PCP

يا عمال العالم اتحدوا

إلى المتماوت معين بسيسو

معين بسيسو من الصعب إضافة جديدٍ إلى ما قيل ويقال عن معين بسيسو، ومن الأصعب تجاوز ذكرى قامةٍ فارهة كقامته، في مجال النضال الوطني والديمقراطي والتقدمي، الإشكالية التي أخرجتني منها قصيدة سميح القاسم (إلى المتماوت معين بسيسو)، وخصوصاً بعد أن اقتفيت أثرها طويلاً على صفحات الشبكة العالمية فلم أجد إلا آثاراً متناثرة لأشلاء منها، مما شجعني على افتراض عدم اطلاعكم عليها، وشحذ ذاكرتي لإزالة الغبار عن القصيدة الوحيدة المحفورة في وجداني، منذ خمسة و عشرين عاماً، في وقتٍ كنت فيه بعيدةًَ آنئذٍ عن عالم الشعر، ناهيك بحفظه، وجاهلةً أيضاًً، فوق هذا وذاك، لمن يكونه معين بسيسو، الإنسان الذي ُنظمت القصيدة على شرفه. والآن بعد هذا الزمن الطويل، أتلمس ملامح ذلك الإنسان وأوغل أكثر في سيرة حياته لأجد جواباً لسؤالي لماذا (إلى المتماوت معين بسيسو)؟ فأجد الرد في شعره: وأرعد بصوتك يا عبيد الأرض هبوا للنضالْ يا أيها الموتى أفيقوا إن عهد الموت زالْ الإنسان الذي كان السفر بين المنافي والسجون، سمةً صبغت حياته على امتداد ستة وثلاثين عاماً، من غزة إلى القاهرة وبغداد وموسكو وغيرها من مدن العالم، واستقراره في بيروت عام 1970، وتركه إياها مرغماً في 1982، ليعيش بقية حياته في لندن، ويُتوفى فيها، هو الإنسان الذي أسره القاسم همساً: (سفرٌ سفرْ موجٌ يترجمني إلى كل اللغات وينكسرْ موجٌ على كل اللغات وانكسرْ سطرٌ سطرْ كلاب البحر أشرعة السفنْ وطن يفتش عن وطنْ الهدهد المخصي حاجبه وكاتبه ذبابة يعلو الهمس رُويداًً، لترتفع نبرة القاسم، فالسكين قاربت الوريد، وصديقه الذي شكا يوماً: (إن السباحة في نقطة حِبرٍ أكثر خطورةً من السباحة في البحر) هو أكثر من يعي شكواه: (يامن يعلمني القراءة و الكتابهْ وأنا النبي ولا صحابهْ يا من يسمنني بأجنحتي وأشرعتي لسكين الرقابهْ تحيا الكتابة.. تحيا الرقابة.. يحيا على فمها الحجرْ لا تلبث نبرة القاسم المرتفعة أن تتسارع باضطراب مع اختلاط الأحداث وتضاربها، لترسم صورة سريالية للوضع، شبيهة بسريالية نظم معين بسيسو لقصائد شعرية في مديح جمال عبد الناصر رغم سجنه في الوقت ذاته في المعتقلات الناصرية بسبب قيادته لجماهير غزة الرافضة للتوطين في سيناء، والمطالبة بالتسلح لمحاربة الصهاينة، الصورة السريالية المقابلة التي قادنا إليها القاسم باقتدار ربانٍ محترف: (فشرطيٌّ على الأكتاف قد ركبَ وشرطيٌ على الأكتاف قد نزلَ وشرطيٌ على جاويشه انقلبَ وجاويشٌ على جنراله قلبَ ومخصيٌ على المخصي قد وثبَ وأنجب منه العجب ولا عجبَ) ويواصل القاسم بصوتٍ خافتٍ بما يشبه البوح على استحياء، ليضع إصبعه برفقٍ على مكمن الألم، فالجرح جرحه والعرب عربه: (هُمو العربُ هُمو العربُ وقلبي في يدي جرسُ يدق فيعلن العسسُ انقلابٌ اسمه القدسُ ومعتمدٌ ومعتضدٌ وألقابٌ وأندلسٌ ولا قدسُ" لم تكن القصيدة مرثية لذات الفقيد بسيسو، بل كانت في حقيقة الأمر رثاءً للذات، إذا أجيز التفريق بين الذاتين بسيسو والقاسم، بحسبان أن ظروف القهر عادةً ما توحد ذواتنا، على النحو الذي حدث مع شاعرينا، فنظمت القصيدة بلسان القاسم وإلهام بسيسو: (فسيوف الحاكمين حول الكُنافة والرصافة ساهرهْ وجيوشهم جرارهْ لا لتحرير موقعٍ أو مسجدٍ أو زهرةٍ بريهْ وإنما لسجن مظاهرهْ ولقتل طفلٍ ما درى أن الحنين إلى أبيه مؤامرهْ) وبالحقيقة الصادمة (مؤامرة الحنين) يعترف القاسم في نهاية القصيدة، بواقعة موت صديقه في لندن، ورفض إسرائيل دفنه في غزة، بدعوى أنه مخرب، ونقل رفاته إلى تونس وبقائه فيها أربعة أيام حتى انتهاء منظمة التحرير من محادثاتها مع القيادة المصرية ليُصرح أخيراً بدفنه في القاهرة، إنه عذاب ما بعد الموت في رحلته إلى القبر، الأمر الذي زاد فجيعة القاسم بصديقه فاستحضره مخاطباً: (تواضعْ باسم ربٍ بارك السكين كي تقتلكْ الممهل من أزل الى أبدْ براك وأهملكْ وتريد قبراً مثل من ماتوا وهل عشنا كمن عاشوا وهل متنا كمن ماتوا حاولت سامحني و أقسم لن أسامحهم حتى آخر آخرهْ). وأخيراً، وعلى ما يبدو آخراً، لا أجد حرجاً بتبني وصية السيد مأمون هارون الرشيد من جريدة الصباح الفلسطينية، المنادي بلمسة وفاء في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل بسيسو، داعياً اللجنة المشرفة على احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009 , أن تعمل على تكريم هذه القيمة الوطنية، الإنسان المبدئي الذي ظل شيوعياً مناضلاً حتى الربيع الأخير من حياته: أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ واحملْ سلاحي لايهبكَ دمي يسيلُ من الجراحْ الإنسان الوطني الرحب، الذي قدم رفقاءه الفكريين، وبضمنهم الإخوان المسلمون بكل الاحترام و الإنصاف، مؤمناً بأن الوحدة الوطنية الفلسطينية حصن تتكسر عليه كل المؤمرات: فلنختلفْ ولْتتسعْ كل الدوائرْ وإذا انقسمنا كل دائرة هي القبرُ الذي يلدُ المقابرْ الإنسان المثل الذي ربط أقواله بالفعل الثوري، صائحاً من جذور قلبه: (الآن، خذي جسدي كيساً من رمل)، فأصدر مع الشهيد (علي فودة) جريدة (على الرصيف)، ووزعها على المقاتلين في خنادقهم في بيروت 82، لتزيدهم ثباتاً وصموداً. إن الإنسان الذي خاض معارك الثورة، وأرَّخها شعراً، أغنى فيه الشعر الفلسطيني بزخمٍ هائلٍِ من القيم الإنسانية النضالية، حُق له علينا بعض وفاء. ناديا حلمي


حقوق الملكية © للحزب الشيوعي الفلسطيني