتطلع إلى استئناف وجوده المستقل. يواجه منيف التصور الاستعماري للتاريخ, الذي يعطف القوة على الآلة والآلة القوية على الغزو, بتصور مغاير, ينقض الآلة بالجوهر الإنساني وينفي القوة العارية بمنظومة القيم السوية. وهو في تصوره هذا مشدود إلى فكرة التميز, التي تقبل بوحدة المجتمعات الإنسانية, دون أن تقبل بتماثل دروبها إلى التقدم. لذا يتحدث <<هاملتون>> عن ضرورة حوار البحر والصحراء, سعيا وراء التوازن الحكيم والأواصر الإنسانية المعتدلة, مختزلا الاستعمار إلى وسائط جغرافية محايدة, كما لو كان من صالح الصحراء أن تعانق البحر ومن فضائل البحر التلط ف مع الصحراء ومعانقتها. على مبعدة عن قول استعماري متغطرس يلتبس بالتواضع الزائف, يأتي <<متعب الهذال>> بحكمة بسيطة ترى كل إنسان في أرضه وترفع السلاح في وجه الذي كسر القاعدة. منظومتان من القيم مختلفتان, ترى الأولى في المساواة مرجعا, وتنص ب الثانية القوة مرجعا لكل المراجع. بيد أن عبدالرحمن لا يقول بالتمايز كي يظهر فقط الفرق الموضوعي بين وجهة نظر إنسان الأطراف وإنسان <<المركزية الأوربية>>, بل يقـول به أيضا ليفتح أمام المغلوبين أفقا ويمد هم بتفاؤل ضروري, فاعتناق الأمل ضروري لهؤلاء الذين لا أمل لهم. إن القول بتمايز الغالب عن المغلوب إشارة أولى إلى وضع إنساني شـاذ, بقدر ما هو إشارة إلى وضع إنساني قادم يهزم الشاذ ويستعيد السوي. أخذت <<مدن الملح>>, وهي تتأمل تاريخا كونيا يهزم التقني فيه القيمي, بوجهة نظر <<إنسان الجنوب>>. فقد كتب <<الشـمال>> المنتصر روايته الذاتية وكتب فيها أيضا رواية الطرف الذي هزمه, مبرهنا أن المنتصر يكتب سيرة الغالب والمغلوب كما يشاء. وجاء منيف ليحر ر تاريخ المغلوب من أسر كتابة المنتصر, ساردا حكاية الاستعمار وتقنياته السلطوية, التي تساوي النهب بالقدرة, وتقسم الأجناس البشرية إلى مراتب. تسرد <<مدن الملح>> حكاية المغلوب وتواجه الكتابة المنتصرة بكتابة أخرى, محدثة عن تعددية ثقافية وعن تعدد إنساني في الرؤى والتصورات والاختيارات. بهذا المعنى تنطوي <<مـدن الملح>> على روايتين: رواية أولى تواجه الرواية السلطوية بمنظور آخر, كتبـه راو نزيه نيابة عـن الذين لا يحسنون الكتابة, ورواية ثانية تواجه <<رواية الشمال>> بـ<<منظور جنوبي>> يندد باحتكـار الكتابة وتقنين وجهات النظر. بدأ عبدالرحمن منيف من الإنسان العربي المقيد وقرأ محنته في طبيعة السلطة المستبدة. وحين أثاره عنف المستبد وعسفه عاد إلى الوراء قليلا, مستجيرا بالمعرفة التاريخية والرؤى البصيرة, إلى أن وقع على ثنائية <<التخلف والاستبداد>> في موقع تاريخي حديث عنوانه: النفط والاستعمار. صاغ الروائي الراحل سيرة السلطة النفطية الموسعة من وجهة نظر غير سلطوية, فأعطى المغلوبين والمهمشين واللا ممثلين مكانا واسعا, وأفرد موقعا للترقب والانتظار والأمل. ولهذا فإن <<مدن الملح>> تنطوي على تاريخيين: تاريخ سلطوي صريح مليء بالنقاط العمياء, وتاريخ شعبي مضمر ومرغوب, قد يأتي وقد لا يأتي, دون أن يغيب. وعن هذا الوضع, الذي يحتمل التحقق وعدم التحقق, انبثقت شخصيات متكاثرة متوالدة, اختزل وجودها إلى أسمائها, إذ في الاسم ما يحترم المسمى, وإذ في غياب الملامح ما يعرب عن <<مستقبل قيمي>> هو احتمال لا أكثر. تعلن الشخصيات المتناسلة عن جمالية القيم ونسبيتها: فهي جميلة لأنها تحيل على صحراء نقية مسكونة بالبراءة, وهي نسبية الجمال لأنها ظلت رهينة زمن طبيعي معطوب, يقصر, رغم جماليته, عن مواجهة الزمن التقني الذي يساوي بين القيم والانتصار. 4 - ذاكرة التاريخ أو التاريخ كذاكرة أخرى: قال <<بوركهارد>> ذات مرة: <<إن التاريخ ما تحكم حقبة أنه جدير بأن يحتفظ به من حقبة أخرى>>6). يشير القول إلى التحول الذي لا يكون التاريخ إلا به, فالراكد لا يحتاج التاريخ ولا يحتاج الأخير إليه, ويشير أيضا إلى أحداث متناظرة تتوزع على حقب تاريخية متعددة. تأمل منيف مصير <<العراق>> الذاهب إلى الغرق وارتد من حقبة إلى أخرى, متأملا المأساوي المشترك في نهاية القرن العشرين ومطامع القرن التاسع عشر. وترجم هذا التأمل, الذي لا مسرة فيه, في رواية <<أرض السواد>>, الممتدة على ثلاثة أجزاء في ألف وخمسمائة صفحة تقريبا. وضع منيف في روايته هذه <<تاريخ المهزومين>>, الذي إن لم تحرسه الذاكرة سقط في النسيان وانفتح على هزيمة مفتوحة. ساءلت <<أرض السواد>> فترة محددة من تاريخ العراق الحديث, حدودها الربع الأول من القرن التاسع عشر, وما يزيد عليه قليلا. وهي في خيارها, المحدد المكان والزمـان والشخصيات, تتكئ على الوثيقة التاريخية, وتعطيها كتابة أخرى وتأويلا مختلفا. لكنها, وهـي تحول الوثائق المتعددة إلى رواية, تمحو الحدود بين الرواية والرواية التاريخية. فلا تكون الرواية تاريخية إلا حين لا تكون رواية على الإطلاق, ذلك أن الرواية, مهما كان لونها, تبدأ من الإنسان لا من غيره. توجه منيف إلى قارئه واضحا, راجعا به إلى الماضي وإلى مكان لا يخطئه أحد, له أنهاره وأقاليمه ومعتقداته وعاداته... تضيء الرواية موضوعها زمنيا حين تومئ إلى <<نابليون>> وهو يهرب من جزيرته ويعود إلى جزيرة أخرى لن يهرب منها أبدا. وإضافة إلى الإمبراطور الفرنسي المخلوع الذي استقر في منفاه عام 1815, تأتي أصداء محمد علي العالية, التي توقظ في ذاكرة موظف عثماني في بغداد, جورجي الأصل اسمه <<داود>>, أحلاما كثيرة. إذا كان عبدالرحمن قد وزع الزمن الكوني اللامتجانس في <<مدن الملح>> على <<متعب الهذال>> الذي استجار بصحراء أجارته, وعلى <<هاملتون>> المشغول باكتشاف ما تبطنه الأرض لا بما يسعى فوقها, فإنه يوزع الزمن في <<أرض السواد>> على <<داود باشا>> الموظف العثماني الذي ولي أمور بغداد بين 1816 - 1832, وعلى القنصل الإنجليزي <<ريتش>>, الذي عمل على <<اكتشاف>> ما يرقد تحت الأرض وما يجري فوقها. والنـزال بين الطرفين, وهو قوام التراجيديا التاريخية, ضروري, ومآل النـزال واضح, فالوسائل التي يأخذ بها القنصل أكثر ملائمة وموافقة وفاعلية من تلك التي يأخذ بها الموظف العثماني. فقد حمل <<داود>> طموحه معزولا ومنعزلا, بعد أن فتنته شخصية نابليون وأعجب بمنجزات محمد علي باشا, أي أنه أخذ بنموذج جديد من خارج بيئته, على خلاف القنصل الذي ينحدر من نسق من القناصل أحسنت هندسته وأتقن تعليمه. لهذا يحمل الموظف العثـماني طموحا مفردا, كلما تقدم أثقلت حركته حاشية بليدة, فإن أحسن التقدم اصطدم بجماعات متنافرة لم تصبح بعد مجتمعا. على خلاف ذلك يأتي الموظف الإنجليزي مرتاحا, فقد أتقن اللغة العربية, كي لا يحتاج إلى وسيط, وانتسب إلى علم جليل هو <<علم الآثار>>, الذي يمك ن <<الحضارات الحديثة>> من اكتشاف <<الحضارات البائدة>>. ينتصر الإنجليزي بالنسق الذي ينتمي إليه, سواء كان قنصلا لامعا أو قليل اللمعان, وينهزم الموظف العثماني بنسقه أيضا, سواء كان موظفا بليدا أو تصادت في مخيلته أطياف نابليون ومحمد علي باشا. والفرق بين الطرفين يتجلى, إشاريا, بالطفلة الجميلة المعوقة, التي حاول والدها <<داود>> علاجها بكل الوسائل دون أن يفلح, حالها كحال والدها, الذي ك تبت عليه الهزيمة منذ البداية, لأنه حاول مشروعا تحديثيا في مجتمع تقليدي, متكئ على أدوات سلطوية صدئة ونخرة. يقدم ريتش, ممثل الإمبراطورية البريطانية, ذاته بأشكال متصاعدة متلاحقة, تقنع <<الإنسان العثماني>> بضرورة الخنوع والامتثال, وتخبره أنه مهزوم إن قبل وإنه أشد هزيمة إن رفض وتمرد. لذا يعرض أولاً مهارته الذاتية, فهو <<عالم الآثار>> وهو <<الغربي>> الذي يتكلم العربية والتركية والفارسية. يلي <<العرض اللغوي>> عرض أكثر غرابة, يتضمن العربة القنصلية والطواويس الملونة والفيلة الهائلة الأقرب إلى <<الجبال المتحركة>>. لكن جوهر العرض الحقيقي هو <<قطع الأسطول البريطاني التي شاركت في هزيمة نابليون>>, والتي بإمكانها أن تلحق هزيمة ساحقة بـ<<الموظف العثماني>> الذي يهجـس بسلطة حديثة. إن مأساة الأخيرة مزدوجة: فهو يواجه زمنا أوروبيا متفوقا, وهو يعتمد على جهاز متداع ومجتمع فقير أدمن <<ثقافة الأدعية>>. وهذان العنصران يجعلان من <<داود باشا>> بطلا تراجيديا, يتدثر بعزلته ويذهب إلى مآله المشبع بالإخفاق والخيبة. ولذلك يكتب عبدالرحمن, في الجزء الثالث, صفحات بالغة الجمال عن فيضان عنيف لا تمكن مجابهته, يستنفذ طاقة الشعب القليلة, ويعلن عن قدوم فيضان أشد خطرا, قوامه الأوامر الإنجليزية الظالمة المحصنة بالمدافع الحديثة. تحدثت <<أرض السواد>> عن تراجيديا العقل التحديثي في بلد متخلف, وسردت أولا وجوها من ذلك النـزال القديم بين الغرب المنتصر والشرق المهزوم, الذي يفرض على المنتصر أن يؤبد هزيمة المهزوم, كما لو كانت ديمومة انتصار طرف لا تستوي إلا بديمومة هزيمة الطرف الآخر. ليس غريبا, إذن, أن تكون <<أرض السواد>> رواية - ذاكرة ورواية من أجل الذاكرة ورواية تاريخية في آن: رواية تاريخية هي لا بسبب موضوعها الذي يقـع في ماض ذهب, بل لأنها تتأمل سياقات تاريخية متعددة, متوسلة فعلا استعماريا لا يتغير, يرى ديـمومة تفوق <<المركز>> في ديمومة هزيمة <<الأطراف>>. وهي رواية - ذاكرة, لأنها تضع القارئ أمام الـسلطة التي تمكر بـ<<ابن الشعب الطيب>>, وقد جسده منيف في شخصية <<بدري>>, الذي تمثل فنيا في <<رواية في رواية>>, كما قال المؤلف, وأمام حـاشية السلـطة التي تمـكر بالسلطة, وأمام <<القنصل الأجنبي>> الذي يمكر بالجميع. بهذا المعنى, فإن منيـف يره ن الذاكـرة, ويؤكد أن التاريخ ذاكرة أخرى, وأن الرواية تعيد كتابة التاريخ كي تصبح ذاكرة شعبية أخرى. فإذا كان التاريخ ذاكرة أخـرى, يعبث المنتصر بسطورها ويشوه المتسلـط المهزوم سطورها ثانية, فإن الرواية, من حيث هي منظور ينصر المقموعين ويـندد بنقائضهم, هي التي تشتق من التاريخ ذاكرة شعبية صحيحة, ترى إلى مستقبل لا مكر فيه ولا اغتراب. انشغل عبدالرحمن منيف, الذي روعه التداعي العـربي بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982, بتأمل <<الذاكرة الوطنية>>, مقارنا بين الأمس واليوم, وناقدا الموجود بما هو واجب الوجود. وكان في ذلك يكتب عن المهمشين والمحرومـين والمغبونين واللا ممثلين, بلغة إدوارد سعيد, مساويا بين انتصار الاستعمار وانتصار <<الذاكرة السلطوية>>. 5- التاريخ والتقنية الحكائية: أنهى عبدالرحمن روايته <<النـهايات>> بحكايات عن طبائع الحيوانات, تحيل على موروث عربي, احتقب كتبا كثيرة أكثرها شهرة كتاب الجاحظ: <<الحيوان>>, مثلما أنه أدرج في <<مدن الملح>> حكايات عن السلطة والحاكم, مستمدة بدورها من كتب عربية قديمة. وواقع الأمر أن منيف, الذي انتقل من <<السياسة>> إلى سياسة الأدب, كتب حرا ما شاء أن يكتب, مكتفيا بثقافة عربية واسعة, دون أن يهجس بمحاكاة <<الرواية الأخرى>>, أو أن يرى في الإبداع الأوروبي نموذجا له. ويعطي عمله الكبـير <<مدن الملح>>, كـما روايته <<أرض السواد>>, مجالا واسعا لتأمل تقنيته الفنية, التي يستظهر فيها موروثا ثقافيا عربيا, والتي تعمل أيضا على إدراج هذا الموروث في البنية الروائية, دون تعمل أو تكلف. اتخذ منيف من الحكاية خلية فنية أولى وأقام روايته على متواليات حكائية, تتوزع على المكان والمواضيع والبشر, إذ لكل موضـوع حكايته, وإذ مجموع المواضيع جملة من الحكايات المتلاحقة. تلعب الحكاية, وهي موروث عربي بامتياز, ثلاث وظائف: فهي موقع توليدي مفتوح كل حكاية فيه تفضي إلى حكاية لاحقة, كما لو كان في الحكاية ما يعبر عن النماء والتطور والتشجر, وهي فعل يـندفع زمنيا إلى المستقبل ويرى مآله وتحققه في المستقبل لا في الماضي, وهي حوار مع جمهور الحكاية الذي يأتلف مع العقل الشفهي أكثر مما ي قبل على العقل الكتابي. وقد يقال إن في كتابة منيف تقنية شهيرة هي: <<حكاية في حكاية>>, التي يرى فيها البعض خصوصية عربية. غير أن هذا الكلام لا يحمل كثيرا من المعنى, فحكاية منيف تشتق من حكاية الجمهور, لأن الروائي لم يفصل أبدا بين <<قوة الحكاية>> و<<قوة الجمهور>>, ولم يتخل أبدا عن شعاره المستمر عن <<الهنا والآن>>. ولهذا لم يذهب منيف إلى التراث, بالمعني الشكلاني, بل حمل التراث إلى الراهن وأدرجه في بنية كتابية حداثية هي: الرواية. ومع أن ما كتبه منيف يحتمل اجتهادات كثيرة, تتحدث عن التصور السياسي للأدب والتصور الأدبي للسياسة والتحريض والتعويض, فإن الجوهري في هذا كله هو: الذاكرة التي تواجه الموت, حيث الكتابة ذاكرة وفعـل مـادي يواجه الموت ويغالب النسيان. ما العلاقة بين الكتابة والذاكرة, وما دور الذاكرة المكـتوبة في التاريـخ? يستيقظ مرة أخرى سؤال عبدالرحمن القديم عن الفرد المغترب الذي أرهقته السلطة, والذي عليه أن يبتكر أكثر من ذاكرة ليصبح حرا, وأن يقارن بين حقبة تاريخية وأخرى, قبل أن يطرح سؤالا ... واجه عبدالرحمن الذاكرة العربية الراهنة بتاريخ قريب, محرضا القارئ على قراءة حاضره في ماضيه, وعلى اقتفاء الآثار الواصلة بين زمنيين مستمرين إلى تخوم التجانس. غير أنه, وفي مستوى آخر, واجه الحكاية العربية بالرواية, مبرهنا أن الحكاية القديمة <<تـترهن>> حين ت درج في منظور للعالم جديد. تفسر المعرفة الحديثة ما سبقها ويزهر القديم إن عولج بوسائل حديثة, على خلاف الحديث الذي يمتثل إلى إرادة الماضي ويموت. إشـارات: 1- النهايات: المؤسسة العربية للدراسات والنشر, الطبعة العاشرة, 1999. 2- فيصل دراج: الرواية وتأويل التاريخ, المركز الثقافي العربي, بيروت, 2004. (انظر الفصل الخاص بعبدالرحمن منيف ص: 211ـ 287). 3- حين تركنا الجسر: المركز الثقافي العـربي - المؤسـسة العربـية, الطبعـة السابعة, 1999. 4- مدن الملح: المؤسسة العربية, 1985. 5- كارل بي. شورسكه: فيينا أواخر القرن التاسع عشر, دمشق 1999, ص:12. 6- عبدالرحمن منيف: أرض السواد, المركز الثقافي العربي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بـيروت, 1999. فيصل دراج عن مجلة «نزوى»


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني